أحجية الإرهاب.. واستهداف السعودية

ملف في مجلة «المجلة» تنشر ملخصه {الشرق الأوسط} حول الظاهرة.. من تقلبات الأصولية إلى «داعش»

عناصر من قوات الأمن السعودي يعاينون حطام سيارة فجرها اعضاء من تنظيم القاعدة (أ.ف.ب)
عناصر من قوات الأمن السعودي يعاينون حطام سيارة فجرها اعضاء من تنظيم القاعدة (أ.ف.ب)
TT

أحجية الإرهاب.. واستهداف السعودية

عناصر من قوات الأمن السعودي يعاينون حطام سيارة فجرها اعضاء من تنظيم القاعدة (أ.ف.ب)
عناصر من قوات الأمن السعودي يعاينون حطام سيارة فجرها اعضاء من تنظيم القاعدة (أ.ف.ب)

ما الدولة التي جرّبت كل أنواع الإرهاب الديني والسياسي والفكري، وتم استهدافها من كل المجموعات المتطرفة سنيها وشيعيها سواء تلك التي تؤمن بالتغيير الجذري المسلح أو الأخرى التي تحمل مشروعا انقلابيا ناعما ومتدرجا، أو تلك التي ما زالت تراوح مكانها منتظرة لحظة فاصلة لآيديولوجياتها الفاشلة لكي تعود مجددا للحياة والتأثير على الأرض؟.
الإجابة بلا شك، المملكة العربية السعودية منذ أن كانت إمارة في الدرعية وحتى الآن باعتبارها أكثر الدول العربية والإسلامية تأثرا وتأثيرا ليس باعتبارها قبلة دينية فحسب، وإنما علامة فارقة على المستوى الاقتصادي المنفتح بلا هوادة على الأسواق العالمية والسياسة الخارجية المعتدلة والحذرة، والمجتمع المحافظ في مجمله الذي لم يعرف الانتماءات السياسية، إلا أنه مر بتحولات كثيرة كانت في مجملها تقلبّات لا واعية في أحضان الأصولية منذ الجماعة المحتسبة وحتى داعش وبينهما الإسلام السياسي والإخوان والسرورية والتكفيريون والسلفيات بأنواعها، كما عرفت الأقليات الدينية مثل هذا الاختطاف الهويّاتي، إلا أن غالبية السعوديين في المجال العمومي يطمحون لاستمرار دولة الرفاه والاستقرار رغم كل العثرات والأخطاء وتقلبّات الظروف السياسية المختلفة والمخاطر المحدقة بدولة استعصت على التصنيفات الجاهزة وخالفت كل التوقعات، وما زال لديها الكثير.
في المعركة مع الإرهاب والتطرف لا يمكن تصور الكمال؛ هناك أخطاء ونقص وطموحات لم تأخذ طريقها للتفعيل، ربما!
لكن الداخل السعودي ممثلا في القطاعات الأمنية ومعاقل القرار والنخب السياسية ينطوي على الكثير من الفعالية والعمل والحراك غير المسبوق في ملف «الإرهاب» نحاول أن نرصد أطراف شتاته في هذا الملف الذي يستهدف توقيتا حرجا، تعيد فيه جهات مشبوهة وأخرى مستلبة ثنائية «السعودية والإرهاب» بعد أن كان المراقبون يعتقدون أن 2003 كانت نقطة فاصلة في تكريس السعودية المستقرة رغم رياح التغيير كأخطر هدف لمرمى الإرهابيين على اختلاف أهدافهم. وهذا ملخص لملف موسع نشرته الشقيقة مجلة «المجلة» في عددها الذي طرح هذا الأسبوع في الأسواق.
صيحة نذير
والسؤال الذي يفرضه هذا البحث عن لغز الإرهاب والسعودية استهدافا وتأثرا وتأثيرا يأخذ مشروعيته من صيحة النذير التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز مؤخرا معاتبا المجتمع الدولي والدول الكبرى، وحتى علماء الشريعة الصامتين، كانت تستحضر هذا التحول في مسيرة الإرهاب، التي وصف الحرب عليها ذات مرة بالطويلة جدا، فالدول التي تحول الإرهاب فيها من عرض مرضي ورد فعل زمني أو حدثي كثيرة جدا في أفريقيا وباكستان وأفغانستان ودول القوقاز، وحتى الكثير من الدول الغربية التي تنشط فيها حركة تجنيد غير مسبوقة.
هناك مفارقة ثابتة منذ بدايات تأسيس المملكة العربية السعودية، بحكم موقعها الجغرافي وتبنيها نظام حكم قائما على الشريعة الإسلامية، وهي أن كل المنعطفات التاريخية التي مرّت بها المملكة كانت تتقاطع مع «العنف» أو التشدد الديني أو الإرهاب.
فإرهاب اليوم ليس كسابقه فهو الآن يحضر كأداة سياسية ومكون اجتماعي، وليس مجرد فعل لأشخاص مغرر بهم يسعون إلى الانقياد غير الواعي نحو شعارات آيديولوجية كما هو الحال في عنف الثمانينات المصري المرتبط بالعلاقة مع النظام أو عنف الداخل الذي اتخذ طابع العنف العقائدي وليس السياسي، إذن كيف بدأت القصّة محليا ؟
الحوار أولا
سبقت خطوة الملك التشريعية والقرار التاريخي في مواجهة الإرهاب خطوات كثيرة قبل سنوات أعلن الملك عبد الله خطوة مفاجئة قفزت على الواقع المرير لـ«الطائفية» آنذاك حين التبست مفاهيم المقاومة بالأحزاب المتطرفة التي تسعى إلى تقويض مفهوم الدولة القطرية أو بتحويل نفسها إلى دول داخل دول كتجربتي حزب الله والحوثيين الشيعيتين، حيث وجدت الأولى طريقها للتعاطف بفعل استغلال الإسلام السياسي السني ممثلا في الإخوان لمواجهات الحزب ومن بعده حركة حماس لإسرائيل، إلا أن دعوة الملك عبد الله للحرب على الطائفية والإرهاب في آن واحد استحضرت حالة الالتباس بين الطائفية الدينية وطائفية أكثر خطرا منها وهي الطائفية السياسية وتصدير التشيع السياسي الذي ليس له علاقة بنظيره العقائدي وإن كان رافعا له ومحفزا لإعادة نتائجه، شهدنا في السابق تصريحات لكثير من جماعات الإسلام السياسي انحازت للتشيع السياسي وإن كانت سنية العقيدة إن على مستوى الأفراد كما صدر عن المفكرين السعوديين والعرب في حرب لبنان الأخيرة أو من قبل على مستويات كثيرة من قبل اليسار التقليدي وحتى اتجاهات مكافحة العولمة و«الإمبريالية الغربية» التي تبناها مع اليسار فئام من الناصريين والقوميين العرب.
تذويب الطائفية
وإذا كانت هذه الخطوة لتذويب «الطائفية» عبر التأكيد على مفهوم المواطنة السعودية للجميع قد قوبلت بترحيب شديد من قيادات إسلامية وعدد من الجهات الدولية إلا أن تأثيرها كان أكبر في أبناء الطائفة الشيعية من السعوديين الذين رأوا في طرح الملك عبد الله لمسألة الحوار ليس فقط بين المذاهب وإنما الأديان نقطة انطلاق مشجعة وسرعان ما انعكس ذلك على الواقع، فكلنا يتذكر البيان الذي أصدرته طائفة من علماء محافظتي القطيف والأحساء بعد أحداث العوامية الأخيرة، وتكمن أهمية هذا البيان في الجانب السياسي حيث عد بمثابة إعادة إنتاج العلاقة مجددا مع مراعاة المتغيرات على الساحة ما بعد «الربيع العربي»، فالمواطنون الشيعة في السعودية تقدموا بخطوة شجاعة كرد فعل على سنوات من التأسيس لمفهوم الحوار الوطني والحرب على التطرف من الجميع وكانت كلمة علماء القطيف هذه المرة صادقة لا تعرف الخداع أو المواربة وأقتبس منهم: «التطرف لا يحل مشكلة ولا يحقق مطلبا، بل يزيد المشكلات تعقيدا ويحقق مآرب الأعداء الطامعين». ويضيف في لغة تسمي الأشياء بأسمائها: «لقد بليت مجتمعات الأمة في هذا العصر بجماعات وتيارات متطرفة تمارس الإرهاب والعنف تحت عناوين دينية وسياسية، والدين بريء من الإرهاب، والعنف السياسي يدمر الأوطان».
كلمات مثل هذه لا يمكن عزوها إلى الخوف أو التزلف قدر أنها استجابة لتحولات حقيقية في قراءة المشهد من الداخل واستهداف الخارج للبلد الذي يشترك الجميع في الانتماء إليه.
تاريخ مزور
بالعودة إلى استراتيجية السعودية الجديدة تجاه الإرهاب لا يمكن القفز على منحنيات وعرة تاريخيا حيث إنه كلما ترسخت مواقف المملكة تجاه العنف يحاول البعض إعادة الحديث عن مرحلة أفغانستان وما يقال عادة عن خلق الوحش الإرهابي قبل أن يتعملق وتصيب أظافره الجميع.
يمكن القول إن نواة الإرهاب الحديث تشكلت مع بدايات تجربة «الجهاد الأفغاني» بين مزدوجتين ضروريتين لتمييزها عن المراحل اللاحقة التي تلتها، باعتبارها مرحلة مختلطة ضبابية تمثل ارتباك البدايات سواء للمجموعات المقاتلة وصولا إلى الدول المستفيدة والداعمة وانتهاء بفقدان السيطرة على تلك المجموعات، ومن ثم تغولها باتجاه الاستقلالية ليست التنظيمية فحسب، وإنما الفكرية وعلى مستوى المرجعيات الدينية والانفصال عن الجسد الإسلامي بشكل عام وهذا ما لا تتم قراءته بدقة في تقييم تلك المرحلة التي كان من السهل فيها السيطرة على المجموعات الجهادية بحكم المشايخ الشرعيين قبل الانفصال الكبير حين انتقلت «القاعدة» إلى الجهاد الأممي ثم العالمية، وقبل الانهيار الكبير لجماعات العنف وتفريخ نماذج أكثر تطرفا أنتجها واقع جديد.
تحولات زمنية
منذ الثمانينات وبدايات تشكل ظاهرة «المقاتلين» العابرين للحدود بعد انتهاء تجربة أفغانستان وتشكل فكر «القاعدة»، ظهرت تحولات جذرية في علاقة الإسلام السياسي ومن ورائه «الصحوة» برموزها بهذه الظاهرة من التأييد المبكر إلى اعتبار أن ما يحدث خديعة سياسية كبرى للتخلص من الشباب المجاهد، إضافة إلى أن أسلوب التغيير أو المشروع الانقلابي بين الفريقين مختلف؛ الأول يعتمد على الهرم المقلوب، البدء بتغيير السلطة بشكل عمودي ومباشر، بينما يسعى الإسلام السياسي إلى بناء قاعدة جماهيرية قادرة على التغيير والانتشار الأفقي، ومن هنا كان كل من الطرفين ينظر إلى الآخر على أنه يقوم بدور تكاملي في الحرب على الغرب والأنظمة المتحالفة معه، وكانت لحظة الاقتتال بين الأحزاب في أفغانستان هي لحظة انفصال المدارس السلفية التقليدية عن المشهد وبداية الصدام مع الصحوة و«القاعدة» الذين تقاسموا آليات العمل، لكنهم اختلفوا في الوسائل ليتحدوا مجددا مع حرب الخليج في ضرورة التغيير مع اختلاف الطرائق، ولاحقا صعدت قوى الصحوة في مرحلة ما بعد حرب الخليج، بينما تراجعت «القاعدة» لتلم شتاتها وتنفجر مجددا بعد أفول الصحوة واقتراب المرحلة الثالثة، وهي الإرهاب المعولم الذي اكتمل في الحادي عشر من سبتمبر لينقسم المشهد إلى ثلاثة تيارات رئيسة: الخطاب الديني التقليدي المضاد للصحوة ولـ«القاعدة»، والخطاب الصحوي - الإسلام السياسي المبرر لـ«القاعدة» والمضاد للمدرسة السلفية التقليدية، و«القاعدة» المنفصلة عن الإسلام التقليدي والمكفرة لرموزه، والمتحالفة مع الإسلام السياسي في الرؤية والمختلفة في آليات العمل، فهم يحتكمون إلى النظرية ويختلفون في آلية العمل: تحضر حاكمية سيد قطب والولاء والبراء ودار الكفر والإيمان.. إلخ، ولكن يرى «القاعديون» أن الغرب والأنظمة لا يفهمون إلا لغة القوة، بينما يرى الإسلام السياسي، أن المواجهة خطأ استراتيجي، وأن المشروع الانقلابي يستهدف تكوين قواعد اجتماعية مؤثرة من شأنها اختراق كل مؤسسات الدولة وصحونتها، ثم يجري الضغط على الأنظمة عبر «التبرير» للإرهاب بأن الحالة السياسية هي السبب في محاولة إلى استثمار إرهاب «القاعدة» للضغط على الأنظمة، ولو عبر إظهار الاعتدال ومفاوضة الإرهابيين وحتى التحول إلى «وسطاء»، وربما تتبع موقف «القاعدة» ذاتها من رموز الصحوة يؤكد ترسيمة ما بعد 11 سبتمبر التي حددت أضلاع مثلث «العنف المسلح». فالمفجرون، وهم غالبا شباب في بحر العشرين، لم يخوضوا تجربة الإسلام السياسي، لكنهم تأثروا بخطابه والمناخ العام المضاد لمفهوم الدولة، ووضع «المنظرين» وهم قيادات «القاعدة» الشرعية، وفي مجملها هي مرتدة من تجربة الصحوة والإسلام السياسي بدءا من أبو مصعب السوري، ومرورا بأبو محمد المقدسي، وصولا إلى أبو قتادة وأبو بصير والقيادات المتأخرة التي شنت على رموز الصحوة الحرب بسبب مواقفها البراغماتية والمصلحية من المواجهة مع الأنظمة، إلا أن الرؤية التكاملية خففت من تلك الحرب الشعواء باعتبار أن الإسلام السياسي باع المجاهدين بثمن بخس وهو «السلطة».
الانفصال بين الإرهاب والأصولية
ما حدث بالضبط أن حرب الخليج أسهمت في انفصال وانشطار الذات بين الإسلام السياسي و«القاعدة» سببه اختلاف الوسائل مع اتحاد الغايات، إلى أن جاءت لحظة 11 سبتمبر وقررت «القاعدة» المواجهة العالمية والتحول إلى ظاهرة عابرة للقارات، فانفصل عنها الإسلام السياسي حفاظا على مواقعه الاجتماعية ومكتسباته على الأرض ونفوذه في الكثير من المؤسسات والمواقع، لكنه أمسك بخيط «التبرير» مع كل حادثة إرهابية لتذكير الأنظمة السياسية بأنها تحصد خطيئتها السياسية بعدم إشراك الإسلام السياسي وتقديم نفسها كبديل للإسلام المعتدل اعتمادا على قاعدة جماهيرية وضمور وضعف أصحاب التيار السلفي التقليدي في مواجهة «القاعدة» لأسباب تتصل بملفات عقائدية وفقهية ما زالت عالقة بين الأطراف جميعها لم يجر حسمها على مستوى النظرية على الأقل حتى الآن، وهذا جزء من ترهل الإسلام السني المعاصر بسبب غياب المرجعية الدينية عن التأثير واختلافها فيما بينها واختراقها وتسييسها.
مواجهات مبكرة
قصة التطرف والأصولية ولاحقا الإرهاب بدأت مبكرا مع السعودية ويمكن إرجاع بذورها التاريخية إلى اللحظة الحاسمة التي اصطدم فيها الملك المؤسس مع مجموعات راديكالية عقائديا، وصولا إلى لحظة «جهيمان»، وهي مرحلة فاصلة انتقل فيها التشدد الديني من المعارضة إلى استهداف بنية الدولة، ولاحقا لحظة حرب الخليج الفاصلة، التي كانت السعودية فيها على مفترق طرق، إلى أن جاء القرار الحكيم من العاهل السعودي آنذاك الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله)، الذي جنب به المنطقة كارثة كانت محدقة.
في الطور الثاني من الطريق الطويل في المواجهة مع التطرف، جاءت موجة «القاعدة» لتدشن عصرا جديدا من المواجهات، منذ تفجيرات الرياض 1994، التي كانت (بلا شك) انعطافة خطرة في المعركة مع الإرهاب، حيث حضر هذه المرة، اسما ومعنى وحقيقة، وكان من المهم حينها أن تخرج الدولة من التعامل مع الأزمات، عبر ردود الفعل، إلى استراتيجية مبنية على قراءة دقيقة للحالة.
سعودة العنف
في كل حادثة إرهابية تحدث في أرجاء المعمورة هناك تركيز كبير على «العناصر» السعودية في كل مناطق التوتر، وهذا راجع إلى جملة من الأسباب تتصل بطبيعة تحول «السعودي» المقاتل إلى قيمة إضافية خارج قدراته الذاتية، فهو عامل دعائي مهم ومزدوج من حيث استخدامه ككرت ضغط سياسي، كما أنه عامل استقطاب لكوادر جديدة محملة عادة بالتمويل والدعم والمساندة أحيانا للأسف من الأهل عن جهل وخوف من التواصل مع السلطات وعادة يجري اتخاذ قرار التبليغ بعد انقطاع التواصل أو القتل، وهناك أحاديث كثيرة لسعوديين تورطوا في العنف تشهد بأن عملية الاستهداف مقصودة.
قلب العالم الإسلامي
من الطبيعي جدا أن يكون حجم التأثير السعودي كبيرا في التأثير على الإرهاب أو الاستهداف منه فهناك عوامل تاريخية وجغرافية وسيوسيولوجية واقتصادية متداخلة جدا جعلت من السعودية مرمى الإرهاب استقطابا وتمويلا وتجنيدا واستهدافا، فالمقاتلون الأوائل في المرحلة الأفغانية لم يكونوا يشكلون العدد الأكبر، لكن جرى تمييزهم لاحقا في مضافات بيشاور وحتى معسكرات التدريب وأهمها «الفاروق» لإعطاء هذا البعد الخاص للمكون السعودي، حيث المجموعات كانت تنتقل على طريقة الشبكات محاطة بالكثير من الدعم المجتمعي من قبل مجتمع محافظ لم يكن يرى في «الحالة الأفغانية» أبعد من نصرة للمسلمين تجاه دولة شيوعية.
الأطراف المستفيدة كانت ترى في السعوديين وقود معارك حقيقية فقد نقلوا لهم واقعا مختلفا وجديدا بحكم ارتباط المجموعات الجهادية المقبلة من السعودية في مرحلة الجهاد الأفغاني بحراك مجتمعي وشرعي وتمويلي، لكن لحظة الانفصال لم تأت متأخرة والوعي السعودية بخطورة الأزمة كان مبكرا، وهو جزء من تاريخ مركب ومتداخل لم يدون حتى الآن، فهناك الكثير من رموز الصحوة والمشايخ والدعاة الذين ذهبوا بعد مرحلة «مطبخ بيشاور» وبدايات استقلال «القاعدة»، ليفاجأوا بتحولات كبيرة في مخيمات ومعسكرات المجاهدين المقبلين من الخليج واليمن تتصل بتفشي ظاهرة التكفير، وبدايات طرح قضايا تكفير الدول، وتأكيدا على ذلك، فإن المناخ الأصولي العام في المنطقة، وهو مناخ «القاعدة» والإرهاب يشكلان جزءا ضئيلا منه، كان مستعدا للحظة الانفصال عن المجتمع والدولة، ومن هنا بدأت أطروحات التكفير للدولة ثم العلماء فالأجهزة الأمنية فالعلماء، وبدأت الرسائل تتوالى وأشهرها الكواشف الجلية، وتحريم المدارس الحكومية، وقتل العسكر، وكلها مؤلفات طرحت أسماء جديدة شكلت لاحقا مرجعيات شرعية بديلة وأبرزها مرحلة أبو محمد المقدسي الهامة جدا التي استطاع فيها ليس فقط إنتاج خطاب عنفي مؤسس على السلفية بل تحويل تراث أئمة الدعوة النجدية إلى رصاصات غادرة ترتد إلى الجسد السعودي عبر تنزيل حالة وفتاوى ضد الدولة العثمانية التي كانت تشكل سياقا خاصا أقرب إلى السياسي منه إلى الديني على واقع الدولة القطرية بل وقلب العالم الإسلامي السعودية.
وكان لافتا ألا تجد طوال تاريخ العنف عبر عقود أي مؤلفات تتناول تكفير أنظمة عربية أو إسلامية أخرى لأنه كان في حكم المفروغ منه بل ولا تختص به «القاعدة» وأخواتها وإنما كان موقف الإسلام السياسي برمته، إلا أن الأمر حين يتصل بالسعودية فهناك العشرات من المؤلفات الخاصة التي تجيب على شباب جزيرة العرب كما تحاول «القاعدة» اللعب على رمزية الأسماء.
نقطة تحول
موجة الهجمات الإرهابية المستهدفة للداخل السعودي في 2003 كانت نقطة تحول أساسية، حيث طرحت الكثير من الأسئلة حول جدوى الاكتفاء بالحلول الأمنية، وما إذا كانت «القاعدة» التي تستهدف العمق السعودي لها امتداداتها وخلاياها النائمة في الداخل الذين كان يعيشون مرحلة ترقّب لرد فعل الجهات الأمنية، التي بدورها انتقلت من استراتيجيات رد الفعل إلى الضربات الاستباقية.
في هذا السياق يمكن الحديث عن 3 نماذج سعودية بامتياز في ملف الحرب على الإرهاب وجدت أصداءها في المحيطين الإقليمي والدولي بسبب تجاوزها للمفهوم الأمني في التعامل مع الإرهاب إلى استراتيجية الوقاية وإعادة التأهيل ومكافحة التطرف في شكله الفكري.
هذه المواجهة الدامية أسفرت عن ولادة منتج سعودي خاص وفريد في التعامل مع الإرهاب كان محل استغراب في بداية تدشينه وإعلانه، فلم يكن أحد ليتصور أن استراتيجية «القوة الناعمة» التي دشنها الأمير محمد بن نايف، عبر رفع شعار المواجهة الفكرية القائمة على مبدأ المناصحة والإقناع للمتطرفين والمغرر بهم ستؤتي أكلها، كما أنها، وفي الوقت ذاته، تتيح بقاء خيارات الحلول الأمنية متى ما تعذر الوصول إلى حلول لجان المناصحة التي على الرغم من حداثة التجربة والنقص والأخطاء التي ترافق أي مشروع من هذا النوع تحولت إلى أنموذج فريد تتسابق مراكز الأبحاث لدراسته عن كثب.
تحالفات مشبوهة
التطور الذي عرفته الجماعات الإرهابية منذ بذرة أفغانستان وصولا إلى حلم الدولة في «داعش»، لم يكن ليتطور لولا صعود الإسلام السياسي الرافد الرئيس للأصولية الحديثة والتي تعد الجماعات الإرهابية التعبير المسلح عن الفكرة المتطرفة، لذلك كانت معالجة التعبيرات العنفية بمعزل عن مكونها السياسي والتنظيري واحدة من إشكاليات الحرب على الإرهاب وليس على التطرف ككل.
التحول الحقيقي الذي أحدثه الإسلام السياسي لم يكن إلا على مستوى الأفكار؛ فلم يدخل الناس الإسلام بعد أن كانوا به كافرين، ولا الحماسة الدينية ازدادت عن مرحلتها السابقة، وإنما جرى الإمساك بمفاصل المجتمع ومصادر التلقي فيه، تغيرت خطب الجمعة وظهرت طبقات جديدة فاعلة في المجتمع، حيث تراجع العالم التقليدي وأصبح معزولا ببعض طلابه النخبويين وظهرت طبقة الدعاة، وهي مرتبة دينية مبتدعة بجدتها ولم تكن كباقي المناصب الدينية الرسمية وغير الرسمية امتدادا لسياقها التاريخي منذ عهد الإسلام المبكر، وتلك قصة في غاية الأهمية، إذا ما علمنا أن الطبقات الجديدة التي ظهرت: «الدعاة»، و«المفكر الإسلامي»، و«المجاهد» و«المحتسب».. ساهمت في تصدعات اجتماعية عميقة، كما أنها اكتسبت الكثير مع الوقت بسبب سهولة الانتساب لهذه الطبقات التي يمكن الانضمام لها دون شروط ومواصفات عالية، وفي النهاية نحن في مرحلة حصاد لارتباك وتداخل عقود، وبالتالي فلا يمكن الشروع في تجاوز المرحلة إلا بعد فهمها جيدا واستنباط الدروس الكثيرة منها لكل الأطراف
سذاجة الربيع العربي
هذا التبسيط في فهم هذه الظاهرة أدى إلى كوارث حقيقية لا سيما في مرحلة الربيع العربي الذي سعى منظروه وحالموه إلى تهميش مكون أساسي في المشهد السياسي العالمي وهو «جماعات العنف المسلح»، التي تختلف عن جماعات الإسلام السياسي وإن كانت منبثقة عنها في الرؤية والتكوين الفكري والقضايا العامة، إلا أنها تختلف عنها باعتبارها جماعات فوضوية ذات منزع عقائدي وليست جماعة سياسية تهدف إلى السيطرة على مفاصل المجتمع عبر شعارات دينية. القاعديون لا يكترثون بالمتغير السياسي إلا من حيث قدرته على إتاحة الفرصة لهم في إعادة بناء جسد التنظيم وخلاياه، وفي سبيل ذلك يمكن مهادنة الأنظمة القائمة، سواء تلك الربيعية ذات المنزع الإسلاموي أو حتى حالة الفراغ السياسي في الدول التي لم تستقر على حال.
موقف تاريخي
موقف الملك عبد الله في كلمته التاريخية الأخيرة كان تاريخيا بكل ما تعنيه الكلمة، فهو قطع الطريق على المزايدة في ثنائية الإرهاب والسعودية، كما أنه أسس لمواجهة جديدة لا تطال الأفكار المجرّدة وإنما تطبيقاتها على الأرض. الأكيد أن موقف السعودية من التطرف والإرهاب قديم مع تأسيس الدولة ومنذ أحداث جهيمان في الثمانينات وما تلاها من بروز الإسلام السياسي لاحقا فتحوله إلى معارضة ذات طابع سياسي مع حرب الخليج، إلى ما يشبه الدولة داخل الدولة بعد ذلك إلى ضعفه ما بعد سبتمبر وانتقاله من ملفات الداخل إلى الخارج بعد أن أصاب الإرهاب الداخل السعودي، وتم الانفصال بين التيارات المسلحة والتيارات المتطرفة فكريا لتصبح الأولى مهاجرة والثانية منظرة أو مبررة أو ممولة أو في أسوأ الأحوال مستغلة تضخم التطرف المسلح كورقة ضغط سياسية لتمرير أجندتها.
إلا أن القرار التاريخي هذه المرة يتميز عن المواقف السابقة التي وقفت فيها الدولة بصرامة تجاه التطرف بأنه يتخذ طابع التشريع، وهو أقوى أنواع التأثير لأنه لا يتحدث عن الأشخاص أو الأحداث أو الأعيان وإنما عن الأوصاف والمحددات القانونية.



الإمارات تعلن هوية الجناة في حادثة مقتل مقيم بجنسية مولدوفية

عَلم الإمارات (رويترز)
عَلم الإمارات (رويترز)
TT

الإمارات تعلن هوية الجناة في حادثة مقتل مقيم بجنسية مولدوفية

عَلم الإمارات (رويترز)
عَلم الإمارات (رويترز)

أعلنت وزارة الداخلية الإماراتية، الاثنين، أن السلطات الأمنية المختصة بدأت إجراء التحقيقات الأولية مع ثلاثة جناة أُلقي القبض عليهم، لاتهامهم بارتكاب جريمة قتل بحق شخص يُدعى «زفي كوغان» يحمل الجنسية المولدوفية ويقيم بالإمارات؛ تمهيداً لإحالتهم إلى النيابة العامة، لاستكمال التحقيقات.

وكشفت السلطات الأمنية في الإمارات، في بيان نشرته وكالة أنباء الإمارات، عن هوية الأشخاص الثلاثة الذين يحملون الجنسية الأوزبكية، وهم: أولمبي توهيروفيتش (28 عاماً)، ومحمود جون عبد الرحيم (28 عاماً)، وعزيز بيك كاملوفيتش (33 عاماً).

كانت الداخلية الإماراتية قد أعلنت، الأحد، إلقاء القبض على الجناة في حادثة مقتل «زفي كوغان» الذي يحمل الجنسية المولودفية، وفقاً للأوراق الثبوتية التي دخل بها إلى الإمارات.

وأفادت، في بيان: «بعد أن تقدمت عائلة المجني عليه ببلاغ عن اختفائه، جرى تشكيل فريق بحث وتحرٍّ، وأسفرت التحقيقات عن العثور على جثة الشخص المفقود وتحديد الجناة، حيث جرى إلقاء القبض عليهم وبدء الإجراءات القانونية اللازمة».