سلطة فلاديمير بوتين وطريقه إلى السلطة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
TT

سلطة فلاديمير بوتين وطريقه إلى السلطة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

يتراءى لمن يحدق في نظراته الزائغة أن فلاديمير بوتين يبيع بضاعة مغشوشة. قد يبيع السكّر لمُصاب بالسكري، أو فاكهة طُمر فاسدها تحت طبقة رقيقة من ثمار طازجة.
بروزه الأول انطوى على غشّ: ضابط الـ«كي جي بي» الذي كان في ألمانيا الشرقية إبان ثورتها، أحرق الوثائق التي في حوزته. إتلاف الوثائق قد تستدعيه ضرورات حربية أو مصلحة وطنية، لكن ذلك لا يلغي كونه تزويراً للتاريخ.
في صعوده المبكر مارس الغش حين أوكل إلى التلفزيون إعادة صنعه وتوضيبه. لقد لعب على ازدواج يتطلبه الروس في حقبة فقدوا فيها ثقتهم بالنفس: قيل إنه، هو الذي يجيد الألمانية، وجهٌ يشبه وجوه «الآريين». هذا ما خاطب قرف الروس مما هم فيه. لكنْ شاع أيضاً أنه ينتصر على «الآريين» لأنه يُشبه جاسوساً شعبياً اسمه ماكس ستيرليتس يُروى أنه اخترق المخابرات النازية في الحرب العالمية الثانية ودارت حول نجاحاته أعمال تلفزيونية كثيرة؛ شيء روسي من رأفت الهجان.
كذلك اشتغل بوتين على صورته بتقديم نفسه مضاداً لبوريس يلتسن: الأخير ثرثار وسكير ومترهل. هو صامت ورياضي وشاب. لقد بالغَ في تعميم الصور التي تنقله وهو يلعب الجودو، ويرمي بالمسدس في نادٍ للرماية، ويسابق بسيارات السباق، ويتزلج مُعانقاً الدبَبة، ويراقب «المخاطر» مِن على متن طائرة حربية أو على ظهر غواصة بحرية. التركيز لا يكلّ على كونه قوياً وفحلاً. الصورة هذه عززتها الحملة المتواصلة على المثليين بوصفهم «ناقصي الرجولة» وممن يدنسون «طهارة» روسيا.
وبوتين كان يغش في إبداعه السياسي منذ 2008، أي نظرية التناوب على الرئاسة مع صنيعته ديمتري ميدفيديف، فضلاً عن الغش عبر التهويل بغزو أميركي وأوروبي لروسيا، خصوصاً في المواسم الانتخابية. هذا ما يُظهر معارضيه الديمقراطيين مجرد عملاء للغزاة. وبالفعل فاضطهاده المنظمات غير الحكومية والتلويح بمخاطرها المزعومة جزء من الوعي التآمري لضابط المخابرات السابق، وقد سبق لروسيا أن أنتجت أشهر وثيقة تآمرية في التاريخ: «بروتوكولات حكماء صهيون». آنذاك أيضاً كان البوليس السري (القيصري) وراء تلك الفبركة.
وهو يغشّ حين يصور نهوض روسيا كنتيجة منطقية وطبيعية لتدهور أميركا وأوروبا. قد يكون مرض روسيا غير قابل للعلاج، فلنعملْ إذن على أمراض أوروبا وأميركا، فنستمدّ الصحة من مرضهما. ومَن يستطيع أن يسيء إلى أوروبا أكثر من حلفائه الشعبويين والقوميين، ومَن الذي يسيء إلى أميركا أكثر من رئاسة دونالد ترمب لها؟
أصدقاؤه هم هؤلاء، وأكثر الذين صادقهم من زعماء الغرب كان الإيطالي سيلفيو برلسكوني. علاقتهما «المميزة» استمرت بعد استقالة الأخير، متخبطاً بفضائحه، عام 2011.
لكن بوتين يغشّ أيضاً في تاريخ روسيا، حيث مَن يعملون على توثيق الحقبة الستالينية وارتكاباتها قد يواجهون العقاب وتهمة العمالة، وهو يغش طبعاً بالتزوير الانتخابي الذي بلغ ذروته في انتخابات 2012 الرئاسية. لقد كان التزوير من طبيعة رقمية وإلكترونية، لكن التحكم بالوحش التقني بدا صعباً: هكذا بلغت نسبة الأصوات المقترعة 146 في المائة من مجموع السكان. في الشيشان التي ذبحها، أحرز بوتين نسبة خارقة من الأصوات! هكذا لم يُخفِ أحد أكبر آباء الشعبوية المعاصرة على نطاق عالمي استعداده لفعل كل ما يجعله زعيماً خالداً.

- سياسات القوة
في الداخل كما في الخارج، كانت «الحلول الأمنية» دين بوتين وديدنه. تعيينه رئيساً للحكومة في 1999 صاحَبَه شن حرب الشيشان الثانية، رداً على هجوم متمردين شيشانيين على داغستان. المطلوب كان دائماً الاستحواذ على القوة والقومية، والتأسيس لحروب لاحقة ضد «الإرهاب».
يومذاك تولاه صانعُه بوريس بيريجوفسكي، أحد أكبر الأوليغارشيين الجدد وأحد أكبر مالكي وسائل الإعلام، الذي بات لاحقاً عدوه وقتيله. قدمه إلى يلتسن، وفي 2000 أوصله إلى الرئاسة بعدما تولى تلفزيون بيريجوفسكي تدميرَ مُنافسيه.
الثورات الملونة في جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004 وقيرغيزستان 2005 أخافتْه وكرهها بحس سلطوي وأمني يميز جميع المناهضين للثورات. إنها «اضطرابات» في محيط روسيا تذكر بثورات 1989 - 1990 التي قوضت الاتحاد السوفياتي. هكذا أُخضعت جورجيا في 2008. ومثلما تذرعت موسكو بدعم الأوسيتيين والأبخازيين هناك، تذرعت بدعم الأقلية الروسية في أوكرانيا. في 2014 تدخل في شرق البلد المذكور وضم القرم.
في غضون ذلك، وفي 2013 تحديداً، لعب دوراً أساسياً كضامن لبشار الأسد، ينقل أسلحته الكيماوية إلى روسيا. الارتكابات اللاحقة بينت أن الأسد لا يزال يملك تلك الأسلحة. أواخر صيف 2015، بدأ تدخله العسكري المباشر في سوريا «بطلب من حكومتها». بعض قوات النخبة نقلها من أوكرانيا إليها. في 14 مارس، أعلن أن المهمة تكاد تنتهي وأمر بسحب «الجزء الأساسي» من جنوده. النشاطات العسكرية ما لبثت أن توسعت مجدداً، ودلَّت على أن «المهمة» لم تنتهِ. على أي حال، تُوجت «المهمة» تلك بتدمير حلب. قبل ذلك وبعده، حمى النظامَ السوري في مجلس الأمن.
بيد أن الغشّ في بوتين ينبع من اعتبار وطني يتعدى شخصه. ذاك أن ما يملي الغشّ هو ضرورة إظهار بلده بمظهر البلد القوي الذي كانه مع بطرس الأكبر أو جوزيف ستالين، فيما الحقيقة أنه ضعيف ينبغي التستر على ضعفه.
الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في عهدي غورباتشوف ويلتسن حلها جزئياً ارتفاعُ أسعار النفط والغاز. لكن روسيا ظلت تعتمد على تصدير السلع من غير أية مساهمة تُذكر في ثورة الاتصالات وتقنياتها. زاد في إضعاف اقتصادها العقوبات الدولية التي فُرضت عليها في 2014 بعد إلحاقها القرم. المعارض بوريس نِمْتسوف رأى أن بوتين يحول البلد إلى «مستعمَرة مواد أولية» للصين. والحال أن الأخيرة، لا روسيا، باتت الأقرب إلى أن تكون زعيمة «الشرق». هذا التطور يحض على البحث عن موقع في العلاقات الدولية يُنتزع بالتخريب وبسد الفراغات التي تخلفها سياسة الانسحاب الأميركي من العالم. ناقدُه نمتسوف اغتيل في موسكو عام 2015. ذاك أن الغشّ وحده لا يكفي أحياناً.
لقد برعت روسيا بوتين في أمرين يكادان يختصران ما الذي اختارته من الحداثة: المواد الكيماوية والبيولوجية وغازات الأعصاب، و«تهكير» المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل. محطة التقاطع بين هاتين الوجهتين هي القتل.
منذ تسلمه السلطة في 2000 قُتل، فضلاً عن نمتسوف، 21 صحافياً وعدد من الناشطين والسياسيين. هؤلاء بعض أبرزهم: سيرغي يوشنكوف، سياسي ليبرالي اغتيل في موسكو عام 2003. في العام نفسه سُمم يوري شيكوشيخين، الصحافي والكاتب الذي كان يتابع قصص العنف والفساد. في 2006 اغتيلت أنا بوليتكوفسكايا في شقتها بموسكو، وهي الصحافية التي كشفت فضائح الفساد في الجيش وجرائم هذا الجيش في الشيشان. اغتيالها يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) كانت له دلالة رمزية: إنه يوم عيد ميلاد بوتين. في 2009 اتسع نطاق الدم: قتل محامي حقوق الإنسان والمدافع عن المدنيين الشيشان ستانيسلاف مركيلوف على مقربة من الكرملين. قتلت معه الصحافية أناستازيا بابوروفا. توفي القاضي سيرغي ماغنِتسكي تحت تعذيب الشرطة. ماغنِتسكي كان يتابع مسألة فساد ينخر ذاك الجهاز. قُتلت الصحافية ناتاليا إستميروفا بعد خطفها، ورُميت جثتها في الغابة. إستميروفا كانت ترصد الجرائم في الشيشان. سُمم ضابط المخابرات السابق ألكسندر ليتفننكو في لندن. وفي لندن أيضاً، في 2013، قُتل صانع بوتين، بيريجوفسكي، مخنوقاً في منزله. في 2017، اغتيل في أوكرانيا المعارض دنيس فوروننكوف. في 2018، في بريطانيا، سُمم الجاسوس السابق سيرغي سكريبال وابنته لكنهما أُنقذا.

- شروط الخلاص
كان ينبغي، كي يغدو بوتين مخلصاً، أن يكون سلفه رجل كبوريس يلتسن، وأن يجوع الروس، وأن تنشأ أزمة دستورية كبرى في 1993 تأدى عنها قصف البرلمان في بلد حديث العهد بالديمقراطية، وأن تتطور المشكلة الشيشانية إلى حرب قومية عام 1994، وكان المطلوب أيضاً أن يصاب الناس باليأس من السرديات الكبرى: من الشيوعية ولكنْ أيضاً من الرأسمالية كما شاهدوها في عهدي غورباتشوف ويلتسن، وأن يتضخّم دور الإعلام بحيث يمسي هو صانع المعنى ومصدر النجوم والسياسة، كما يتحول جامعاً أوحد بين ملايين الروس المبعثرين. وكان المطلوب كذلك أن يصعد الأوليغارشيون الذين امتلكوا منابر الإعلام مستفيدين من تصدع الدولة ومن الخصخصة العشوائية لملكياتها. وكان المطلوب أن تستولي الخرافة على العقل، فلا يصدق أحد أحداً لكن الجميع يصدقون الشائعات والخرافات، وأن تتفتت السلطة لتتوزع على كتل نفوذ متصارعة، كالأوليغارشيا المالية، وهي كثيرة الأجنحة، والرئاسة والبرلمان والجيش والمخابرات. وكان المطلوب أن يتمنع الغرب عن إنجاد روسيا بعد سقوط الشيوعية، فلا ينشأ مشروع مارشال لإنهاضها، ولا توقف المصارف الألمانية عن ضخ رساميلها إلى الخارج، بينما يتمدد «الناتو» شرقاً، رغم انتهاء الحرب الباردة التي نشأ بسببها. التدخل الأميركي في حرب البوسنة وقصف بلغراد في 1998 قُدّم بوصفه إيذاناً باقتراب الخطر والمؤامرة. وأخيراً، كان المطلوب انفجار الحنين إلى ماضي القوة السوفياتية في ظل إخفاق متعدد الأوجه.
والذهب ينقلب تراباً في كف روسيا، حيث لا الاشتراكية أفلحت مع لينين، ولا الرأسمالية والديمقراطية أقلعتا مع يلتسن. إذن ها هو الغشّ يجرب حظه مع بوتين.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.