الأدب الاستهلاكي يتسيد الساحة الثقافية الأوروبية

روايات الجريمة والعنف تغزو الأسواق
روايات الجريمة والعنف تغزو الأسواق
TT

الأدب الاستهلاكي يتسيد الساحة الثقافية الأوروبية

روايات الجريمة والعنف تغزو الأسواق
روايات الجريمة والعنف تغزو الأسواق

تستمد غالبية كبيرة من الشبيبة الأوروبية، كما يشير كثير من الاستقصاءات، «ثقافتها» من قراءة «فيسبوك»، والمواقع المحشية بالمعلومات الخاطئة، أو ما تنتجه دور النشر من أدب استهلاكي، حظي في السنوات العشر الأخيرة بمزيد من الانتشار، رغم أن هذا الأدب لا يقدم أي نتاجات ذات قيمة فنية مقارنة بالأدب الجاد، بالإضافة إلى تأثيراته السلبية على مجمل الحركة الأدبية والثقافية، ما يخلق عملية إرباك فكري وثقافي، خصوصاً على الأجيال الجديدة.
ويعمل الناشرون وتجار الكتب في فرض الكتب الأكثر مبيعاً من وجهة النظر التجارية على اعتبار أن الكتاب هو بضاعة مدعوة لتحقيق الربح لمنتجها. وتتمثل الأخطار التي يشنها الأدب الاستهلاكي المعد ضمن وصفات محددة بشكل جيد والمطبوع بأسلوب جذاب وأنيق، الذي تصرف عليه دعاية كبيرة حتى قبل نزوله إلى السوق.
ويقف في مقدمة الأدب الاستهلاكي الأدب البوليسي الذي يستأثر بإعجاب القراء في كل مكان، فقد أبدع كثير من الكتاب العالميين نماذج كثيرة ومتنوعة للأدب البوليسي الذي يركز في جوانبه الكلاسيكية على الجريمة التي أصبحت في هذا النوع من الأدب «مهنة» رومانتيكية للحد الذي اختلطت فيه الرواية البوليسية برواية الجريمة التي تعتمد في أغلبها على فضح المجرم وشرح أسباب الجريمة وإدخال عنصر التحليل النفسي، ووصف طبائع الشخصية، وهنالك أساليب أخرى، فهي إلى جانب اعتمادها على عنصر الجريمة فإنها تسعى لتلقين القارئ دروساً أخلاقية، أما غالبية الكتب البوليسية فتعتمد على تصوير عقدة الجريمة دون الاهتمام بالجوانب النفسية والاجتماعية.
وقد ولد خلال السنوات الأخيرة نموذج جديد من رواية الجريمة يدخل الفعل السياسي والتاريخي بالبوليسي، ويحمل هذا النوع تزييفاً لكثير من القضايا والحوادث والوقائع التاريخية للحد الذي بدأت فيه هذه الأنواع من الأعمال الروائية تشويه الصورة العامة لهذه الأحداث والشخصيات التاريخية وتستثير المشاعر الأخلاقية والصفات الروحية للقارئ، حيث بدأت ترسم علامات استفهام كبيرة حول الفعل السياسي والتاريخي المرتبط بالقتل والجريمة، وجعلت مثل هذه الأعمال التي تختلط بها اللغة العامية مع الفصحى وتستطرد في ثرثرة عن مشاكل الحياة وعبثيتها وتفاهتها، تعج بها سوق الكتب في كل مكان وتجد لها جمهوراً يكبر كل يوم.
تعتمد هذه الأعمال على الحوادث التاريخية المنسية وغير المعروفة جيداً لدى القارئ العادي، وتتناول حياة الإقطاعيين والثوار التي عاشها كثير من بلدان أوروبا خلال القرون الوسطى وأحداث الحروب الماضية منطلقة من المقولة الشائعة إنه «لا أحد يعرف بالضبط كيف كان التاريخ الحقيقي».
النوع الآخر، الذي أصبح في الآونة الأخيرة تقليعة شائعة، هو كتابات الحب والجنس المتحرر من كل قيود، الذي ينتقل المؤلف من خلاله إلى العوالم الخفية بسرعة مدهشة متحرراً من أي سمات أخلاقية للحد الذي تبدو فيه هذه المؤلفات القصصية كأنها موضوع واحد بعدة تفاصيل متغيرة. ويمارسه عشرات الكتاب ليقودوا قراءهم إلى عالم الأحلام والأوهام الجميلة بعيداً عن تعقيدات الحياة اليومية، فنرى الناس في القطارات وعلى سواحل البحر أثناء العطل الصيفية لا هم لهم إلا متابعة آخر ما تنتجه دور النشر المتخصصة بهذه الموضوعات.
واستحق هذا النوع من الأعمال الروائية تسمية «الروايات المبتذلة» التي تنتشر عادة وسط جمهور يتسم بضيق الأفق والسطحية في التفكير، لينتج ثقافة استهلاكية تخلق قناعات واهمة بإمكانية الحصول على أي شيء في هذه الحياة.
عندما صدرت رواية «داخل» للكاتبة ليندا لافلايس في السبعينات وهي رواية فاضحة ورخيصة أثارت في حينها ضجة كبيرة، حتى جريدة «التايمز» البريطانية، الحريصة جداً على «الروائع الجديدة»، وصفت هذا العمل بأنه «كتاب خليع عن مغامرات امرأة ساقطة مكتوب بلغة ساقطة»، وربما كانت مؤلفته امرأة فقدت الحياء، ولكن هل كانت أديبة موهوبة؟ أجاب عن هذا السؤال أحد النقاد بقوله: «تسألون عن ليندا لافلايس ككاتبة؟ مبارك سعيكم... ولكنها أنثى غبية حشي رأسها بنشارة الخشب العفنة بدلاً من الدماغ. لماذا تكسب أمثال هذه المؤلفات الآن مثل هذا الرواج في المجتمعات الغربية؟». يجيب بعض الناشرين الإيطاليين: «كيف نقدم على نشر ما لا يروق لأوسع أوساط الجمهور؟ إن معيارنا الوحيد في النشر هو النجاح لدى الجمهور». لكنهم يدركون أكثر من غيرهم أن هذا النجاح الجماهيري هو ثمرة لحلقة شائنة مصطنعة «العرض يولد الطلب... والطلب يرفع العرض»، لكنهم يعرفون بحس مهني بارع كيف يستثمرون هذه المعادلة لصالحهم، إذ تجري تغذية المواطن العادي بالبضاعة الاستهلاكية الفاسدة مسبقاً، وهي قصص المغامرات والجنس الموزعة بملايين النسخ والمترجمة إلى مختلف لغات العالم والمحفوظة في علب أنيقة أخاذة من الأغلفة البراقة. إنها تحاصر المواطن في كل مكتبات وأكشاك بيع الصحف المنتشرة في كل منعطف وشارع، وتلاحقه حتى أقصى نقطة يمكن الوصول إليها. إنهم يعملون بمثابرة لا تعرف الكلل على تربية المستهلك، يشبعونه بمفاهيمهم «الجمالية الخاصة» لتقوده في النهاية إلى عملية تشويه لتصوراته عن القيم والمثل والذوق الجمالي والأخلاقي.
إن جيشاً كاملاً من الحرفيين وأساطين صناعة اللهو في معظم البلدان الأوروبية، ينتج هذا النوع من الفن الكاذب حسب وصفات محددة تجعل منه تجارة رابحة ذات حدين: فهي من جهة مصدر ربح خيالي، ومن جهة أخرى تؤدي وظيفتها الاجتماعية في تربية إنسان سلبي لا يكترث بالسياسة ويقبل كل قواعد اللعبة دون قيد أو شرط. وهذه الثقافة الزائفة التي وصفها كاتب إيطاليا الراحل ألبيرتو مورافيا بأنها «أفيون الشعوب» أبعد من مجرد كونها مجرد صناعة للهو، بل تمارس بشكل هادف ويقظ وخبيث وظيفتها. إنها الحارس الأمين لنمط الحياة السائدة في هذه البلدان.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.