محيي الدين القابسي... سوسن: لكِ العُتبى!

محيي الدين القابسي... سوسن: لكِ العُتبى!
TT

محيي الدين القابسي... سوسن: لكِ العُتبى!

محيي الدين القابسي... سوسن: لكِ العُتبى!

ينتاب راصد تاريخ الإعلام شعور متنام تختزنه سنوات، بأن دوائر الإعلام المعنيّة، وبخاصّة مَن مرّ بها منذ النصف الثاني من القرن الماضي، مدينة بالفضل لإنسان هذا المقال وأمثاله.
فهذا الكاتب الدؤوب المبدع، الذي رحل عن الدنيا عام 1997 قضى ثلاثة أرباع عمره وصرف خلاصة فكره في خدمة الإنتاج الإعلامي المقروء والمرئي، بأسلوب رزين خلّاق، وبمحتوى مهني رفيع بعيد عن الابتذال.
وما هذا المقال سوى تعبير اعتذاري متأخّر، لتأكيد الاعتراف بمكانته وبحقّه على تلك الدوائر، يتحمّل زملاء مهنته نصيباً كبيراً منه، وكان بعد أن أمضى في خدمة بلاده (سوريا) جزءاً من حياته، وخدم الإعلام السعودي نحو ثلاثة وثلاثين عاماً، عُثر عليه متوفّياً وحيداً في شقّته بالرياض.
كتبتُ حينها على عجل (صحيفة «الجزيرة» السعودية 22 - 3 - 1997) نعياً في سطور معدودة، لا تفي حقه للتعزية، بعنوان «وتوقّف القلم القابسي»، وردت في أثرها رسالة عتابيّة رقيقة المضمون، مشابهة في الخط لقلم والدها، حملها البريد من ابنته «سوسن»، ساكنة الشارقة حينها، ووارثة بعض مواهب أبيها، مؤرّخة في 2 - 4 - 1997، أي بعد أسبوعين من وفاته، تقول:
«لقد توقّف القلم القابسي، كما ذكرت، لكنه كان وحيداً مريضاً بعيداً عن أهله، وعن منزله في الشام الذي اختار كل زاوية منه بعناية شديدة، بجدران تنوء بالكتب والمراجع التي بدأ في جمعها منذ بداية رحلته الصحافية في دمشق، وعاد إلينا من الرياض جثة باردة في صندوق، كنت أدور بين المعزّين بتعزيتكم القصيرة المعبّرة المنشورة، انظروا، اقرأوا، هذا هو أبي (الكاتب العربي السوري الكبير)، فأقرأ في عيونهم الدهشة والاستغراب، معقول، تمنّيت أن أضع التعزية في إطار وأعلّقها في صدر المنزل، لأنها شهادة التقدير الوحيدة التي أمكن الحصول عليها، إنها الوسام الفريد الذي سوف نعلّقه على صدور أبنائنا، أحفاد محيي الدين القابسي» انتهى.
أقول، عندما يستذكر المُنصف أولئك النساء والرجال المهاجرين في أنحاء الدنيا، الذين قدّموا خدمات جليلة لمجتمعات غير أوطانهم التي حملوا جوازات سفرها، وكرّسوا فيها جهودهم وولاءهم، كما فعل طيّب الذكر الراحل القابسي، فإنه - أي المُنصف - يخشى على الوفاء أن «يصيبه الدوار» في زمن تتغيّر فيه موازين القِيم، وتبهت فيه العواطف والضمائر.
فعندما يهجر المرء موطنه، ويتغرب، ليتّخذ من بلد آخر وطناً بديلاً يقضي فيه زهرة عمره، ويمارس فيه عمله بكل إخلاص، ويصبّ فيه عصارة خبراته، فإنما حقّه في التقدير نظير تلك الهجرة يصير أصيلاً في الموطن الثاني، حتى لو تقاضى فيه الأجر نظير عمله وخدمته.
وفي هذا الصدد، يستذكر المرء ما عومل به مستشارون ومفكّرون مَروا على بلدان الخليج، كانت في طور التأسيس، وشاركوا في تنميتها وبنائها، ويستذكر كذلك أُسراً بالمئات، هاجرت أيام القحط والجوع والحروب من الجزيرة العربيّة، واستوطنت بلاد الشام والعراق ومصر والهند، واكتسبت فيها المواطنة الكريمة والمساواة العادلة دون تمييز.
ما تزال صورة هذا الإنسان المنظّم - القابسي - ماثلة في الذهن، مُنكفئاً على نفسه في الرياض من دون ضوضاء، يتناسى قوت يومه، لا يشغل مَن حوله بقضاياه الخاصة والعامة، يخرج من منزله المستأجر، بهندامه حسن السمت، ويمتطي سيارة الأجرة كل يوم توصله إلى مكتبه وتعيده، فيعكف دون جلَبة على الآلة الكاتبة أو على الورق المسطر والقلم، يصبّ من خلالها أفكاره مباشرة، في خلوة لا يكاد يقاطعه فيها أحد، ولا يقطع حبل أفكاره حامل القهوة يتسلّل من باب غرفته مرة أو مرتين خلال ساعات العمل، ومع كل هذه العُزلة، كان أنيس الجلسة، منطقي الحديث والحُجّة، يتسابق زملاؤه للجلوس إليه، متى ما وجدوا ثغرة في وقته.
ألّف القابسي عدداً من الكتب التوثيقيّة، من أقدمها كتابه الشهير «المصحف والسيف»، ورفد التلفزيون السوري والسعودي بمئات النصوص والأعمال رفيعة المستوى، والبرامج التسجيليّة والمنوّعة والأفلام التوثيقيّة والتعليقات السياسيّة والتحليليّة، وهو صاحب مدرسة في التحرير وعلامات الترقيم، يكتب نصوصه، وفق طريقة مُلقيها المحتمل في الإذاعة والتلفزيون أو التعليق على الأفلام، بقواعد إعراب نحويّة مضبوطة، واحترافيّة في كتابة السيناريو تمتدّ إلى الخبرة بفنون المونتاج والصوت والتصوير وغيرها من أدوات الإنتاج.
كان القابسي ونظراؤه ضمن قائمة من الإخوة العرب من بلاد الشام ولبنان والعراق وغيرها، استعان بهم الإعلام السعودي بعد أن تحوّل إلى وزارة عام 1963 كسعيد الهندي ومسلّم البرازي وعدنان النحوي وخلدون المالح وزهير الأيوبي ومنذر النفوري وبشير مارديني وغيرهم، كانوا مثال الانصهار والالتزام والاحتراف المهني، كل في تخصّصه ومجاله، لكن القابسي برز بينهم، لكونه أقام في شقة صغيرة «عزوبيّاً» كاتماً خصوصياته الأسرية، مغموراً، منصرفاً، عاشقاً لعمله متفرّغاً لإنجازه، بعيداً عن أسرته الباقية في الشام، ومترفّعاً عن الوهج والأضواء، مع أن الكل يحتاجه يوميّاً، من الوزير إلى المدير والمنتج والمخرج والمستشير، وكان ملء السمع والبصر من محبّيه، ومن أكثر المتعاقدين معرفة بحساسيات المجتمع وواجبات المتعاقد وحدود الأعراف، فلما توقّف قلبه عن النبض وقلمه عن العطاء، عاد جثمانه جسداً بلا روح، كما جاء في رسالة سوسن.
عاش في الرياض على حصير التقشّف، ينفق على نفسه بالكفاف، ويبعث الباقي من دخله إلى أسرة صغيرة في دمشق تَعُدّ الأيّام لعودته، عاش على الكفاف لكنه حفر اسمه ومنهجه وأسلوبه في كتابة النصوص والسيناريوهات، حفرها في ذاكرة زملائه في مدرسة الإعلام الملتزم بقواعد المهنة وأخلاق الكلمة.
رحل أبو صلاح قبل عقدين ونيّف رحيل البوهيميين والحكماء، مدفوناً بين الكتب، غارقاً بأرشيف معلومات ضمّ صُور آلاف الأعلام والقادة باستثناء صُوره، أرشيف باعه صلاح بعده بـ«تراب الفلوس» لصعوبة نقله إلى الشام.
رحم الله فقيد الاحتراف الضائع، وأثابه على ما قدّم لمدرسة الإعلام العربي الرصين.
- إعلامي وباحث سعودي


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
TT

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، الاثنين، أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية غير العادية» التي استضافتها الرياض مؤخراً.

وشددت القمة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على مركزية القضية الفلسطينية، والدعم الراسخ للشعب لنيل حقوقه المشروعة، وإيجاد حل عادل وشامل مبني على قرارات الشرعية الدولية.

وقال الدوسري لدى ترؤسه الدورة العادية الـ20 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب في أبوظبي، أن الاجتماع يناقش 12 بنداً ضمن الجهود الرامية لتطوير العمل المشترك، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، بمشاركة رؤساء الوفود والمؤسسات والاتحادات الممارسة لمهام إعلامية ذات صفة مراقب.

الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

وأضاف أن الاجتماعات ناقشت سبل الارتقاء بالمحتوى الإعلامي، وأهم القضايا المتعلقة بدور الإعلام في التصدي لظاهرة الإرهاب، وجهود الجامعة العربية في متابعة خطة التحرك الإعلامي بالخارج، فضلاً عن الخريطة الإعلامية العربية للتنمية المستدامة 2030.

وتطرق الدوسري إلى استضافة السعودية مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للتصحر «كوب 16»، وقمة المياه الواحدة، وضرورة إبراز مخرجاتهما في الإعلام العربي، مؤكداً أهمية الخطة الموحدة للتفاعل الإعلامي مع قضايا البيئة.

وأشار إلى أهمية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإعلام العربي، واستثمار دورها في تعزيز المحتوى وتحليل سلوك الجمهور، داعياً للاستفادة من خبرات «القمة العالمية للذكاء الاصطناعي» في الرياض؛ لتطوير الأداء.