«المؤونة القروية» تتفوق على المأكولات المعلبة والمستوردة في لبنان

موروث صحي وأنواعه مختلفة ومعروفة بقيمتها الغذائية

شراب البندورة أثناء الغلي   -  حقول الملوخية في بلدة عربصاليم الجنوبية
شراب البندورة أثناء الغلي - حقول الملوخية في بلدة عربصاليم الجنوبية
TT
20

«المؤونة القروية» تتفوق على المأكولات المعلبة والمستوردة في لبنان

شراب البندورة أثناء الغلي   -  حقول الملوخية في بلدة عربصاليم الجنوبية
شراب البندورة أثناء الغلي - حقول الملوخية في بلدة عربصاليم الجنوبية

متعبة، لكنها ممتعة وغير طازجة، لكنها صحية! والأهم من هذا كله، أنها تقليد اجتماعي - تراثي درجت ربات المنازل اللبنانيات على تكريس وافر الوقت والجهد لإعداده في أواخر فصل الصيف وبداية فصل الخريف. «المؤونة» أو «المونة» كما تعرف في لبنان، موروث عتيق ينم عن أصالة قروية عمرها مئات السنين. لم تقوَ وسائل التكنولوجيا الحديثة وتقنياتها على محوه.
فعلى الرغم من اكتساح الأطعمة المعلبة والمثلجة الأسواق اللبنانية، لا يزال الكثير يفضلون المنتجات اللبنانية لإيمانهم بصحتها وسلامتها ولما لها فيهم من ذكريات تردهم إلى القرى وأرضها وترابها.
فالقيمة الغذائية الصحية الموجودة في «المؤونة» من دون أي مواد حافظة، تشكل اليوم البديل المفترض عن تلك المعلبات غير الصحية بمعظمها.
من أمام الباحة الخارجية لمنزلها، حيث أوقدت الحطب تحت وعاء نحاسي، وبداخله وضعت شراب البندورة تقول أم علي في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقتها في بلدة عدشيت الجنوبية: «المواطن بات يتوق لتذوق معظم أصناف المؤونة البيتية نظرا لمذاقها الطيب، وتستحوذ المونة اليوم على اهتمام السيدات بعد أن استفحلت الأمراض وساد التلوث في كل شي».
وتضيف وتجاعيد وجهها تحمل ألف حكاية وحكاية: «هذا النوع يحتاج إلى ساعات لينضج، علينا تحريكه باستمرار، فبعد قطاف حبات البندورة من الحقل نعرضها لأشعة الشمس لـ10 أيام، لنقوم بعدها بعصرها وتصفيتها من البذر ثم توضع على النار، وبعد غليها لمدة ساعة نسحب منها المياه ونعرضها مجددا على السطح لأشعة الشمس لتجف وتعلب في أوعية».
«وعندما يطل شهر سبتمبر (أيلول) بطرفه المبلول بأمطار الخريف»، وفق المقولة اللبنانية، يبدأ أهالي القرى والبلدات الريفية، بالاستعداد لتوفير مؤونة شتائهم الطويل والقارس.
وتعد «المؤونة» في البيوت القروية، مصدرا غذائيا وصحيا لغناها بكل أنواع البروتينات والفيتامينات، ولمعرفة ربات المنازل بمكونات ومحتويات كل نوع منها. وتزخر غرفة المؤونة في كل منزل قروي بالكثير من الأصناف. بعد أن تتحولن إلى خلايا نحل تعملن بدأب على إنجازها.
من البرغل والحبوب المختلفة والكشك والفريك، إلى «القاورما» وزيت والزيتون ورب البندورة ومكدوس الباذنجان، ورب الرمان، إلى الكوسا والبامية والملوخية المجففة على الخيط، واللبنة «المدعبلة» إلى الدبس مع الطحينة، إضافة إلى المخللات والمقددات والمربيات على أنواعها، فضلا عن مختلف أنواع العصير والمثلجات من الخضار والفواكه.
ويحتل الكشك البلدي مكانة رائدة عند ليلى ابنة بلدة السعديات (جبل لبنان) فهو «الذهب الأبيض» الذي يؤكل ساخنا، حيث تحرص على إعداده كل موسم. وتشرح: «هو يتناسب مع الشتاء عدا عن أنه غذاء صحي وذو مذاق طيب، وهو يتطلب وقتا أطول من (رب البندورة)».
بداية هو يبدأ من خلط لبن البقر والماعز والحليب والسميد الخشن معا، ثم تركها أسبوع، بعدها يوضع تحت أشعة الشمس لتجف الحبوب، قبل أن تنقل هذه المواد معا إلى الجاروشة، ليتحول كشكا حيث كان قديما يعد وجبة أساسية على المائدة ويؤكل مع خبز المرقوق الطازج ويتم وضع القاورما داخله وفق تعبيرها.
وانتقالا إلى أم حسن ابنة بلدة كفر رمان – النبطية، وهي من أشهر النسوة الجنوبيات في تحضير المؤونة، إذ تعتبرها من أهم واجباتها، مؤكدة أن «البيت بلا مونة كالحياة بلا طعم»، متحدثة عن كيفية تحضير البرغل: «من بعد حصاد القمح ودرسه تبدأ رحلة السلق، تجتمع العائلة والجيران حول موقدة توضع فوقها (الحلة) وتكون فرصة لأكل (القلبة)، (قمح مسلوق مع السكر).. ثم يتعاونون لنقل القمح إلى سطح المنزل، حيث يفرش تحت أشعة الشمس ليجف، وبعدها يؤخذ إلى المطحنة ليجرش ويحول إلى برغل».
ولعل أكثر ما ينغص طعم المؤونة الشتوية عند القرويين، الضغوط المعيشية والاقتصادية السائدة التي يعيشها المواطن القروي، والتي دفعت غالبية العائلات إلى تقســـــيم إعداد المؤونـــة إلى مراحل متعددة وبكميات مختلفة، تجنبا لإرهاق ميزانياتهم بجمــــيع المصاريف دفعة واحدة.
وتعد الملوخية من أكثر الأطباق العربية شهرة، وهي تؤكل يابسة.. إلا أنها تكبد المزارع معــــــاناة تتمثـــــل بالمراحل الممتـــدة من زراعتها إلى تجفيفها.
بدوره، يرى المزارع زياد خليل (من بلدة العين البقاعية) أن المأكولات كالقمح والجوز والصنوبر والفاصوليا والألبان هي (مسامير الركب)، على حد قوله، تعطي الإنسان المناعة والقوة وكل الفيتامينات، مشددا على أن «الناس في البلدات والقرى هم أقل عرضة للمرض من أولئك القاطنين في المدينة».
واللافت أن هناك من جعلها مهنة يعتاش منها، فيبيع بعض المؤونة إلى بعض أهالي المدينة الذين بدأوا بالتهافت عليها في الآونة الأخيرة، بعد أن أدركوا خطورة المواد المعلبة والمستوردة والفواكه المبردة، التي تحمل في لذة طعمها سموما فتاكة وأمراضا خبيثة ارتفعت نسبتها بشكل هائل. وفي الوقت الذي يسخر فيه البعض من المؤونة لاعتباره «أن كل شيء متوفر بوجود الخيم البلاستيكية»، فإن الكثيرين يعرفون كيف تنبت فيها الخضار وكيف تنمو بسرعة بواسطة أدوية ليست مضرة بل قاتلة.
وللفاكهة اهتمام خاص، حيث يتم طبخها وتحويلها إلى مربيات ومنها مربى المشمش والدراق والكرز والتفاح والفراولة والإجاص واليقطين وغيرها.. ومنها ما يتم تجفيفه كالتين، والسفرجل، وأكواز الرمان، والمشمش والعنب الذي يسمى بعد تجفيفه (الزبيب) وهو من أشهى وألذ الفاكهة المجففة.
ومن المعروف أن المؤونة لا تزال متوارثة لدى الكثير من اللبنانيين الذين يقطنون في البلدات البقاعية وبلدات وقرى الشمال وعكار والجنوب وجبل لبنان البعيدة عن المدينة.
وفي الختام يبقى أن بعض أنواع المؤونة وفي مقدمها الكشك والقاورما ومكدوس الباذنجان، تعد من الوجبات الغذائية التي تنزح وتهاجر، إذ ترسل إلى الأبناء والأقارب المنتشرين في بقية المناطق اللبنانية أو في الاغتراب، وتمثل لهم الغذاء الصحي الغني والشهي، الذي يحوي بين ثنايا طعمه حنينا وشوقا إلى الأهل والوطن.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT
20

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».