«خلايا التماسيح»... خطة «داعش» لإزعاج أوروبا

عناصرها انغماسيون يشنون «هجمات انتحارية»

إجراءات أمن بعد الهجمات التي استهدفت فنادق وكنائس في سريلانكا الشهر الماضي
إجراءات أمن بعد الهجمات التي استهدفت فنادق وكنائس في سريلانكا الشهر الماضي
TT

«خلايا التماسيح»... خطة «داعش» لإزعاج أوروبا

إجراءات أمن بعد الهجمات التي استهدفت فنادق وكنائس في سريلانكا الشهر الماضي
إجراءات أمن بعد الهجمات التي استهدفت فنادق وكنائس في سريلانكا الشهر الماضي

«الخلايا النائمة» لتنظيم داعش الإرهابي إشكالية كبرى تتجدد مع أي هجوم أو استهداف في الدول الغربية أو الأفريقية، خصوصاً مع خسائر التنظيم في سوريا والعراق، وفرار معظم عناصره المؤثرة... وأخيراً ظهر مُصطلح «خلايا التماسيح»، وهو نهج أقرب إلى عمليات «الذئاب المنفردة»، ضمن محاولات التنظيم لمواجهة الخسائر التي تعرض لها أخيراً، بالتهديد لتنفيذ هجمات من وقت لآخر لإزعاج أوروبا.
يقول خبراء في الأمن والحركات الأصولية لـ«الشرق الأوسط»، إن «دولاً كثيرة تتخوف حالياً من إقدام (الخلايا النائمة) أو (العائدين الدواعش) على ممارسة العنف والإرهاب داخل حدودها، خصوصاً مع عدم وجود بيانات تفصيلية لهؤلاء»، مؤكدين أن «(العائدين) لن يتخلوا عن (التكفير والتفجير) وأفكار التنظيم». وأوضح الخبراء أن «(خلايا التماسيح) أعلى مراحل الموت الداعشية، وتختص باقتحام السجون والوحدات العسكرية والمدن، وهي عبارة عن مجموعات من (الانغماسيين)، وتكون على شكل مثلث كامل الأضلاع في عمليات الهجوم الإرهابية... والانغماسي التمساح يرتدي حزاماً ناسفاً، أو يقوم بتفخيخ السيارات أو السفن أو الطائرات المدنية، ويكون مزوداً بأسلحة خفيفة».
وأخيراً، كشفت أجهزة الاستخبارات البريطانية عن معلومات لمخططات «داعش» لتنفيذ هجمات في بريطانيا وأوروبا، عبر ما يعرف بـ«خلايا التماسيح». وقالت إنها «تدرس خطط هذه الخلايا التي تتكون من (عناصر نائمة) تتبع التنظيم وتنفذ أوامره».
وقالت تقارير غربية إن «تحقيقات بريطانيا جاءت عقب الكشف عن أن عبد اللطيف جميل محمد (36 عاماً)، قائد الجماعة المتطرفة، التي نفذت الهجوم الدامي في سريلانكا، عمل بناءً على أوامر تلقاها من (إرهابيين) في سوريا».
وأكد مراقبون أن «(الذئاب المنفردة) أو (الانفراديين) يقصد بهم تحول شخص أو اثنين أو 3 أو أكثر إلى مقاتلين يقومون باستخدام المتاح لديهم من أسلحة أو عتاد، دون وجود رابطة عضوية أو تنظيمية يمكن تتبعها، من خطوط عامة، أو مناشدات من التنظيم لأعضائه أو أنصاره، باستهداف دولة أو رعاياها بالقتل، كما حدث في استهداف المساجد والكنائس، والقتل بالدهس أو سكين المطبخ».
ولا يزال تسجيل الناطق باسم «داعش» أبو محمد العدناني، الذي دعا فيه عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم إلى قتل رعايا الدول في أي مكان، باستخدام أي سلاح مُتاح دون العودة إلى قيادة «داعش» أو حتى الانضمام إليه تنظيمياً، يأتي بثماره الآن، بحسب المراقبين.
في هذا الصدد، قالت دراسة مصرية حديثة إن «(داعش) اعتمد على نهج جديد في تنفيذ عملياته الإرهابية، وهو ما أطلق عليه (خلايا التماسيح)، وهو نهج أقرب إلى عمليات (الذئاب المنفردة)، وذلك ضمن محاولات التنظيم لمواجهة الخسائر التي تعرض لها أخيراً، وهو مصطلح يشير إلى توظيف (الخلايا النائمة) التابعة للتنظيم التي تعمل تحت الأرض لتنفيذ هجمات من وقت لآخر على معاقل وأهداف يحددها قادة التنظيم لهؤلاء».
ويشار إلى أن «خلايا التماسيح» استراتيجية تم الكشف عنها في إحدى الوثائق السرية التي تم العثور عليها عقب مواجهات بين عناصر من التنظيم والقوات الحكومية شمال شرقي سوريا، مارس (آذار) الماضي... وتتمثل في زيادة الهجمات الإرهابية عبر «الذئاب المنفردة» أو دعم «العائدين» من بؤر الصراع إلى بلدانهم، وتفجير المركبات، والاستهدافات، واختراق الحواسب، وهي خطط قد يتبعها «داعش» مستقبلًا، بحسب المراقبين.
وكشفت الدراسة التي أعدتها وحدة الرصد والتحليل بمرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة بدار الإفتاء المصرية، أن «من بين هذه الوثائق مُراسلات بين أحد أعضاء التنظيم يُدعى أبو طاهر الطاجيكي، يشرح فيها كيف يُمكن تشكيل (خلايا التماسيح)، وأهم أهدافها»... وأن «الطاجيكي تقدم إلى (داعش) بإنشاء ما يُسمى (مكتب العلاقات الخارجية لإدارة العمليات بأوروبا) لدعم الخلايا الجديدة التي ستتولى الهجوم على ما يعتبرهم (داعش) أعداءه».
وقال عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية: «ظهر أخيراً دور كتيبة عسكرية مقاتلة في صفوف (داعش) تسمى كتيبة (التماسيح) أو (خلايا التماسيح)، وهي عبارة عن مجموعات من (الانغماسيين)، تتكون من (رأس التمساح الأم)، وعائلة، وهم الأبناء، وتكون على شكل مثلث كامل الأضلاع في عمليات الهجوم الإرهابية»، مضيفاً أن «(خلايا التماسيح) مُهمتها الأساسية إزعاج أوروبا على غرار عمليات (الذئاب المنفردة)، وتعتبر هذه الكتيبة من أهم الكتائب المُقاتلة في الفترة الأخيرة»، لافتاً إلى أن «(خلايا التماسيح) أعلى مراحل الموت الداعشية، وأهم صور الانغماس هو الانغماس بالالتحام، وبالتلغيم، والتفخيخ، والعملية الانغماسية يُطلق عليها (المربع صفر) أو (العملية الميتة) لأنها تنتهي بنهاية الانتحاري». وأكد عبد المنعم أن «(داعش) يحاول أن يبث الرعب في نفوس الغربيين بـ(الانفراديين) أو (الذئاب المنفردة) عبر مواقع التواصل الاجتماعي»، موضحاً أن «دولاً كثيرة تتخوف حالياً من إقدام (الخلايا النائمة) أو (العائدين) على ممارسة العنف والإرهاب داخل حدودها».
في هذا الصدد، أوضحت الدراسة المصرية، أن «فكرة (خلايا التماسيح) تعتمد على تجهيز (انتحاريين) وتدريبهم على صناعة المتفجرات والتفجير والخطف، ودعم قراصنة التنظيم عبر مواقع الإنترنت... وهذه الفكرة تأتي في الوقت الذي خسر فيه التنظيم مواقعه المهمة في سوريا والعراق، وأن ذلك يُعد نقطة تحول تخدم التنظيم لتنفيذ العمليات الإرهابية خارج سيطرته».
وقال عبد المنعم إن «الانغماسي يرتدي حزاماً ناسفاً، أو يقوم بتفخيخ السيارات أو السفن أو الطائرات المدنية، ويكون مزوداً بأسلحة خفيفة، كما يزود بكبسولة للموت، حتى يكون على استعداد لو نفدت ذخيرته أو تعطل الحزام الناسف ساعة التفجير، للتخلص من حياته، بأن يبتلع هذه الكبسولة على الفور، حتى لا يتبعه أحد ولا يعرف من وراءه... ويطلق على هذه العملية (المربع صفر) أو (العملية الميتة) أي أول الخيط هو آخره على الإطلاق، وبذلك تنتهي العملية عند حدود هذا التمساح بالقتل، وانتهاء (النقطة صفر) بالمعاونين للتمساح الأم».
وعن مُنظر فكرة الانغماس الذي ابتدع بدعة التمساح، قال عبد المنعم: «يعتبر أبو الحسن الفلسطيني من أشهر من نظر لفكر الأعمال الإرهابية الانتحارية، وكان المفتي الشرعي لتنظيم (القاعدة)، ويقال عنه إنه العقل المفكر وقائد جرائم قتل وخطف وابتزاز وقع معظمها خلال السنوات الماضية؛ لكن على ما يبدو، فإن ما نُسب إليه حتى الآن لا يشكل إلا نسبة صغيرة من خطورته الحقيقية... وتردد في معظم المواقع الجهادية أنه اختفى منذ 4 أعوام تقريباً، وقد انتشر كثير من الشائعات حوله».
من جهته، قال اللواء محمد قشقوش، أستاذ الأمن القومي الزائر بأكاديمية ناصر العسكرية بمصر، إنه «يتم تجنيد عناصر (الذئاب المنفردة) عبر الإنترنت، كما يتم من خلال الإنترنت التعرف على الأهداف التي يضعها التنظيم لشن هجمات إرهابية، وتدريب (الذئاب) على صناعة القنابل الناسفة، واستخدام السلاح».
وسبق أن «حذر مسؤولون في الاتحاد الأفريقي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، من أن نحو 6 آلاف مقاتل في صفوف (داعش) عادوا إلى القارة السمراء. وفي فبراير (شباط) الماضي، أعلن مركز الدراسات الألماني (فيريل) أن عدد المقاتلين الذين يحملون جنسيات أوروبية وأميركية في التنظيم بلغ 21500، وأن عدد (العائدين) إلى دولهم بلغ 8500 شخص». وبث «داعش» أخيراً شريط فيديو وزعته «مؤسسة الفرقان» ظهر فيه زعيمه أبو بكر البغدادي بعد 5 سنوات من الاختفاء، وتوعد بالثأر لقتلى التنظيم، مؤكداً أن «الاعتداءات الأخيرة التي استهدفت سريلانكا في (عيد الفصح) جاءت (ثأراً) للباغوز السورية».
وقال خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الأصولية: «لا شك أن (العائدين) ليسوا مُجرد عناصر مهزومة فقط؛ فمنهم من أصيب بخيبة أمل بعدما تبين لهم وهم (الخلافة) وانهزام تنظيمهم؛ لكنهم لن يتخلوا عن (التكفير والتفجير) وأفكار التنظيم».


مقالات ذات صلة

الحساسيات العشائرية السورية تهدد النفوذ الإيراني في البوكمال

المشرق العربي صورة نشرها «المرصد السوري لحقوق الإنسان» لعناصر من الميليشيات الإيرانية

الحساسيات العشائرية السورية تهدد النفوذ الإيراني في البوكمال

تفجر التوتر في البوكمال في وقت تعمل فيه إيران على إعادة تموضع ميليشياتها في سوريا على خلفية الاستهداف الإسرائيلي لمواقعها داخل الأراضي السورية.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي نائب منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية ديفيد كاردين يتفقد مشروع معالجة مياه الصرف الصحي في قرية بحورة بمحافظة إدلب السورية يوم 14 مايو الماضي (أ.ب)

منسق الأمم المتحدة يطلق «استراتيجية التعافي المبكر» في سوريا

قال المنسق الأممي بدمشق إن «خطة التعافي» تغطي كل المحافظات السورية، وتشمل قطاعات الصحة والتعليم ومياه الشرب والصرف الصحي، و«من دون الكهرباء لا يمكن إنجاز شيء».

«الشرق الأوسط» (دمشق )
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

تشاد تنفي استهداف مدنيين خلال عملية ضد «بوكو حرام»

نفت الحكومة التشادية «بشدة» استهداف مدنيين خلال عمليتها ضد جماعة «بوكو حرام» في حوض بحيرة تشاد

«الشرق الأوسط» (نجامينا)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
تحليل إخباري مقاتلو «داعش» في شمال أفغانستان (وسائل الإعلام الأفغانية)

تحليل إخباري لماذا ينتج تنظيم «داعش - خراسان» محتوى إعلامياً باللغة الطاجيكية؟

لماذا تصدر خلية «داعش» الإعلامية نشرة جديدة باللغة الطاجيكية للمواطنين في طاجيكستان والعرقيات الطاجيكية في أفغانستان؟ هل لها تأثير ناجح على الرأي العام؟

عمر فاروق (إسلام آباد)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.