مر الأسبوع الأول من الدورة الحالية لمهرجان «كان» سريعاً بأفلام ذات أصوات أعلى من يقوله بعضها. في حالات أخرى، كانت الصور العاكسة للذات هي ما تسيطر على الوضع الماثل بحيث لم يكن صعباً التفرقة بين الفيلم ومخرجه أو بين الأنا المنعكسة على الشاشة وتلك التي تقف وراء الكاميرا.
وفي حين شهد عدد محدود من الأفلام العربية عروضها تمهيداً لعدد محدود آخر سيعرض في النصف الثاني، فإن القليل مما سجل من تعليقات حولها يمكن اعتباره إيجابياً علماً بأن هذا الإيجاب ينتمي إلى شغل الإعلام وليس إلى عمق العملية النقدية التي بات هناك عدد أقل من الذين يمارسونه.
فعلى سبيل المثال الفيلم المتقدم باسم الجزائر وعنوانه «بابيشا» لمخرجته منية مدّور. فيلم أول لسينمائية ساقها العمل وحسناته (على قلتها) إلى دخول مسابقة «نظرة ما» التي هي بمثابة المسابقة الثانية في الأهمية.
إنه فيلم بقلب شجاع وقضية حارة تقع أحداثه في مطلع التسعينات عندما كانت البلاد هناك تعيش ما عرف بـ«السنوات السوداء»، حيث استطاع المتشددون السيطرة على بقاع مختلفة من الجزائر وواجهوا القوات الحكومية بمعارك كبيرة، محاولين تغيير نظام الحكم من ديكتاتورية مدنية إلى ديكتاتورية دينية.
خلال هذه السنوات تتقدم حكاية «بابيشا» بصديقتين هما نديمة (لينا خضري) ووسيلة (شيرين بوتلة) وقد تسللتا من حرم الكلية الخاصة التي تدرسان فيها إلى سيارة تاكسي بسائقها العجوز، حيث ستنطلقان إلى حفلة راقصة في أحد الملاهي. تضع نديمة شريطا راقصاً في جهاز التسجيل وتطلق صوته عالياً وتبدأ وصديقتها الرقص. ليس هما فقط بل تلك الكاميرا التي تقفز في كل اتجاه، كما لو أن أحدهم وضع تحت قميص مدير التصوير، ليو ليفيفر، عقرباً.
بداية صارخة وصاخبة على أثرها مشهد لوصول السيارة إلى حاجز إسلامي. يتم قفل الشريط وتسارع الفتاتان إلى وضع ملاءات عليهما قبل أن تخلع الفتاتان إياها حال سماح الحاجز للسيارة بالعبور.
فصل أول من نحو ربع ساعة يؤسس لهاتين الشخصيتين ثم يليه المزيد من المقارنات بين الحرية التي تنشدانها وبين الجو العابق بالتشدد الذي تمر به تلك الفترة. قلب المخرجة، بطبيعة الحال، مع هاتين الفتاتين وباقي الفتيات المتطلعات إلى حرية مهددة. بذلك يصطاد الفيلم التعاطف الجاهز بالطبع بين المشاهدين الغربيين لكنه لا يمنح الاهتمام الكافي لتعميق ما يقع ولمنح الحكاية ما تستحقه من سرد بعيد عن الحياكة المتسارعة والتصوير الخاطف - خصوصاً - تلك الثرثرة الكلامية التي تفيض عن الحاجة، سنرى مثيلها في فيلم عبد اللطيف كشيش المقبل «حبي، مكتوب»، ما يمنع المشاهد من التمتع بمشاهد تتعمق فيها المفادات. هناك مشهدان فقط من هذا النوع وكلاهما يلي فاجعة تقع في الحكاية.
- من العام إلى الذات
لن يكون مثيراً للعجب إذا ما حصد هذا الفيلم جائزة رئيسية بفضل وجود المخرجة اللبنانية نادين لبكي على رأس لجنة تحكيم هذه المسابقة. لكن ذلك لن يكون من دون تنافس أفلام أخرى كثير منها تطرح مثل هذه المواضيع وتصنعها مواهب جديدة بمستويات مختلفة يحتل فيها «بابيشا» مكان الوسط.
هناك بالطبع حيوية ناتجة عن كيفية تصوير الفيلم. تلك الكاميرا سريعة الحركة التي تنتقل من الوجه إلى حقيبة يد ثم ترتفع إلى نافذة سيارة ثم تعبر أفقياً صوب وجه آخر تبقى العين منشغلة لكن المهارة المستخدمة ليست الجواب على فقدان الفيلم السبب في هذا المنهج. في «البائسون» الذي استعرضناه يوم أمس، الحركة ذاتها لكنها مرتبطة بمحاولة المخرج لادج لي تحقيق فيلم روائي بنفس تسجيلي ما يجعل استخدام الكاميرا على هذا النحو مبرراً.
هذا كله عكس ما نراه في «ألم ومجد» للإسباني بدرو ألمودوفار. هذا المخرج قدم للمهرجان رهطاً كبيراً من إنجازاته عاماً بعد عام ولم تمنحه أي من لجان التحكيم المتعاقبة جائزة ذهبية. إذا ما كان سيفوز بها هذا العام، عن فيلمه الجديد هذا، فإن ذلك سيكون على حساب أعمال أخرى مهمة ومنتظرة ليس أقلها فيلم الأميركي ترنس مالك «حياة مخبوءة».
فيلم ألمودوفار هو فيلم ذاتي كما «روما» لألفونسو كوارون (الذي حاز على أكثر من 100 جائزة بدءاً بذهبية مهرجان فينيسيا وانتهاء بأوسكار أفضل فيلم أجنبي). على أن العلاقة تتوقف هنا، فالفيلم السابق يستعيد حكاية تقع بأسرها حين كان المخرج المكسيكي صغيراً، بينما يقدم ألمودوفار على تقديم حكاية خيالية حول مخرج سينمائي وصل إلى مرحلة من العمر بات فيها مرتعا لشكوك ومشاعر الذنب والهجوم من ذكريات الأمس تأتي لتجعله غير واثق مما قام به في حياته ومن اختياراته.
- الفرد والمجتمع
وإذا ما كانت المسابقة الرسمية بدأت هذا العام بفيلم الأميركي جيم جارموش «الموتى لا يموتون» فإن مسابقة «نظرة ما» بدأت بفيلم تولته المصرية الأصل منية شكري ما يجعل التظاهرة تحمل «مُنيتين» كل منها وراء موضوع نسائي في محوره.
هذا الفيلم، وعنوانه «حب أخوي»، ليس عربياً إلا من خلال شخصياته فحكايته (كما إنتاجه) كندي وبيئته وقضاياه اليومية. يدور حول امرأة اسمها صوفيا (آن إليزابيث بوسي) تضطر للحلول في بيت شقيقها الأكبر سنا كريم (باتريك إيفون) بعدما فشلت في إيجاد عمل مناسب لسنوات درستها الفلسفية. هو سعيد بلقائهما المتجدد لكنها مشغولة بالتفكير في الديون التي تراكمت عليها وبسنواتها المهدورة. وهذا اللقاء ينجب عن شيئين وقوع كريم في حب صديقة شقيقته، ورهط من الحوار الذي لا يتأخر ثانية. مثل «بابيشا» يبدو كما لو أن أفلام اليوم تُصنع لكي تُسمع وليس لكي تُرى.
«روما» الذي ورد ذكره قبل قليل يعود للذاكرة في فيلم آخر من تلك الأعمال الأولى لمخرجيها، أو، بالأحرى، لمخرجاتها كون «أغنية بلا اسم» هو من تحقيق ميليا ليون التي تعاين وضعاً اجتماعياً صعباً بطلته امرأة شابة حامل علها أن تبحث عن حياة أفضل لها ولوليدها.
الفيلم من إنتاج بيرو وبطلته جورجينا هي من مواطني البلاد الأصليين (أي غير المهاجرين الإسبان الذين حلوا على البلاد بعد اكتشاف القارة). جورجينا غارقة في مشكلتها كما في تقاليدها والمتوارث من العادات والمفاهيم، وتتجه بكل ذلك صوب العاصمة ليما لعلها تستطيع أن تنجز ما لا تحتمل البيئة إنجازه لها من عمل أو تأمين حياة مقبولة. تضع الفتاة حملها في عيادة وهمية لتكتشف أنها وقعت في براثن عصابة تجار أطفال فتنطلق للبحث عنه خلال فترة سياسية داكنة من حياة البلاد (ثمانينات القرن الماضي).
الحكاية حقيقية كذلك ما ورد في «روما» والفتاة الشابة هندية الجذور ولديها مشكلة حمل نتيجة علاقة غير مشروعة ومستقبل غامض وهذا ما يرد في فيلم كوارون. كذلك الفيلم بالأبيض والأسود كما حال الفيلم السابق. لكن ما يتميز به «أغنية بلا اسم» هو عدم الاكتفاء بالملامح الواردة للوضع السياسي الذي صاحب أحداث الفترة التي يعرضها الفيلم بل المضي في التأكيد على تأثيرها على الفرد والمجتمع.
معاناة الشخصيات التي ذكرناها آنفاً تختلف من فيلم لآخر.
تلك الواردة في فيلم «بابيشا» تبدو مفبركة بالمقارنة مع تلك الواردة في فيلم «أغنية بلا اسم». وما يدور في بال بطل «ألم ومجد» أو ما يعايشه كريم وصوفيا في «حب أخوي» لا يصل إلى ما يعرضه البريطاني كن لوتش في فيلمه الجديد «آسف، افتقدناك» (Sorry We Missed You).
«على السطح» هو فيلم آخر من أفلام كن لوتش التي تمعن في طرح موضوع محاك حول شخصيات من قاع الحياة البريطانية. من تلك القاعدة الأكثر عدداً من كل ما نراه ماثلاً أو نفكر به حين ننظر إلى حياة المدينة من قممها والأقل تعرضاً لكشف ما تعانيه من مصاعب في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها.
لكن ما إن يتخطى الفيلم نصف ساعته الأولى من رسم الشخصيات وتأسيس أماكنها في الوضع الذي تعايشه حتى يتبلور الفيلم كعمل لا يمكن تجاهل قيمته لا الفنية ولا الاجتماعية.
يدور «آسف افتقدناك» حول رجل يلتحق بعمل في شركة خاص لتوزيع البريد والطرود. هناك شروط صعبة لقاء أجر ضئيل. على من يعمل في هذه المؤسسة أن يبدأ باكرا ويعود باكراً وقد سلم كل ما لديه من مهام. وفي كل مرّة يقوم جهاز قيمته 1000 جنيه بتسجيل كل تفاصيل عمله. الأوقات والخدمات والأماكن التي توقف عندها وتوقيع الذين تسلموا بريدهم. لكن الجانب الآخر من حياة هذا الرجل الذي ينطلق بشغف لتأمين عمله ضمن تلك الشروط وسواها هو ذلك الذي يقع في كنف عائلته. لقد أجبر زوجته على بيع سيارتها لكي يشتري السيارة التي سيعمل عليها كونهما لا يملكان المبلغ المطلوب ولا يستطيعان الاستدانة من المصرف. ابنهما المراهق صعب المراس وابنته الصغيرة خائفة وهي تلحظ الفاقة التي تعيشها العائلة والخلافات التي تنشب بين أبيها وشقيقها.
لوتش يمنح الأم قدراً كبيراً من الاهتمام. عملها هو الإشراف على تمريض ومداواة وتنظيف العجزة والمقعدين في منازلهم المتناثرة في بقع مختلفة من المنطقة. تركب الحافلة وتدخل البيوت وتقوم بما تستطيع وبأمانة لكن العمل شاق والناتج قليل والحياة العائلية تتمزق تحت ناظريها كما تحت ناظري زوجها.
سيعرض المخرج العائلة لمحن كبيرة - صغيرة كهذه طوال الوقت لكنه، وكعادته، لن يسقط في الميلودراما ولا في لعبة التعاطف الساذجة صوب أبطاله. ما يفعله أصعب من ذلك بكثير. إنه يلغي الدراما التي يعرضها ويستبدلها من خلال إيقاع الحياة. حين يلغي الدراما يلغي كذلك أي تمثيل درامي وبل أي تصوير يخرج عن نطاق تسجيل ما يقع في الضوء الطبيعي له. الناتج فيلم يحكي حكاية بسرد شبه تسجيلي يصب فيه، كالعادة، جم غضبه على الوضع القائم الذي لا يمكن فيه لشخصياته أن تجد عطف المؤسسات ولا سبيلاً للخروج من أزماتها المعيشية التي تنسف استقرار حياتها.
النهاية الرائعة التي يختارها هنا تصوّر رب الأسرة وهو ينطلق بجروحه (كان هوجم من قبل ثلاثة أشخاص وتم سرقة طروده ما أدى إلى توقفه عن العمل وخسارة 100 جنيه يومياً بالإضافة إلى كسر جهازه الذي أؤتمن عليه. سوف يقوم الآن بالتوجه للعمل وعلى وجهه ويديه ضمادات لأنه، وبكل بساطة لن يستطع البقاء في المنزل بانتظار الشفاء.
في مهرجان «كان» (6): أفلام اجتماعية بشخصيات تتألم جراء محنها المختلفة
حصيلة الأسبوع الأول... أعمال تُصنع لكي تُسمع لا لتُرى
في مهرجان «كان» (6): أفلام اجتماعية بشخصيات تتألم جراء محنها المختلفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة