في مهرجان «كان» (6): أفلام اجتماعية بشخصيات تتألم جراء محنها المختلفة

حصيلة الأسبوع الأول... أعمال تُصنع لكي تُسمع لا لتُرى

أنطونيو بانديراس في «ألم ومجد»
أنطونيو بانديراس في «ألم ومجد»
TT

في مهرجان «كان» (6): أفلام اجتماعية بشخصيات تتألم جراء محنها المختلفة

أنطونيو بانديراس في «ألم ومجد»
أنطونيو بانديراس في «ألم ومجد»

مر الأسبوع الأول من الدورة الحالية لمهرجان «كان» سريعاً بأفلام ذات أصوات أعلى من يقوله بعضها. في حالات أخرى، كانت الصور العاكسة للذات هي ما تسيطر على الوضع الماثل بحيث لم يكن صعباً التفرقة بين الفيلم ومخرجه أو بين الأنا المنعكسة على الشاشة وتلك التي تقف وراء الكاميرا.
وفي حين شهد عدد محدود من الأفلام العربية عروضها تمهيداً لعدد محدود آخر سيعرض في النصف الثاني، فإن القليل مما سجل من تعليقات حولها يمكن اعتباره إيجابياً علماً بأن هذا الإيجاب ينتمي إلى شغل الإعلام وليس إلى عمق العملية النقدية التي بات هناك عدد أقل من الذين يمارسونه.
فعلى سبيل المثال الفيلم المتقدم باسم الجزائر وعنوانه «بابيشا» لمخرجته منية مدّور. فيلم أول لسينمائية ساقها العمل وحسناته (على قلتها) إلى دخول مسابقة «نظرة ما» التي هي بمثابة المسابقة الثانية في الأهمية.
إنه فيلم بقلب شجاع وقضية حارة تقع أحداثه في مطلع التسعينات عندما كانت البلاد هناك تعيش ما عرف بـ«السنوات السوداء»، حيث استطاع المتشددون السيطرة على بقاع مختلفة من الجزائر وواجهوا القوات الحكومية بمعارك كبيرة، محاولين تغيير نظام الحكم من ديكتاتورية مدنية إلى ديكتاتورية دينية.
خلال هذه السنوات تتقدم حكاية «بابيشا» بصديقتين هما نديمة (لينا خضري) ووسيلة (شيرين بوتلة) وقد تسللتا من حرم الكلية الخاصة التي تدرسان فيها إلى سيارة تاكسي بسائقها العجوز، حيث ستنطلقان إلى حفلة راقصة في أحد الملاهي. تضع نديمة شريطا راقصاً في جهاز التسجيل وتطلق صوته عالياً وتبدأ وصديقتها الرقص. ليس هما فقط بل تلك الكاميرا التي تقفز في كل اتجاه، كما لو أن أحدهم وضع تحت قميص مدير التصوير، ليو ليفيفر، عقرباً.
بداية صارخة وصاخبة على أثرها مشهد لوصول السيارة إلى حاجز إسلامي. يتم قفل الشريط وتسارع الفتاتان إلى وضع ملاءات عليهما قبل أن تخلع الفتاتان إياها حال سماح الحاجز للسيارة بالعبور.
فصل أول من نحو ربع ساعة يؤسس لهاتين الشخصيتين ثم يليه المزيد من المقارنات بين الحرية التي تنشدانها وبين الجو العابق بالتشدد الذي تمر به تلك الفترة. قلب المخرجة، بطبيعة الحال، مع هاتين الفتاتين وباقي الفتيات المتطلعات إلى حرية مهددة. بذلك يصطاد الفيلم التعاطف الجاهز بالطبع بين المشاهدين الغربيين لكنه لا يمنح الاهتمام الكافي لتعميق ما يقع ولمنح الحكاية ما تستحقه من سرد بعيد عن الحياكة المتسارعة والتصوير الخاطف - خصوصاً - تلك الثرثرة الكلامية التي تفيض عن الحاجة، سنرى مثيلها في فيلم عبد اللطيف كشيش المقبل «حبي، مكتوب»، ما يمنع المشاهد من التمتع بمشاهد تتعمق فيها المفادات. هناك مشهدان فقط من هذا النوع وكلاهما يلي فاجعة تقع في الحكاية.
- من العام إلى الذات
لن يكون مثيراً للعجب إذا ما حصد هذا الفيلم جائزة رئيسية بفضل وجود المخرجة اللبنانية نادين لبكي على رأس لجنة تحكيم هذه المسابقة. لكن ذلك لن يكون من دون تنافس أفلام أخرى كثير منها تطرح مثل هذه المواضيع وتصنعها مواهب جديدة بمستويات مختلفة يحتل فيها «بابيشا» مكان الوسط.
هناك بالطبع حيوية ناتجة عن كيفية تصوير الفيلم. تلك الكاميرا سريعة الحركة التي تنتقل من الوجه إلى حقيبة يد ثم ترتفع إلى نافذة سيارة ثم تعبر أفقياً صوب وجه آخر تبقى العين منشغلة لكن المهارة المستخدمة ليست الجواب على فقدان الفيلم السبب في هذا المنهج. في «البائسون» الذي استعرضناه يوم أمس، الحركة ذاتها لكنها مرتبطة بمحاولة المخرج لادج لي تحقيق فيلم روائي بنفس تسجيلي ما يجعل استخدام الكاميرا على هذا النحو مبرراً.
هذا كله عكس ما نراه في «ألم ومجد» للإسباني بدرو ألمودوفار. هذا المخرج قدم للمهرجان رهطاً كبيراً من إنجازاته عاماً بعد عام ولم تمنحه أي من لجان التحكيم المتعاقبة جائزة ذهبية. إذا ما كان سيفوز بها هذا العام، عن فيلمه الجديد هذا، فإن ذلك سيكون على حساب أعمال أخرى مهمة ومنتظرة ليس أقلها فيلم الأميركي ترنس مالك «حياة مخبوءة».
‫فيلم ألمودوفار هو فيلم ذاتي كما «روما» لألفونسو كوارون (الذي حاز على أكثر من 100 جائزة بدءاً بذهبية مهرجان فينيسيا وانتهاء بأوسكار أفضل فيلم أجنبي). على أن العلاقة تتوقف هنا، فالفيلم السابق يستعيد حكاية تقع بأسرها حين كان المخرج المكسيكي صغيراً، بينما يقدم ألمودوفار على تقديم حكاية خيالية حول مخرج سينمائي وصل إلى مرحلة من العمر بات فيها مرتعا لشكوك ومشاعر الذنب والهجوم من ذكريات الأمس تأتي لتجعله غير واثق مما قام به في حياته ومن اختياراته.‬
‬- الفرد والمجتمع‫‬
وإذا ما كانت المسابقة الرسمية بدأت هذا العام بفيلم الأميركي جيم جارموش «الموتى لا يموتون» فإن مسابقة «نظرة ما» بدأت بفيلم تولته المصرية الأصل منية شكري ما يجعل التظاهرة تحمل «مُنيتين» كل منها وراء موضوع نسائي في محوره.‬
هذا الفيلم، وعنوانه «حب أخوي»، ليس عربياً إلا من خلال شخصياته فحكايته (كما إنتاجه) كندي وبيئته وقضاياه اليومية. يدور حول امرأة اسمها صوفيا (آن إليزابيث بوسي) تضطر للحلول في بيت شقيقها الأكبر سنا كريم (باتريك إيفون) بعدما فشلت في إيجاد عمل مناسب لسنوات درستها الفلسفية. هو سعيد بلقائهما المتجدد لكنها مشغولة بالتفكير في الديون التي تراكمت عليها وبسنواتها المهدورة. وهذا اللقاء ينجب عن شيئين وقوع كريم في حب صديقة شقيقته، ورهط من الحوار الذي لا يتأخر ثانية. ‬مثل «بابيشا» يبدو كما لو أن أفلام اليوم تُصنع لكي تُسمع وليس لكي تُرى.‬
«روما» الذي ورد ذكره قبل قليل يعود للذاكرة في فيلم آخر من تلك الأعمال الأولى لمخرجيها، أو، بالأحرى، لمخرجاتها كون «أغنية بلا اسم» هو من تحقيق ميليا ليون التي تعاين وضعاً اجتماعياً صعباً بطلته امرأة شابة حامل علها أن تبحث عن حياة أفضل لها ولوليدها.‬
الفيلم من إنتاج بيرو وبطلته جورجينا هي من مواطني البلاد الأصليين (أي غير المهاجرين الإسبان الذين حلوا على البلاد بعد اكتشاف القارة). جورجينا غارقة في مشكلتها كما في تقاليدها والمتوارث من العادات والمفاهيم، وتتجه بكل ذلك صوب العاصمة ليما لعلها تستطيع أن تنجز ما لا تحتمل البيئة إنجازه لها من عمل أو تأمين حياة مقبولة. تضع الفتاة حملها في عيادة وهمية لتكتشف أنها وقعت في براثن عصابة تجار أطفال فتنطلق للبحث عنه خلال فترة سياسية داكنة من حياة البلاد (ثمانينات القرن الماضي).‬
الحكاية حقيقية كذلك ما ورد في «روما» والفتاة الشابة هندية الجذور ولديها مشكلة حمل نتيجة علاقة غير مشروعة ومستقبل غامض وهذا ما يرد في فيلم كوارون. كذلك الفيلم بالأبيض والأسود كما حال الفيلم السابق. لكن ما يتميز به «أغنية بلا اسم» هو عدم الاكتفاء بالملامح الواردة للوضع السياسي الذي صاحب أحداث الفترة التي يعرضها الفيلم بل المضي في التأكيد على تأثيرها على الفرد والمجتمع. ‬
معاناة الشخصيات التي ذكرناها آنفاً تختلف من فيلم لآخر. ‬
تلك الواردة في فيلم «بابيشا» تبدو مفبركة بالمقارنة مع تلك الواردة في فيلم «أغنية بلا اسم». وما يدور في بال بطل «ألم ومجد» أو ما يعايشه كريم وصوفيا في «حب أخوي» لا يصل إلى ما يعرضه البريطاني كن لوتش في فيلمه الجديد «آسف، افتقدناك» (Sorry We Missed You).‬
«على السطح» هو فيلم آخر من أفلام كن لوتش التي تمعن في طرح موضوع محاك حول شخصيات من قاع الحياة البريطانية. من تلك القاعدة الأكثر عدداً من كل ما نراه ماثلاً أو نفكر به حين ننظر إلى حياة المدينة من قممها والأقل تعرضاً لكشف ما تعانيه من مصاعب في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها.‬
لكن ما إن يتخطى الفيلم نصف ساعته الأولى من رسم الشخصيات وتأسيس أماكنها في الوضع الذي تعايشه حتى يتبلور الفيلم كعمل لا يمكن تجاهل قيمته لا الفنية ولا الاجتماعية.‬
يدور «آسف افتقدناك» حول رجل يلتحق بعمل في شركة خاص لتوزيع البريد والطرود. هناك شروط صعبة لقاء أجر ضئيل. على من يعمل في هذه المؤسسة أن يبدأ باكرا ويعود باكراً وقد سلم كل ما لديه من مهام. وفي كل مرّة يقوم جهاز قيمته 1000 جنيه بتسجيل كل تفاصيل عمله. الأوقات والخدمات والأماكن التي توقف عندها وتوقيع الذين تسلموا بريدهم. لكن الجانب الآخر من حياة هذا الرجل الذي ينطلق بشغف لتأمين عمله ضمن تلك الشروط وسواها هو ذلك الذي يقع في كنف عائلته. لقد أجبر زوجته على بيع سيارتها لكي يشتري السيارة التي سيعمل عليها كونهما لا يملكان المبلغ المطلوب ولا يستطيعان الاستدانة من المصرف. ابنهما المراهق صعب المراس وابنته الصغيرة خائفة وهي تلحظ الفاقة التي تعيشها العائلة والخلافات التي تنشب بين أبيها وشقيقها. ‬
لوتش يمنح الأم قدراً كبيراً من الاهتمام. عملها هو الإشراف على تمريض ومداواة وتنظيف العجزة والمقعدين في منازلهم المتناثرة في بقع مختلفة من المنطقة. تركب الحافلة وتدخل البيوت وتقوم بما تستطيع وبأمانة لكن العمل شاق والناتج قليل والحياة العائلية تتمزق تحت ناظريها كما تحت ناظري زوجها.‬
سيعرض المخرج العائلة لمحن كبيرة - صغيرة كهذه طوال الوقت لكنه، وكعادته، لن يسقط في الميلودراما ولا في لعبة التعاطف الساذجة صوب أبطاله. ما يفعله أصعب من ذلك بكثير. إنه يلغي الدراما التي يعرضها ويستبدلها من خلال إيقاع الحياة. حين يلغي الدراما يلغي كذلك أي تمثيل درامي وبل أي تصوير يخرج عن نطاق تسجيل ما يقع في الضوء الطبيعي له. الناتج فيلم يحكي حكاية بسرد شبه تسجيلي يصب فيه، كالعادة، جم غضبه على الوضع القائم الذي لا يمكن فيه لشخصياته أن تجد عطف المؤسسات ولا سبيلاً للخروج من أزماتها المعيشية التي تنسف استقرار حياتها.‬
النهاية الرائعة التي يختارها هنا تصوّر رب الأسرة وهو ينطلق بجروحه (كان هوجم من قبل ثلاثة أشخاص وتم سرقة طروده ما أدى إلى توقفه عن العمل وخسارة 100 جنيه يومياً بالإضافة إلى كسر جهازه الذي أؤتمن عليه. سوف يقوم الآن بالتوجه للعمل وعلى وجهه ويديه ضمادات لأنه، وبكل بساطة لن يستطع البقاء في المنزل بانتظار الشفاء.‬


مقالات ذات صلة

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

سينما أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

عد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك.

محمد رُضا (نيويورك)
يوميات الشرق من كواليس فيلم «المستريحة» (إنستغرام ليلى علوي)

أفلام مصرية جديدة تراهن على موسم «رأس السنة»

تُراهن أفلام مصرية جديدة على موسم «رأس السنة»، من خلال بدء طرحها في دور العرض قبيل نهاية العام الحالي (2024)، وأبرزها «الهنا اللي أنا فيه»، و«الحريفة 2».

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق أحمد حلمي مع زينة عبد الباقي ووالدها وأبطال فيلمها (الشركة المنتجة للفيلم)

نجوم مصريون يدعمون ابنة أشرف عبد الباقي في تجربتها الإخراجية الأولى

حرص عدد كبير من نجوم الفن المصريين على دعم المخرجة الشابة زينة عبد الباقي ابنة الفنان أشرف عبد الباقي خلال العرض الخاص لفيلمها الروائي الطويل الأول «مين يصدق»

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق الفنان أمير المصري في «مهرجان القاهرة السينمائي» (صفحته على «إنستغرام»)

أمير المصري لـ«الشرق الأوسط»: خضت تدريبات شاقة من أجل «العملاق»

أكد الفنان المصري - البريطاني أمير المصري أنه يترقب عرض فيلمين جديدين له خلال عام 2025، هما الفيلم المصري «صيف 67» والبريطاني «العملاق».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

في خطوة عدّها الاتحاد الأوروبي «علامة فارقة في الشراكة الثقافية مع ليبيا»، يواصل مهرجان للأفلام الأوروبية عرض الأعمال المشاركة في العاصمة طرابلس حتى الخميس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».