بريان هوك... المحامي والدبلوماسي المولج ملف إيران

يعمل في ظل إدارة «صقور» ترمب

بريان هوك... المحامي والدبلوماسي المولج ملف إيران
TT

بريان هوك... المحامي والدبلوماسي المولج ملف إيران

بريان هوك... المحامي والدبلوماسي المولج ملف إيران

حتى الآن، لا يمكن اعتبار برايان هوك، المسؤول الأميركي الحالي عن ملف إيران، أنه صاحب بصمات خاصة في ملف التفاوض معها. فهو باستثناء تصريحاته وتعليقاته على الأحداث المتتالية في هذا الملف، ردّد فيها رؤية الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بالكاد يمكن العثور على مواقف تضمّنت عروضاً أو اقتراحات منسوبة له، أو على الأقل تسريبات تشير إلى أنه منخرط في مفاوضات عبر أبواب خلفية أو علنية مع الجانب الإيراني.
السبب لا يعود إلى قصور في قدراته الخاصة، أو لافتقاره إلى التجربة السياسية والدبلوماسية في التعامل مع هذا الملف. بل، وببساطة شديدة، يكمن السبب في أن ترمب قرّر – على ما يبدو – اعتماد مقاربة جديدة في تعامله مع ملف إيران، وذلك انطلاقاً من إيمانه بأن ما تحقق حتى الآن، وبالأخص في ملفها النووي، لا يعكس ولا يتماشى مع نظرته الجديدة للعلاقات الدولية.
بريان هوك، الذي يشغل إضافة إلى منصبه كمسؤول الولايات المتحدة الخاص عن ملف إيران، هو أيضا كبير مستشاري السياسة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. وكان قبل تعيينه في منصبه قد شغل منصب مدير فريق تخطيط السياسات من 2017 وحتى 2018. وقبل ذلك أدار شركة استشارات استراتيجية دولية في واشنطن من العام 2009 وحتى عام 2017.
كذلك شغل هوك – وهو محام ممارس – في إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن مناصب مساعد وزير الخارجية للمنظمات الدولية، وكبير مستشاري سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ومساعد خاص لرئيس السياسة في مكتب كبير موظفي البيت الأبيض، ومحامي مكتب السياسة القانونية في وزارة العدل. بيد أنه رغم كونه أحد كبار الموظفين في الإدارات الجمهورية الأخيرة في البيت الأبيض، لم يخرج دوره في إدارة ترمب - كما سبقت الإشارة – عن الشق التسييري لكونه أحد الأمناء المولجين بتنفيذ رؤية الرئيس الخارجية وشعاراته الجديدة.

ملف إيران بيد ترمب
يوم 8 مارس (آذار) عام 2015 أعلن السيناتور الجمهوري توم كوتون (ولاية أركنسو) أنه وقّع مع 46 عضوا في مجلس الشيوخ رسالة مفتوحة إلى البرلمان الإيراني، حذّر فيها من أن أي اتفاق يُقرّ من دون موافقة المشرّعين الأميركيين، سيجري العودة عنه من قبل الرئيس الجديد «بجرة قلم». وبالفعل، هذا ما أقدم عليه ترمب بعدما ظلّ الاتفاق معلقاً من دون الحصول على موافقة مجلسي الشيوخ والنواب أو رفضهما، إذ أصدر الرئيس الأميركي أمراً تنفيذياً ألغى بموجبه توقيع الولايات المتحدة عليه.
مما يذكر أن ترمب قبل دخوله البيت الأبيض، هدّد بأنه سيعيد النظر بالاتفاق النووي، في سياق تأكيد التزامه بشعاره «أميركا أولا»، حتى ولو اضطره الأمر إلى التصادم مع الأعداء أو الخلاف مع الحلفاء والشركاء. وبخلاف الرؤساء الأميركيين السابقين، فالذي يتولى إدارة ملف التفاوض مع إيران اليوم، هو الرئيس ترمب نفسه معتمداً على «صقرين» في إدارته، بالتحديد، هما مايك بومبيو وزير خارجيته، وجون بولتون مستشاره للأمن القومي.
وبعد الانسحاب من الاتفاق في مايو (أيار) العام الماضي، ومن ثم، إعادة فرض غالبية العقوبات الأميركية على إيران، وبدلاً من أن يعلن هوك شروط واشنطن الـ12 لإعادة التفاوض معها، تولى بومبيو هذه المهمة. كذلك، ينقل عن أوساط في البيت الأبيض أن القنوات الجانبية لإيصال الرسائل إلى طهران، هي الآن في عهدة بولتون، بينما يعتقد أن دور هوك لم يحِن بعد لتولي هذه المهمة.
من جهة أخرى، كان من المعروف أن سلطنة عُمان استضافت المفاوضات الأميركية – الإيرانية في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وشهدت عاصمتها مسقط اجتماعات متعددة شارك فيها وزير الخارجية الأسبق جون كيري ونظيره الإيراني جواد ظريف مع مساعديهما. وكان يُنظَر في واشنطن إلى السلطنة، يومذاك، على أنها «وسيط نزيه» وفق مقاييس إدارة أوباما، نظراً لعلاقتها الخاصة مع إيران، وشراكتها معها في مشاريع نفطية وغازية ومالية. ولكن، اليوم اختلفت الصورة جذرياً مع إدارة ترمب. وعقوباته على إيران باتت تفرض على سلطنة عُمان الالتزام بها، ولا سيما أن «صقور» إدارته يعتبرون أنها كانت المعبر البرّي الرئيسي لشحنات الأسلحة الإيرانية التي وصلت إلى الانقلابيين الحوثيين في اليمن.
إلغاء سياسة أوباما
إن ما أطاح به ترمب في ملف التفاوض مع إيران هو عامل «الاستمرارية» في المؤسسة السياسية الأميركية. وهو نقيض ما دعا للحفاظ عليه وزير الدفاع السابق الجنرال جيم ماتيس، الذي قال خلال جلسة تثبيته في مجلس الشيوخ عام 2017 «رغم أن الاتفاق النووي ليس مثالياً، لكن عندما تعطي أميركا كلمتها فإنها تحافظ عليها وتعمل مع حلفائها». والاتفاق الذي وقعته إدارة أوباما يوم 14 يوليو (تموز) 2015، اعتبر على نطاق واسع، وخصوصاً من الأوروبيين، أنه اتفاق لإنهاء مخاوفهم من صعود الخطر النووي والباليستي الإيراني، في ظل القرار الاستراتيجي الذي اتخذته إدارة أوباما بالخروج من الشرق الأوسط، والانصراف نحو الخطر الآتي من شرق آسيا.
أوباما الذي اتُّهم بأنه اعتمد سياسة تجريبية في مقاربته لملف إيران، أعطى حيزاً واسعاً لمساعديه، وخصوصا للمفاوضين غير المرئيين، في مراحل إنضاج الاتفاق النووي، كما جرى عام 2014 بعد تكليفه سراً ويليام بيرنز مع فريق خاص لتولي هذه المهمة. في العلن كان الوزير كيري يقود مع مساعدته ويندي شيرمان، مسؤولة ملف إيران، التفاوض معها، إلا أن بيرنز - الذي يتكلم العربية والفرنسية والروسية - حصل من أوباما على فرصة لإنهاء، أو على الأقل، لتهدئة أكثر من 30 سنة من الخلاف بين واشنطن وطهران. وكان الرئيس السابق مقتنعاً بأن الاتفاق ممكن مع طهران، طالما أن خطرها الاستراتيجي لا يقع على واشنطن بل على الآخرين... عندما دخلت المنطقة مسارا من الأحداث، غيّر نهائياً «الستاتوس كو» (أو «الأمر الواقع») الذي كان قائما، بعد اندلاع ثورات ما سمي بـ«الربيع العربي» في نهاية العام 2010.
نعم، ثمة اختلاف جذري في الصورة التي رسمتها إدارة ترمب عن الخطر الذي تمثله إيران في المنطقة، بعدما تبين أن ما تم إنجازه لم يعط الأوروبيين ولا الأميركيين الأمن والأمان المأمول. فبدلاً من تشجيع «خطة العمل الشاملة المشتركة» (وهو الاسم الرسمي والتقني للاتفاق النووي) إيران على التحوّل إلى دولة طبيعية، حصل العكس تماماً. فلقد أظهرت السنوات التي تلت توقيع الاتفاق معها أن رفع العقوبات عنها أدى إلى تصعيدها أنشطتها المزعزعة للاستقرار السياسي في المنطقة، وإلى زيادة مستوى التهديد الذي تمثله، ليس لمصالح الولايات المتحدة ودول المنطقة وإسرائيل فحسب، بل وللأوروبيين أنفسهم أيضاً.
في محطات تدرج الضغوط الأميركية على إيران منذ عام وحتى اليوم، ساهم بريان هوك في شرح الاعتبارات التي تحكّمت بقرارات إدارة ترمب. وأعلن في آخر إيجاز صحافي له قبيل وصول وزير الخارجية بومبيو إلى منتجع سوتشي الروسي للقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن بومبيو حرص على وضع الشركاء الأوروبيين في المعلومات الاستخبارية والتهديدات المتصاعدة من إيران. وأضاف أن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين تجاوزوا تقريباً غالبية خلافاتهم حولها، باستثناء النظرة إلى الاتفاق النووي الذي «لم يعد يتطرّق إليه أحد».

لا لمفاوضة إيران
ترمب و«صقور» إدارته يعتقدون أن إعادة إيران «إلى بيت الطاعة» يشكل اختباراً لقدرة واشنطن على إعادة فرض سياساتها الدولية، انطلاقا من إعادة إحياء مبدأ التفاوض على قاعدة تنفيذ شروط مسبقة، قبل رفع أي عقوبات عنها. وهكذا فاوض ترمب زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، رافضاً رفع العقوبات المفروضة على بيونغ يانغ، حتى ولو أدى الأمر إلى تعليقها، كما جرى بالفعل، رغم لقائه به مرتين.
ومن نافلة القول إن إدارة ترمب تعتمد نهجاً سياسيا مختلفاً في سياساتها الخارجية، تحت شعار «استعادة المكانة والهيبة التي كانت تتمتع بها أميركا» - بعد الأضرار التي خلفتها سياسات الرئيس أوباما - على ما يؤكده ترمب ومسؤولو إدارته. وحقاً، فور تسلمه الرئاسة باشر ترمب إعادة النظر بمعظم الاتفاقات السياسية والاقتصادية والتجارية، سواء مع حلفاء الولايات المتحدة وجيرانها أو مع خصومها. ومارس ضغوطا غير مسبوقة حتى على حلف شمال الأطلسي «ناتو». كما أنه يواصل تنفيذ سياسته التجارية المثيرة للجدل والخلاف، ليس فقط مع الصين - كما يجري الآن بعدما فرض تعريفات جمركية إضافية عليها - بل ومع الحلفاء الأوروبيين في ضوء تهديداته بفرض تعريفات جديدة على واردات قطاع صناعة السيارات منهم.
ترمب الذي يتهمه خصومه الداخليون والخارجيون بأنه يسعى لفرض سياسة الهيمنة والإملاء، لا يعرض على إيران التفاوض. بل يريد منها إذعاناً كاملاً... بعدما لمس أن الرهانات عليها بعد رفع العقوبات عنها فشلت في تغيير سياساتها الإقليمية. حتى مواقف الديمقراطيين، التي كانت تدعم سياسات سلفه أوباما في هذا الملف، منيت بخيبة أمل كبرى عبّر بصراحة عنها العديد من المسؤولين السابقين والحاليين، الذين وقفوا عاجزين عن تبرير العودة إلى السياق نفسه في مقاربة ملف طهران النووي والإقليمي. وحسب تقرير من «معهد الدفاع عن الديمقراطية» في واشنطن، يبدو أن سياسة أقصى التصعيد ضد إيران تعمل بشكل جيد، وأن ترمب يُعد «لتحصين» قراراته بإجراءات قانونية وتشريعية تمنع - أو تخفف من إمكانية تراجع أي إدارة جديدة عن القرارات التي اتخذها في ملف إيران.

نصائح روسية مسمومة
في المقابل، أشارت أوساط إعلامية أميركية خلال الأسابيع الأخيرة إلى دور تلعبه روسيا لإجهاض نظام العقوبات، وإفشال الاصطفاف الذي نجحت إدارة الرئيس ترمب في حشده وراء موقفها في التعامل مع ملفي كوريا الشمالية وفنزويلا، واليوم مع إيران.
وهوك أشار في الإيجاز الصحافي نفسه يوم الاثنين الماضي إلى أن بومبيو، الذي بحث مع الحلفاء في «الناتو» ملفات فنزويلا وأوكرانيا وسوريا وليبيا، سيبحث مع الروس الملفات والمخاوف نفسها والدور الذي يلعبونه في هذا الإطار!
وكشفت هذه الأوساط أن نصيحة روسية على شكل «خديعة» أدت إلى إجهاض الانقلاب الهادئ الذي كان من المفترض أن ينهي أزمة فنزويلا، وذلك عبر «الإيحاء» بأن الرئيس نيكولاس مادورو يرغب في تسليم السلطة، لكن معارضين كبارا في قيادة الجيش يرفضون الاستسلام. ويبدو أن الإيرانيين يعتمدون النصيحة الروسية نفسها، عبر الإيحاء وتسريب الرسائل لواشنطن، بأن الرئيس حسن روحاني وحكومته وحتى المرشد علي خامنئي، لا يعارضون التفاوض.
لكن المعترضين هم قيادات متشددة في الحرس الثوري، وهم الذين يقفون وراء الاستنفار العسكري الذي أدى إلى إقدام الولايات المتحدة على إرسال قوات إلى المنطقة، ولعلهم يقفون وراء الاعتداء «المشبوه» على السفن التجارية في مياه دولة الإمارات العربية المتحدة والهجوم على منشأة نفطية في المملكة العربية السعودية.
ويذكّر هذا السلوك بالتكتيكات التي حاولت طهران اعتمادها للضغط على الأوروبيين من أجل حثهم على التمسك بحماية الاتفاق النووي رداً على خروج ترمب منه العام الماضي.
إذ حاولت تنفيذ عمليات اغتيال وتفجيرات استهدفت بعض معارضيها في دول أوروبية عدة، لإثارة الخوف لدى الأوروبيين، وإجبارهم على التمسك بالاتفاق، خوفاً من انفلات اليد الإيرانية مجدداً.
هوك، من جهته، أكد في ظل التطورات الأخيرة، أن واشنطن ليست قلقة من احتمال نشوب حرب مع إيران، بل تريد صفقة جديدة معها، مشيرا إلى أن الإجراءات الأميركية الأخيرة هي مجرد رد على «العدوان الإيراني». ثم أوضح أن «كل ما نقوم به دفاعي»، قبل أن يضيف أن إيران «لا تزال الراعي الرئيسي للإرهاب في العالم. وإذا كانوا يتصرفون بهذه الطريقة دون سلاح نووي، تخيل كيف سيتصرفون في حال امتلكوه».
وفي مقابلة سابقة أجرتها معه «الشرق الأوسط»، قال هوك «إن التوصل إلى اتفاق نووي معها يجب ألا يأتي على حساب الاستقرار الإقليمي وحقوق الإنسان، وهو ما نراه الآن». وأردف أن «ثمة رغبة متزايدة وكبيرة من الأوروبيين للضغط أكثر على طهران لوقف أنشطتها العدوانية في المنطقة وفي الدول المجاورة لها. يضغط القادة الأوروبيين على النظام الثوري لوقف انتهاكات حقوق مواطنيه والإرهاب الذي يمارسه في أوروبا... والدول الأوروبية لن تسمح للاتفاق النووي بأن يؤخرها عن القيام بذلك».

بطاقة هوية
- ولد بريان هوك عام 1968، أي أن عمره اليوم 51 سنة.
- يحمل درجة بكالوريوس في التسويق من جامعة سانت توماس بولاية مينيسوتا، وبكالوريوس في الفلسفة من كلية بوسطن، ثم إجازة القانون من كلية الحقوق بجامعة آيوا.
- مارس المحاماة في قطاع القانون التجاري ضمن شركة هوغان وهارتسون القانونية في العاصمة الأميركية واشنطن بين 1999 و2003. وأسس شركة لاتيتيود للاستشارات القانونية الدولية، أيضا في واشنطن، قبل أن يدخل مضمار السياسة.
- تولى منصب مساعد وزير الخارجية في أواخر 2008 وحتى مطلع 2009.
- في عهد دونالد ترمب تولى منصب مدير تخطيط السياسات في الخارجية أيام الوزير السابق ريكس تيلرسون حتى أول سبتمبر (أيلول) 2018.
- منذ سبتمبر 2018 يشغل منصب المسؤول الخاص عن ملف إيران.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.