تآكل انتخابي لـ«وديعة مانديلا» في جنوب أفريقيا

حصول الحزب الحاكم على أدنى غالبية في تاريخه «شوه» صورة فوزه

تآكل انتخابي لـ«وديعة مانديلا» في جنوب أفريقيا
TT

تآكل انتخابي لـ«وديعة مانديلا» في جنوب أفريقيا

تآكل انتخابي لـ«وديعة مانديلا» في جنوب أفريقيا

«لقد تعلّمنا الدرس»... اعتراف صريح من رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، بتراجع شعبية حزبه الحاكم «المؤتمر الوطني الأفريقي»، بعدما نال في الانتخابات العامة التي أجريت في 8 مايو (أيار) أدنى غالبية في تاريخ الاستحقاقات التعددية في البلاد - بعد انتهاء حقبة الفصل العنصري - على خلفية الاتهامات باستفحال الفساد والبطالة.
وبدا أن تزامن إعلان نتائج الانتخابات مع ذكرى مرور ربع قرن على تولّي أول رئيس أسود الحكم، وهو الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، دلالة واضحة على تآكل الوديعة المؤسسية لهذا المناضل الأفريقي، وهي وديعة تجسّدت في حزبه الذي هيمن على السلطة على مدى 25 سنة. ومن جانب آخر يرى بعض المراقبين أن الفوز الباهت للحزب متعلق بتاريخه أكثر مما يتصل بأدائه، الذي وصفه رامافوزا بأنه «كان دون المستوى».
أشارت نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في جنوب أفريقيا، التي فاز بها حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» ولكن بغالبية متراجعة، إلى نسبة مشاركة في الاقتراع بلغت 65 في المائة.
الحزب التاريخي الذي قاد نضال جنوب أفريقيا ضد الفصل العنصري حصل هذه المرة على 57.5 في المائة من الأصوات، وهي نسبة كافية لإعطاء الحزب غالبية برلمانية مطلقة تبلغ 230 مقعداً من أصل 400 يتألف منها مجلس النواب. غير أن هذا الفوز للحزب الذي قاده مانديلا، جاء دون حجم انتصاراته السابقة، إذ إن نصيبه من الأصوات لم يهبط إلى أقل من 60 في المائة في أي انتخابات خاضها منذ توليه السلطة.
يعد «المؤتمر الوطني الأفريقي»، فعلياً، حزب التحرير في جنوب أفريقيا والقوة الرائدة والرئيسية في إنجاز القضاء على الفصل العنصري قبل ربع قرن... وهذا واقع يكتسب أهمية كبيرة، خاصة بين الجيل الأكبر سناً من سكان البلاد.

صفعة غير مفاجئة
جدير بالذكر، أن الرئيس سيريل رامافوزا، الذي جاء إلى السلطة في فبراير (شباط) عام 2018 بعد سلسلة فضائح أجبرت الرئيس السابق جاكوب زوما على الاستقالة، واجه أزمات عدة خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وكان السبب المباشر الخلافات الحزبية الداخلية بسبب اتهامات مستمرة بالفساد طالت أسماء بارزة.
ولقد تعهد رامافوزا بمكافحة الفساد، واتخذ بالفعل خطوات في هذا السبيل، منها تأسيس محكمة خاصة لتسريع وتيرة استعادة أموال الدولة المنهوبة. بيد أن حماسة الناخبين للحزب، على ما يبدو، تراجعت، في ظل مؤشرات على أن آفة الفساد في جنوب أفريقيا ما زالت مستشرية. والدليل أن بعض السياسيين المتهمين بالفساد ما زالوا جزءا من مؤسسة الحزب الحاكم، بل، وشاركوا في الانتخابات التي نظمت بنظام القائمة. ووفقا لهرمان فيسرمان، أستاذ الإعلام في جامعة كيب تاون، الذي حاورته قناة «فوكس نيوز» الأميركية، ذكر أن «وجود مرشحين متهمين بالفساد شكّل مشكلة لرامافوزا، وأدى إلى تشكيك الناخبين في مدى مصداقيته في مكافحة الفساد».

الفساد... الفساد... الفساد
من ناحية ثانية، ظل رامافوزا على بعد مسافة كافية عن مزاعم الكسب غير المشروع، على الرغم من كونه زعيم الحزب الآن وكان نائب الرئيس في عهد سلفه المستقيل جاكوب زوما. ولكن رامافوزا (الذي يعد اليوم من كبار أثرياء جنوب أفريقيا) واجه مقاومة عنيدة في حملته لإقالة كبار المسؤولين الذين شوهتهم مزاعم الفساد. ثم إن الرئيس كان يأمل في أن يؤدي فوزه بغالبية تربو على 60 في المائة من الأصوات إلى تعزيز خطط مكافحة الفساد، لكن يبدو أن الناخبين ما زالوا متشككين فيه.
ويذهب البعض إلى أن القضية أبعد من الفساد، رغم أهميته، وتطرح تساؤلات متعلقة بمدى نجاح «المؤتمر الوطني الأفريقي» في تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي وعد به، في ظل ارتفاع معدل البطالة الذي يصل إلى نحو 27 في المائة حالياً وهو من أعلى المعدلات في العالم.
وبالإضافة إلى الإصلاح الاقتصادي، يمثل تحقيق المساواة مطلباً رئيسياً للغالبية، خاصة من جيل الشباب. إذ على الرغم من ظهور طبقة متوسطة سوداء، تعد جنوب أفريقيا الآن أكثر دول العالم من حيث تفاوت الثراء والمداخيل. ذلك أن أقل من 10 في المائة من سكان البلاد، وهم من البيض، يسيطرون على معظم ثرواتها. ومع أن نهاية نظام الفصل العنصري، الذي استمر حتى عام 1994، كانت تعني تمتّع الجميع في جنوب أفريقيا بحق التصويت، فإن انعدام المساواة من الناحية الاقتصادية بقي مشكلة عويصة في البلاد.

تذمّر الشباب
في سياق متصل، يبدو أن الشباب الذين ولدوا أحراراً وترعرعوا بعد نهاية الفصل العنصري، قد صوّتوا بحذر وقلق. فأبناء هذا الجيل ليسوا متفائلين بتحقيق المستقبل البراق الذي يعد به «المؤتمر الوطني الأفريقي»، بحسب كيليبوغا مافوني، أستاذ العلوم السياسية، بجامعة جنوب أفريقيا، الذي نقلت عنه الـ«بي بي سي» (هيئة الإذاعة البريطانية) قوله «قد لا يكون الجيل الأكبر متحمساً كما كان الحال عام 1994، مع أنهم عموماً راضون وسعداء... لكن الجيل الأصغر الذي ترعرع في ظل الديمقراطية غير راض عن وتيرة التغيير». وبالفعل، على الرغم من تحسن الأحوال منذ عام 1994 واتساع رقعة الطبقة الوسطى السوداء، فما زال البيض يسيطرون على أغلب ثروات البلاد، وما زالت الفجوة بين الأغنياء والفقراء... تتسع.
أيضاً في الملف الاقتصادي - المعيشي، ووفق دراسة أجراها البنك الدولي مؤخراً، فإن أغنى الأسر في جنوب أفريقيا أكثر ثراءً بعشرة أضعاف من الأسر الفقيرة، وما زالت مستويات الفقر الإجمالية تتبع الخطوط العرقية. وبالتالي، أدى هذا التباين العنصري والتفاوت الاقتصادي إلى دعم الأصوات الأكثر راديكالية في هذا الاقتراع.
هنا نشير إلى حزب المعارضة الرئيسي، وهو «التحالف الديمقراطي» (يمين وسط)، لم يستفد من تراجع «المؤتمر» إذ نال فقط 20.69 في المائة من الأصوات، ومن ثم أخفق في تحقيق مكسب ذي معنى، يمكن من مقارعة الحزب الحاكم، ربما بسبب سمعته التي ما زالت مرتبطة بأنه الحزب المفضل لليبراليين البيض. وعليه، يمكن القول، وبثقة، إن أكبر الفائزين في هذه الانتخابات هم الأحزاب الصغيرة التي تتبنى مواقف سياسية أكثر راديكالية وصرامة. إذ جذبت هذه الأحزاب، وخاصة حزب «مقاتلو الحرية من أجل الاقتصاد» اليساري المتشدد، بعض أصوات الشباب المتذمّر. ويدعو هذا الحزب لفرض سيطرة الدولة على الاقتصاد، ويقوده جوليوس ماليما الشخصية المثيرة للجدل الذي يطلق على نفسه لقب «رئيس الأركان». إذ ارتفع رصيد هذا الحزب في الانتخابات من 6 في المائة من الأصوات إلى 10.60 في المائة، وهو ارتفاع نسبي كبير في نظام برلماني مثل جنوب أفريقيا. ويرى كثيرون أن بعض سكان جنوب أفريقيا ممن سئموا مستويات قياسية من الحرمان وتفاوت المداخيل ونقص الفرص، ربما وجدوا في هذا الحزب اليساري الراديكالي الصوت الجديد الواعد بالتغيير، حتى لو كانت خياراته السياسية تثير قلق المستثمرين الأجانب ومجتمع الأعمال.

مراجعة ضرورية
عودة إلى مناخ الانتخابات... تبنّت الحملة الأساسية لحزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» قبيل المعركة الانتخابية استراتيجية مبنية على الاعتراف بالأخطاء، في ظل تحذيرات تقول إن حماسة الناخبين لـ«المؤتمر» متراجعة... وعلى قادته أن يقلقوا مما سيحمله المستقبل.
وحتى عقب الفوز لم يتخلَّ رامافوزا عن هذه الاستراتيجية، مؤكدا أمام مئات من مناصري الحزب في مقره العام بمدينة جوهانسبرغ، كبرى مدن البلاد: «لقد تعلّمنا درسنا... استمعنا إلى شعب جنوب أفريقيا، وسمعنا الرسالة الواضحة لما ينتظرونه منا».
ولإظهار جديته، أطلق الرئيس الجنوب أفريقي الوعود أمام شعبه مرة أخرى، قائلا: «كانوا يقولون: أيها الرئيس نريد وظائف... وهذا ما سنؤمنه، سنعمل بجد لإيجاد وظائف لشعبنا». وأردف: «كانوا يقولون إنهم يريدون أن يدير حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحكومة بالشكل الصحيح... كانوا يقولون: علينا أن نضع حدا للفساد، أيها الرفاق، سنضع حدا للفساد».
مع هذا، فإن كثيرا من الخبراء يحذرون من أنه سيواجه صراعا شاقا لتنفيذ الإصلاحات الموعودة للحكومة والحزب الحاكم. من هؤلاء دانييل سيلك، أحد المحللين السياسيين البارزين في جنوب أفريقيا، الذي يرى أن هناك «تحدّيات إلى حد كبير داخل حزبه السياسي... وسيتوجب عليه إقناع الجميع بأن الشركات المملوكة للدولة تحتاج إلى مراجعة جوهرية لعملياتها... وربما بملكيتها».
ويعتقد سيلك، الذي تحدث لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن «هذا التوجه سيتعارض مباشرة مع الرسالة التاريخية للمؤتمر الوطني الأفريقي القائلة إن الدولة يجب أن تكون مسؤولة عن الشركات المملوكة للدولة بأي ثمن، وسيجد صعوبة في محاولة إقناع حزبه بأن الدولة قد تضطر إلى التخلي عن بعض السيطرة التي كانت تتمتع بها دائماً».
كذلك من الصعوبات التي يتوقع أن تواجه رامافوزا، في ولايته الجديدة، استرضاء الفصائل الأكثر تطرفًا داخل حزبه حول قضايا مثل مصادرة الأراضي والبحث عن حل أكثر وسطية أو أقل تهديدا لهذه المشكلة، وفقا لـ«سيلك». ويتابع سيلك أن «تشكيل مجلس الوزراء سيكون حاسما، وهو أول علامة على ما إذا كان قادراً حقًا على توجيه حزبه نحو الوسط... وما إذا كان بإمكانه تعيين حكومة جديدة توفر التفاؤل وتسلط بعض الضوء على السياسة والحكم الفعال».
وحول قضايا الفساد، يعتقد سيلك أنه «سيكون الأمر صعباً نسبياً على المدى القصير ما لم يأخذ القانون طريقه بشأن التحقيق القضائي في الفساد، وكذلك اتباع سياسات تقوم على الحوكمة والشفافية والمساءلة داخل جنوب أفريقيا، وإجراءات صارمة ضد كبار المسؤولين».
في مطلق الأحوال، يعتبر المراقبون أن أفضل نتيجة لهذه الانتخابات أنها ستمنح «المؤتمر الوطني الأفريقي» فرصة أخيرة لبدء نمو اقتصادي، والضغط على الرئيس رامافوزا خلال السنوات الخمس المقبلة لمحاولة حدوث تحوّل ما... والمحافظة على الشعبية التي يتمتع بها. أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن البعض يرى أن السياسة الخارجية تراجعت في أهميتها بالنسبة للحزب الحاكم، رغم أن جنوب أفريقيا تعتبر نفسها جهة فاعلة دولية، وسياستها الخارجية مهمة بالنسبة لأفريقيا وكذلك للعالم، فهي ليست فقط زعيمة سياسية في «القارة السمراء»، بل تشغل أيضاً مقعداً تناوباً في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة للمرة الثالثة في التاريخ عامي (2019 - 2020)، وهي عضو في مجموعة «البريكس» التي تضم معها كلاً من البرازيل وروسيا والهند الصين.

جنوب أفريقيا... 25 سنة على إلغاء نظام الفصل العنصري
> تقع جنوب أفريقيا، كما يدل اسمها في الطرف الجنوبي لأفريقيا. وتمتد شواطئها بطول 2.798 كلم بين جنوب شرقي المحيط الأطلسي وجنوب شرقي المحيط الهندي. وتقع إلى الشمال منها ناميبيا وبوتسوانا وزيمبابوي؛ وإلى الشرق موزمبيق وسوازيلاند؛ وداخل حدودها تقع ليسوتو؛ كجيب تحيط به الأراضي الجنوب أفريقية. وهي أشبه ما تكون بقوس قزح من حيث تعدّديتها. ويتكلّم سكانها 11 لغة مستقلة كلها معترف بها رسمياً.
> تحتل المرتبة الـ25 بين دول العالم من حيث المساحة، ويقترب عدد سكانها من 53 مليون نسمة، (المرتبة الـ24 في العالم من حيث السكان).
> يعيش فيها أكبر عدد من المواطنين ذوي الأصول الأوروبية في أفريقيا، وأكبر تجمع سكاني هندي خارج آسيا، ما يجعلها من أكثر الدول تنوعا في السكان في القارة الأفريقية.
> النزاع العنصري بين الأقلية البيضاء والأكثرية السوداء شغل حيزاً كبيراً من تاريخ البلاد وسياساته. وباشر الحزب الوطني (حزب البيض الأكبر) باعتماد سياسة الفصل العنصري بعد فوزه بالانتخابات العامة عام 1948. وكان الحزب نفسه هو الذي بدأ بتفكيك هذه السياسة عام 1990 بعد صراع طويل مع الأغلبية السوداء بقيادة حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» ومجموعات مناهضة للعنصرية من البيض والهنود.
> عام 1992، صوّت البيض في استفتاء عام بالإيجاب طالبين بذلك من الحكومة المضي قدماً في تبني ديمقراطية غير عنصرية. وفي العام التالي ألغت الأمم المتحدة كل القيود التجارية المفروضة على جنوب أفريقيا. وعام 1994 أجريت في البلاد أول انتخابات ديمقراطية اختارت حكومة غير عنصرية برئاسة المناضل نيلسون منديلا.
> تعد جنوب أفريقيا الدولة الأكثر تطوراً من الناحية الصناعية في أفريقيا. وهي عضو في مجموعة «البريكس» التي تضم أيضاً روسيا والبرازيل والهند والصين، وفي «مجموعة العشرين» التي تعرف باسم «جي 20». لكن الفقر والبطالة يمثلان أبرز المشاكل التي تواجه الحكومة، إذ تعاني الغالبية السوداء من معدلات فقر عالية مقارنة بالآسيويين والبيض من أبناء البلاد. وارتفع معدل الفقر بين السود والمختلطين خلال الفترة ما بين 2011 إلى 2015 حسب تقارير حكومية.
> جنوب أفريقيا صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في أفريقيا، لكنها تعاني من تراجع النمو الاقتصادي مقارنة بالاقتصاديات الكبيرة النامية، ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى التوتر السياسي السائد في البلاد وانعدام الاستقرار وتراجع قطاع المناجم الذي يمثل إنتاجه أحد أهم صادراتها.
> في عام 2017 سجلت فيها نسبة 35.8 جريمة قتل لكل 100 ألف من السكان، وهذه من بين أعلى النسب عالمياً. وللعلم، فإنها في تزايد مطرد منذ خمس سنوات.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.