هنري لورنس: النظام في الشرق الأدنى والأوسط شكلته الجغرافيا السياسية

هنري لورنس  -  غلاف الكتاب
هنري لورنس - غلاف الكتاب
TT

هنري لورنس: النظام في الشرق الأدنى والأوسط شكلته الجغرافيا السياسية

هنري لورنس  -  غلاف الكتاب
هنري لورنس - غلاف الكتاب

ارتبط اسم المستشرق الفرنسي هنري لورنس في العالم العربي بكثير من مؤلفات البحث التاريخي الدقيقة، التي يتم التعاطي معها بوصفها مراجع توثيقية ثرية، كما يعد مشروعه الضخم «مسألة فلسطين» الذي يقع في عشرة أجزاء، أحد الأعمدة البحثية الرصينة التي تناولت القضية الفلسطينية بوصفها قضية مركزية عالمية.
حاز لورنس، مواليد 1954، على وسام جوقة الشرف من رتبة فارس، ومن أبرز مؤلفاته «أوروبا والعالم الإسلامي: تاريخ بلا أساطير»، و«الإمبراطورية وأعداؤها»، و«السلام والحرب في الشرق الأوسط»، و«الشرق العربي في عهد الهيمنة الأميركية»، و«بونابرت بين الإسلام والدولة اليهودية»، و«الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر: الاستشراق المتأسلم في فرنسا».
أخيرا أطلق هنري لورنس في باريس الجزء الثاني من كتابه «Les crises d'Orient «الأزمات الشرقية»، وهو خبر تلقاه المترجم المصري بشير السباعي قبل رحيله بفترة قليلة باحتفاء كبير، مُعلنا عن بدء نقله للجزء الثاني إلى العربية كما فعل في الجزء الأول من الكتاب، الذي صدر بالتعاون بين دار «آفاق» للنشر والمركز القومي للترجمة في مصر، ولكن حال موت السباعي المفاجئ دون مواصلة هذا المشروع مع غيره من مشاريعه.
تواصلت «الشرق الأوسط» مع المؤرخ هنري لورنس المقيم في باريس، عبر أسئلة أجاب عنها مكتوبة بلغته الفرنسية، كان على رأسها سؤال عن دافعه لمواصلة البحث في الأزمات الشرقية من خلال جزء ثان، وعنه يقول: «الغرض من الجزء الثاني هو إظهار أن النظام السياسي للشرق الأدنى والشرق الأوسط قد تم تشكيله إلى حد كبير من خلال الجغرافيا السياسية التي يرجع تاريخها إلى أواخر القرن الثامن عشر»، على حد تعبيره.
غطى الجزء الأول من «الأزمات الشرقية - المسألة الشرقية واللعبة الكبرى» الفترة من 1768 - 1914، ويتتبع فيه لورنس جذور تلك الأزمات ليؤكد بالبحث التاريخي أن الشرق الأوسط قد عرف، على مدار القرن التاسع عشر، ما سمِّي آنذاك بالأزمات الشرقية، وأن دورة انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط التي بدأت في عام 2003 وتسارعت عام 2011 ليست وضعا استثنائيا بقدر ما هي طور جديد في الأزمات الشرقية.
وأعاد لورنس في الجزء الأول من الكتاب النظر في تعدد جوانب الأزمات الشرقية، وارتباطها بالإعدادات المتعاقبة لصوغ الدول العثمانية، و«اللعبة الكبرى» التي دارت المواجهات فيها بين روسيا وبريطانيا العظمى، في الساحة الآسيوية، بين أواخر القرن الثامن عشر وعام 1914.
ومهّد لورنس في ختام الجزء الأول لعزمه على متابعة بحث فصول الأزمات الشرقية، فكتب في خاتمة الكتاب: «تتواصل التفاعلات القاتلة التي شهدها القرن التاسع عشر حتى هذه البداية للقرن الحادي والعشرين، مع تركيب جد قريب من تركيب المسألة الشرقية: صراعات دول عظمى، وتعارض نزعات قومية وديانات، وإرهاب مزمن، وبناء الدول الحديثة وتهشيشها. ومن ثم فالأمر مطروح للمتابعة».
وفي الجزء الثاني من الكتاب يتحدث لورنس عن التحديات التي واجهته، والتي عبر عنها في إطار نظرة أكثر شمولا مرتبطة بأدواته البحثية. يقول: «عملي الأساسي هو إعادة بناء خصوصيات وعموميات كل من المواقف التاريخية الموصوفة باستخدام جميع المصادر المتاحة لي، إنه عمل يحتاج لقدر كبير من التآلف»، على حد تعبيره. ولأن مشروع هنري لورنس الضخم المنقول للغة العربية ارتبط به بشكل وثيق اسم المترجم المصري الراحل بشير السباعي، فكان خبر وفاته المفاجئة صادما لهنري لورنس، الذي يقول عنه لـ«الشرق الأوسط»: «رحيل بشير السباعي خسارة كبيرة. كان صديقا عظيما وكان متحمسا لبحثي، بفضله ربما أكون المؤرخ الغربي الأكثر ترجمة باللغة العربية. فقد كان يعرف الفرنسية جيدا، وكان بالتأكيد كاتبا حقيقيا».
يشغل هنري لورنس الآن منصب أستاذ كرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكوليچ دو فرانس، منذ عام 2003. وحول هذا المنصب الذي يُمكنه من الرصد المستمر لسنوات طويلة لمعدلات الاهتمام والالتحاق الأكاديمي لدراسة تاريخ العالم العربي، يقول: «العالم العربي قريب من أوروبا جدا، والآن هو جزء من التركيب السكاني الأوروبي لمن هم من أصل عربي، ترتبط مصائرنا ارتباطا وثيقا، وبالتالي الحاجة إلى معرفة بعضنا بشكل أفضل»، ويضيف صاحب «مسألة فلسطين»: «نطبق في الجامعة في دراسة التاريخ معايير علمية صارمة للغاية، في وقت أصبح هناك ميل لدى كتاب شعبويين لاحتقار معايير البحث العلمي الحقيقي».


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».