صراع «القاعدة» و«داعش» ينتقل للإصدارات المرئية

«حديث العائدين» يُكذب «البادئ أظلم» ووكالة «أعماق»

«حديث العائدين» الذي بثه «القاعدة» عن «داعش» (الشرق الأوسط)
«حديث العائدين» الذي بثه «القاعدة» عن «داعش» (الشرق الأوسط)
TT

صراع «القاعدة» و«داعش» ينتقل للإصدارات المرئية

«حديث العائدين» الذي بثه «القاعدة» عن «داعش» (الشرق الأوسط)
«حديث العائدين» الذي بثه «القاعدة» عن «داعش» (الشرق الأوسط)

انتقل الصراع بين تنظيمي «داعش» و«القاعدة» من الأرض إلى الإصدارات المرئية؛ إذ بث «القاعدة» إصداراً صوتياً لـ«منشقين» عن «داعش» تحدثوا عن خداع التنظيم، في حين يواصل «داعش» بث إصدارات ومقاطع لتأكيد أنه «باق» رغم الهزائم، وأنه الأقوى بين التنظيمات الإرهابية. يقول خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، إن «حرب الإصدارات إفلاس، ومحاولة لإثبات الوجود في ظل فشل كبير».
صدر أخيراً إصدار مرئي بعنوان «حديث العائدين» مدته 12 دقيقة، ضم رواية لأحد عناصر «داعش»، ضمن 3 عناصر ظهروا في الإصدار. قالت عنهم «القاعدة» إنهم «انشقوا عن (داعش)، وتحدثوا عن الإعلام الكاذب للتنظيم»، أصدرته مؤسسة «هداية» للإنتاج الإعلامي التابعة لـ«القاعدة». وبدأ الإصدار المرئي الذي حمل أسماء حركية هي «قربان، وحارث، وأسامة» بنشيد احتوى على كلمات، تُذكر بالموت، وضرورة التوبة إلى الله، في تقليد لإصدارات «داعش» التي اعتاد عليها.
يأتي هذا في وقت لا تزال مشكلة «العائدين» من «داعش» تمثل إشكالية كبيرة، وتنشر القلق في أوروبا بعد انحسار التنظيم وفرار معظمه من العراق وسوريا. وقال مراقبون إن «مشكلة الدول تكمن في وجود تخوفات من إقدام الفارين من (داعش) على ممارسة العنف والإرهاب داخل حدودها، وبخاصة مع عدم وجود بيانات تفصيلية لهؤلاء (العائدين)».
وأكد المراقبون «عادة ما تبدأ شهادة (العائدين) من التنظيمات الإرهابية في أي إصدار صوتي بتسجيل موقف الندم، والحسرة على الاختيارات التي دفعتهم إلى ذاك الطريق، وأحياناً يتهمون أنفسهم بالسذاجة والسطحية».

- أكاذيب «داعش»
بدأ الحركي «قربان» حديثه، بأن «(داعش) تلاعب بالإعلام خلال حربه مع (القاعدة) في قيفة بالقريشية، إحدى مديريات محافظة البيضاء اليمنية، واستخدموا سلاح (بي كي) وهو سلاح رشاش متوسط يجمع صفات كل من الكلاشينكوف والغرينوجوف، وقتلوا عناصر (القاعدة) وأسروهم»، مستشهداً بإصدار «داعش» «البادئ أظلم» الذي كشف كذب التنظيم؛ إذ خطف 13 من «القاعدة»، وعندما ردت «القاعدة» اشتكى التنظيم بأنه مظلوم، مؤكداً أن «(داعش) يدعي زيفاً بأن التنظيم لا يزال ثابتاً في مواقعه للزج بعناصره في حرب لا يعرف أحد مداها، وقد انسحب من أكثر المواقع التي كان فيها، ويدعي أنه يسطر الملاحم... والحقيقة أنه يقتل الأطفال، ويقوم بإطلاق النار على عامة الناس، فقد قام التنظيم بقنص طفلة في قيفة لا تتجاوز العاشرة من عمرها في رأسها».
وواصل الحركي «قربان» حديثه قائلاً: «حتى نعلم مدى تلاعب الدواعش بالإعلام وكذبهم، لا بد من مشاهدة مقطع لوكالة (أعماق) التابعة للتنظيم، والذي ظهر فيه شخص يقال عنه أن اسمه الحركي أبو مسلم الهاشمي، وأظهرت الوكالة أنه منشق عن (القاعدة)»، مضيفاً: «أبو مسلم هذا حينما حضر إلى (داعش) كنت معهم وقتها، وعقب وصوله بأيام قليلة نشروا بيننا المقطع، وحاولوا ترسيخ أنه قاعدي منشق... وعندما هربت إلى (القاعدة) بدأت أبحث عن حقيقة ما قاله أبو مسلم، فلم أجد شيئاً، وعندما سألت عن أبو مسلم، علمت أنه لم يبقَ في قيفة سوى 48 ساعة، وأنه لم يمكث مع (القاعدة) أكثر من 10 أيام وهرب إلى (داعش)، فكيف أنه مكث 12 يوماً ويحكي ما يقوم به (القاعدة) بين الناس؟».
ودعا الحركي «قربان» في نهاية حديثه عناصر «داعش» أن يفيقوا بعدما غيبوهم عن الواقع، وأن يعلموا أن ما يقوم به القادة ظُلم. ودعاهم للمغادرة؛ حتى لا يندموا. كما دعا المناصرين المتعصبين مثله أن «يسمعوا من كل الأطراف».

- إصدارات قديمة
سبق إصدار «القاعدة»، إصدارات مرئية كثيرة لـ«داعش» لتأكيد البقاء، وأنه ما زال الأقوى على الأرض من «القاعدة» وتنظيمات الإرهاب الأخرى، إذ بث تنظيم «ولاية سيناء» الفرع المصري لـ«داعش» إصداراً مرئياً، عرض فيه لقطات مصورة، قال عنها: «إنها حديثة لاستهداف عربات ومدرعات وكمائن أمنية في شمال سيناء»... كما بث الفرع اليمني لـ«داعش» إصداراً مرئياً بعنوان «اثاقلتم إلى الأرض»، ضم عدداً من اللقطات القديمة، التي نشرتها المكاتب الإعلامية للتنظيم في سوريا والعراق، لما أسمته تطبيق الأحكام الشرعية داخل معاقل التنظيم... وسبق ذلك إصدار مرئي حمل اسم «صولات الموحدين 2» عن ما يسمى بالمكتب الإعلامي للبركة التابع لـ«داعش» كشف عن سعى التنظيم لتصدير صورة مشاركة عناصر نسائية مكشوفة الوجه في القتال ضد عناصر الجيش السوري؛ وذلك في محاولة من التنظيم لكسب وتجنيد عناصر جديدة من المتعاطفات معه.
تعليقاً، قال عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية: إن «(حرب الإصدارات) ما هي إلا إعلان حالة إفلاس بشكل كامل من كلا التنظيمين». بينما أكد رسمي عجلان، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، أن «(داعش) و(القاعدة) يحاولان إثبات وجودهما في ظل فشل كبير، والتنظيمان يحاولان تعويض ما فقداه من الشباب في العراق وسوريا وغيرهما من الدول».
وما زال «القاعدة» يُقدم نفسه على أنه في طليعة «القتال» ضد أميركا وروسيا وبريطانيا، وأصحاب منهج صحيح، على خلاف «داعش» الذي يصفه بـ«الغلاة».
ويرى مراقبون أن «كثيراً من الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي تلقت تدريبات على يد عناصر (القاعدة)، انفصلت عن التنظيم خلال السنوات الماضية وانضمت إلى تنظيمات أخرى مثل (داعش)... ويسعى (القاعدة) لضم هؤلاء (الدواعش) عقب الهزائم التي لحقت بهم في سوريا والعراق خلال الأشهر الأخيرة.

- ما بين البغدادي والظواهري
الصراع بين «داعش» و«القاعدة» ليس فقط في الإصدارات؛ بل تلاسن غير ظاهر من وقت إلى آخر بين قيادات التنظيمين، ففي أغسطس (آب) الماضي، بث زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي إصداراً مرئياً عبر «أعماق» حث فيه أتباعه على العنف والقتل... وبعده ظهر أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» في إصدار مرئي آخر محاولاً إثبات وجود تنظيمه على الساحة، بدعوته المسلمين بالتوحد معه لمواجهة الإرهاب – على حد زعمه.
كما ظهر الظواهري في أبريل (نيسان) 2018 في إصدار «بُشرى النصر لأهلنا في مصر»، حاول من خلاله استمالة شباب تنظيم «الإخوان»، والأحزاب الإسلامية للانضمام إلى التنظيم... وسبقه إصدار بثه «داعش» حمل اسم «حماة الشريعة» شن هجوماً على الأحزاب الإسلامية في مصر؛ لكنه داعب حينها شباب «الإخوان».
وقال عجلان: إن «طبيعة التيارات والجماعات المتشددة حدوث تشظٍ وصراعات داخلية بينها تحت لافتات التكفير المُتبادل؛ فـ(داعش) كان تطوراً طبيعياً لـ(القاعدة)».
وأكد المراقبون، أن «مصطلح (العائدين) من (داعش) شهد تغيراً كبيراً بعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق؛ فقد كان يُطلق في البداية - قبل هزيمة التنظيم - على بعض المنضمين إليه ممن خُدعوا بدعايته، ثم سرعان ما اكتشفوا - بعد انضمامهم إليه - أن الأوضاع على أرض الواقع تختلف اختلافاً جذرياً عما يروجه التنظيم؛ لذا قرروا تركه والعودة إلى بلادهم... وبعد هزيمة التنظيم أصبح المصطلح يحمل معنى مغايرا تماماً؛ إذ لا يمكن الجزم بما إذا كان هؤلاء (العائدون) لا يزالون يحملون الفكر الداعشي أم لا؟، وقد أعربت الكثير من حكومات الدول الغربية عن خوفها الشديد من هؤلاء».

- مواقع التواصل
من جهته، قال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، مدير مرصد الفتاوى التكفيرية بدار الافتاء المصرية: إن «هناك تخوُفاً آخر يظهر في الأفق، وهو احتمالية الانتقال لهؤلاء (العائدين) بين التنظيمات التكفيرية والإرهابية، كما هو الحال بين (القاعدة) و(داعش)، وبخاصة مع أفول نجم (داعش)، وبروز تنظيم (القاعدة) وإعادة لملمة صفوفه وتنظيم قوته».
ويستغل «داعش» و«القاعدة» شبكات الإنترنت لبث ونشر الإصدارات المختلفة على نطاق أوسع. وفي دراسة لدار الافتاء المصرية أشارت إلى أن «التنظيمات المتطرفة توسعت في استخدام شبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي باعتبارها ملاذاً آمناً، لبث أفكارهم المتطرفة ولتنفيذ مشروعها الآيديولوجي».
الدراسة، التي جاءت بعنوان «استراتيجيات وآيديولوجيات الجماعات الإرهابية في تجنيد الشباب عبر الإنترنت»، أعدها مرصد الفتاوى، أكدت أن «شبكات ومواقع ومنصات التواصل الاجتماعي تمثل جامعة إلكترونية لإعداد وتجنيد (الذئاب المنفردة) أو (الانفراديين)، وأداة خصبة لنشر أفكارهم المتطرفة، حيث تقوم تلك التيارات بتصنيف مواقع التواصل وفق استخدامه المناسب».
وصنفت دراسة الإفتاء مواقع التواصل وفق استغلال «داعش»، حيث أكدت أن «(فيسبوك) يساعد التنظيم في تجنيد (الذئاب المنفردة) بسهولة عبر استدراج الشباب وتجنيدهم بطريقة غير مباشرة... أما (تويتر) فيستخدم لنشر الأخبار الترويجية للأفكار المتطرفة... و(تليغرام) للمساهمة في نشر أدبيات التنظيم وكتاباته وروابط تقاريره المصورة والمرئية لترويج نجاحه المزيف في ساحات القتال... في حين يستغل التنظيم قنوات (يوتيوب) لتمكين مشاركيه من تحميل الفيديوهات قبل الحذف».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.