متحف قصب السكر في موريشيوس يحكي تاريخها «الحلو بمرارة»

إلغاء العبودية في الجزيرة أجبر الإمبراطورية البريطانية على فتح باب هجرة العمالة

ماكينات لإنتاج السكر
ماكينات لإنتاج السكر
TT

متحف قصب السكر في موريشيوس يحكي تاريخها «الحلو بمرارة»

ماكينات لإنتاج السكر
ماكينات لإنتاج السكر

يحكي معرض قصب السكر في موريشيوس، من خلال الصور والقصص داخل المتحف الوطني، تاريخ الجزيرة التي عانت مرارة طعمه من العبودية إلى الهجرة الآسيوية إلى حلاوة الاستقلال. وخلال جولة داخل المتحف تشير الصورة والمستندات إلى الدور الكبير الذي لعبه إنتاج السكر في تاريخ الجزيرة الصغيرة في المحيط الهندي التي قام الرحالة البرتغالي دون بيدرو ماسكارينهاس بتعريف العالم بها في عام 1505، وقد قام بإطلاق اسم ماسكارينهاس على مجموعة الجزر المعروفة الآن بموريشيوس، رودريغيز وريونيون. وفي عام 1598، وعلى مدى السنين، قام الهولنديون بتعريف الجزيرة على قصب السكر، والحيوانات الأليفة والغزلان، قبل رحيلهم عنها في 1710، وجاء من بعدهم الفرنسيون في سنة 1715 وأسسوا ميناء بورت لويس عاصمة البلاد حاليا. وظلت جزيرة موريشيوس قاعدة لهم حتى هزيمة نابليون، فاستولت عليها بريطانيا في سنة 1810، وأقامت سلطة تحت قيادة روبرت فاركوهار قامت في ما بعد بغرس تغييرات اجتماعية واقتصادية سريعة في الجزيرة.
وانتقلت السيطرة على موريشيوس للإمبراطورية البريطانية خلال حروب نابليون سنة 1810 بموجب تسوية معاهدة باريس سنة 1814، في وقت كان نفوذ الإمبراطورية فيه يتوسع في المحيط الهندي. وأدى الاهتمام التجاري البريطاني إلى ارتفاع إنتاج السكر الذي أصبح من أهم السلع التجارية في أوروبا في منتصف القرن الثامن عشر. وقد تم تطوير البنية التحتية في شتى أنحاء الإمبراطورية لا سيما في بور لويس كميناء حر على وجه الخصوص لنقل السكر إلى أوروبا وأستراليا والهند عبر البحر.
طرحت قوانين إلغاء العبودية في المستعمرات الأوروبية سنة 1834 مشكلة في عملية إنتاج السكر، وهي من العمليات الإنتاجية التي كانت تعتمد بشكل كبير على الرقيق. لينشأ طلب على أيد عاملة رخيصة، في حين كان الرقيق يتفاوضون على أجور أعلى وظروف معيشية أفضل. وكنتيجة لذلك تصورت الحكومة البريطانية خطة بديلة في إحلال قوى عاملة من أنحاء مختلفة في العالم بالقوة العاملة الأفريقية. وأحضرت الموجة الأولى من العاملين الزراعيين بعض الجزر البرتغالية مثل جزر ماديرا، إضافة إلى رقيق من الولايات المتحدة وفقراء من الصين. وعلى الرغم من تغير إثنيات العمال فإن ظروف المعيشة بقيت صعبة، وفي النهاية لم يستطع العمال أن يصمدوا في زراعة «كاسافا» والإقامة.
وبمرور الوقت أصبح العمال الهنود ذوي قدرة على تحمل الأعباء الاقتصادية نظرا للظروف المعيشية الصعبة في الهند خاصة بعد ثورة الهند سنة 1857.
وحسب مستندات تاريخية داخل المتحف، فإن موريشيوس أصبحت محل تركيز الإمبراطورية البريطانية بسبب الدور الاقتصادي لمزارعها والقدرة على التوسع في هذه المزارع على العكس من مناطق غرب الهند التي استنزفت. أصبحت مزارع قصب السكر التي أنشئت في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي غير قادرة على المنافسة الاقتصادية، بعد أن أثبت الشوندر السكري أنه بديل مجد وأرخص من قصب السكر، في حين بقي الآلاف من عمالها المتعاقدين والعبيد في تخبط. وبالإضافة إلى ذلك فإن قرب الجزيرة من الهند كان ميزة إضافية.
وحسب كتيب بعنوان قصة من موريشيوس فإن أول هجرة لعمال العقود طويلة الأمد حصلت ما بين 1834 و1849. ولم يتم إنشاء أي مركز ثابت لاستقبال هؤلاء المهاجرين. وأدى وصول آلاف المهاجرين سنويا إلى الجزيرة إلى لفت الانتباه إلى النقص في عدم وجود منشآت مخصصة لذلك. واختير مبنى يعود تاريخه إلى الإدارة الفرنسية في 1849 باعتباره أساسا هيكليا لبناء مجمع ليصبح مركزا دائما للهجرة، وأطلق عليه اسم «أبرافاسي غات». وتسارعت عمليات توسيع «أبرافاسي غات» استجابة للعدد الكبير من المهاجرين. واستمر هذا حتى 1857، عندما توسع على حساب كل الأراضي المتاحة. وسمحت المساحة الكافية للمرفق بالتعامل مع ما يصل إلى 1000 عامل محتمل وصوله في أي وقت. وأجريت تعديلات مستمرة علاوة على أغراض الخدمة والراحة والنظافة والنقل.
أدى انتشار وباء الملاريا في سنة 1860 إلى ابتعاد الرحلات التجارية عن المستعمرة. مما أدى إلى تراجع هجرة العمال وفق هذه العقود. وبلغت ذروتها في عام 1923، عندما توقفت تماما. بحلول ذلك الوقت، كان قد مر ما يقارب من 450000 عامل بعقود طويلة الأمد من الهند من خلال «أبرافاسي غات».
أدت قوانين تحرير العبيد في موريشيوس إلى تدمير الزراعة المتعلقة بإنتاج السكر، لكن بناء «أبرافاسي غات» من أجل استقبال العمال المهاجرين وفق عقود عمل السخرة أدى إلى إعطاء حياة جديدة لهذه الزراعة. ومن خلال هذا البناء تم استقبال الأيدي العاملة وتوزيعها على أنحاء المستعمرات البريطانية، مما وفر سلسلة لا نهائية من العمالة الرخيصة. قاد هذا إلى ثورة في إنتاج السكر وزيادة في حجم الإنتاج، مما جعل من موريشيوس أهم مستعمرة بريطانية منتجة للسكر، وتصدر 7.4 في المائة من الإنتاج العالمي الكلي في فترة 1850.
وحسب كتاب قصة من موريشيوس، اعتمدت الجزيرة على إنتاج السكر لدعم اقتصادها خلال أوائل القرن الـ20. وازدهر الاقتصاد خلال الحرب العالمية الأولى، عندما تناقصت إمدادات السكر التي أدت إلى ارتفاع سعره في الأسواق. لكن ما لبثت أن تراجعت أسعار السكر في سنة 1930 بسبب الكساد، وأدت الزراعة أحادية المحصول وإلغاء نظام العمل بالسخرة إلى ضعف في اقتصاد موريشيوس، وبلغت الأمور ذروتها في الاضطرابات العمالية في عام 1937. أدت الحرب العالمية الثانية إلى زيادة تفاقم الوضع. نتيجة لهذه الأوضاع اتخذت إجراءات لتنفيذ إصلاحات اقتصادية لتنويع الإنتاج الزراعي وتطوير الصناعات الأخرى، ابتداء من عام 1945. تمثل عائدات القطاع الزراعي في موريشيوس في منتصف 1990 فقط ثمن الناتج القومي الإجمالي البلاد، على الرغم من أن إنتاج السكر لا يزال يشكل ثلث عائدات التصدير، ويحتل نحو 80 في المائة من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة.
لم تكن موريشيوس أول مكان لاستقبال عمال بعقود عمل طويلة الأمد. ففي القرن السابع عشر وصلت أعداد كبيرة من العمالة الأوروبية بموجب عقود العمل هذه إلى مستعمرات بريطانية في أميركا، والتي عرفت في ذلك الوقت بالمستعمرات الثلاث عشرة. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول القرن الـ18 فإن أكثر من نصف السكان من المهاجرين البيض في المستعمرات الإنجليزية في أميركا الشمالية قد وصلوا بعقود العمل طويلة الأمد. إلا أن نطاق التنظيم الذي تم العمل فيه في موريشيوس لم يسبق له مثيل. وسرعان ما انتشر ذلك على الفور في جميع أنحاء مستعمرات الإمبراطورية البريطانية، وكان يحتذى من قبل القوى الأوروبية الأخرى، بالإضافة إلى عمل العامل الهندي في مجالات مختلفة مثل المناجم وبناء السكك الحديدية.
ألغي نظام العقود طويلة الأمد بشكل عالمي في عام 1918، على الرغم من أنه بقي مستمرا في موريشيوس حتى سنة 1923. تم خلال تلك الفترة استقبال نحو 1.2 مليون عامل هندي في أرجاء المستعمرات البريطانية، وقد استقبل «أبرافاسي غات» وحده نحو نصف مليون عامل. وهكذا يعتبر «أبرافاسي غات» ذا دور كبير في توزع القوى العاملة، وأدى إلى المحافظة على اقتصاديات المستعمرات إضافة إلى زرع هوية ثقافية جديدة. لذلك توجد نسبة كبيرة من الهنود في دول البحر الكاريبي وجنوب أفريقيا وجزر المحيط الهادي.
وصلت أغلبية العمالة الهندية من الولايات الشمالية لشبه الجزيرة الهندية، ومن أهم هذه الولايات ولاية بيهار وأتر برديش، حيث كانت هذه المناطق في حالة اضطراب عقب ثورة 1857، وجاءت نسبة أصغر من المهاجرين من ولاية ماهاراشترا وتاميل نادو. وترك المهاجرون الهنود الذين مروا عبر الجزيرة علامة مميزة لمجتمع موريشيوس. لم تشكل نسبة العمال الهنود الواصلين إلى موريشيوس إلا أقل من 4 في المائة حتى عام 1835، لكن هذه النسبة نمت بشكل كبير لتصل سنة 1860 إلى أكثر من 66 في المائة من سكان موريشيوس. وقد استقبلت هذه المستعمرة نسبة عالية من العمالة الهندية، مما أدى إلى تغيرات كبيرة في التركيب الديموغرافي لسكان هذه الجزيرة في فترة قصيرة من الوقت أكثر من أي من المستعمرات البريطانية الأخرى المنتجة للسكر. يصل اليوم عدد السكان ذوي الأصول الهندية إلى 1220000، أو 68 في المائة من السكان. وبالمقارنة بسنة 1806 عندما كانت الجزيرة خاضعة للحكم الفرنسي فقد أظهر الإحصاء أن عدد الهنود كان 6.162 شخصا.
في ما بعد عام 1840 نجح العمال المهاجرون الذين أنهوا عقد عملهم في توفير بعض النقود من شراء بعض الأراضي الزراعية الصغيرة ومعظم هذه الأراضي كانت بعيدة عن مزارع السكر ليستقروا بشكل دائم في موريشيوس. أدى هذا إلى ظهور طبقة جديدة من الفلاحين في المناطق الريفية. وكان بعضهم ذوي مهارات محدودة لا تعرف سوى العمل في الزراعات الصغيرة لكسب لقمة العيش، في حين أن آخرين كانوا قادرين على العمل في التجارة أو كباعة متجولين. ازداد غنى بعض الفئات من الهنود في المناطق الريفية، ومع ازدياد أهمية صناعة السكر في القرن الـ20 أصبح بارونات السكر يكافحون لبيع أجزاء من ممتلكاتهم إلى التجار الهنود في ما أصبح يعرف باسم حركة «موريشيليسم الكبرى». وهكذا أصبح الهنود أول من أمتلك الأراضي من غير البيض.
بلغت أملاك الهنود من أراضي موريشيوس 40 في المائة من الأراضي الصالحة للزراعة في سنة 1920. ليسيطروا في نهاية المطاف على جزء كبير من الاقتصاد الزراعي، مما أدى إلى نمو القرى الريفية وارتفاع أعداد البرجوازية المؤثرة على السياسة العامة في الجزيرة ضمن مرحلة ما بعد الاستعمار.
وفي الوقت نفسه، كان معظم المهاجرين الهنود من الجيل الثاني قد تعرضوا للثقافات الأجنبية فكانوا أكثر انسجاما مع السياسات البريطانية، وقادرين على العمل خارج القطاع الزراعي. كانوا يعملون كمهنيين مهرة تلقوا تعليمهم في الغرب من قبل البريطانيين، وحصلوا على حصة كبيرة من الوظائف المكتبية البيروقراطية، ليحققوا مناصب محترمة مع بداية القرن الـ20.
وقد أظهرت مستندات وصور المتحف الانسجام بين الإثنيات المختلفة كالصينيين والأفارقة، وأصبحت الاحتفالات والمهرجانات الهندوسية جزءا من تقويم موريشيوس، كما أقيم احتفال ديني هندوسي سنوي في اليوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني)، ليعتبر عيدا وطنيا لإحياء ذكرى وصول العمال بالعقود طويلة الأمد إلى «أبرافاسي غات».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)