تمدد أحزاب اليمين يثير القلق على المشروع الأوروبي

ترفع شعارات التفوق العرقي وكره الأجانب والعداء للمسلمين

نائب رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو سالفيني (الثاني من اليمين) وإلى يمينه فيكتور أوربان رئيس حكومة هنغاريا  عند سياج أقيم على حدود هنغاريا مع صربيا لمنع اللاجئين من العبور (أ.ف.ب)
نائب رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو سالفيني (الثاني من اليمين) وإلى يمينه فيكتور أوربان رئيس حكومة هنغاريا عند سياج أقيم على حدود هنغاريا مع صربيا لمنع اللاجئين من العبور (أ.ف.ب)
TT

تمدد أحزاب اليمين يثير القلق على المشروع الأوروبي

نائب رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو سالفيني (الثاني من اليمين) وإلى يمينه فيكتور أوربان رئيس حكومة هنغاريا  عند سياج أقيم على حدود هنغاريا مع صربيا لمنع اللاجئين من العبور (أ.ف.ب)
نائب رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو سالفيني (الثاني من اليمين) وإلى يمينه فيكتور أوربان رئيس حكومة هنغاريا عند سياج أقيم على حدود هنغاريا مع صربيا لمنع اللاجئين من العبور (أ.ف.ب)

بينما تستعد دول الاتحاد الأوروبي لانتخابات مفصلية لاختيار أعضاء البرلمان الأوروبي، تتعزز المخاوف من نمو التيارات اليمينية في هذه الدول، التي باتت تشكل في عدد منها قوة وازنة، لقادتها نفوذ متصاعد على القرار السياسي. ومبعث المخاوف يعود إلى اصطدام الأفكار التي تحملها هذه التيارات الشعبوية، والقائمة على نزعة الانفصال، والرافعة شعار «بلادي أولاً»، مع المشروع الأوروبي، وهو في أساسه مشروع اندماجي. وفي مقدمة الأسماء التي تتبنى هذه الأفكار كل من فيكتور أوربان، رئيس حكومة هنغاريا، وماتيو سالفيني نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية الإيطالي، وقد قامت شعبية الرجلين على موجة عداء للمهاجرين، وحملات عنصرية للدفاع عما يسمونها «الهوية الأوروبية». تضاف إلى ذلك حملات الداعين إلى «بريكست» في بريطانيا، وهذه قصة لها مجال آخر.
هنا رصد لأبرز التيارات اليمينية من بلدان أساسية في الاتحاد الأوروبي: إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا.

في مثل هذا الأيام منذ أربعين عاماً، بالضبط، توجّه الأوروبيّون لأول مرة في تاريخهم لانتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي، الذي يحدّد توزيعُ المقاعد فيه معادلة التوازن بين العائلات السياسية في المؤسسات التنفيذية للاتحاد. منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، استقرّت هذه المعادلة على توازن ثنائي بين المحافظين والتقدّميين، بأطيافهما، ترجح كفّته بين الحين والآخر، في هذا الاتجاه أو ذاك، حسب التحالفات الظرفيّة مع الليبراليين و«الخُضر» وبعض الكتل الأخرى الصغيرة.
لكن الانتخابات التي ستُجرى بين 23 و26 من شهر مايو (أيار) الحالي من شأنها أن تقوّض هذه المعادلة بتشكيل كتلة ثالثة وازنة، للمرة الأولى، في الهيئة التشريعية للاتحاد الأوروبي، هي كتلة الأحزاب والقوى الشعبويّة واليمينية المتطرفة التي تجاهر علناً بعزمها تفريغ المشروع الأوروبي من مضمونه الاجتماعي والسياسي، وإعادة القرارات السياديّة إلى الحكومات الوطنية. وهو المضمون الذي جعل من الاتحاد الأوروبي، رغم عثراته في السنوات الأخيرة، أنجح مشروع اندماجي في التاريخ، ومن بلدانه الأعضاء المنطقة الأكثر تقدّماً على الصعيدين السياسي والاقتصادي في العالم.
التمدّد اليميني المتطرّف لم يعد مجرّد فكرة تحوم من بعيد في فضاء التاريخ الأوروبي الحديث، بل حقبة تعود بقوّة إلى المشهد السياسي لتوقظ الأشباح والكوابيس التي قام المشروع الأوروبي أساساً لوأدها. ولا يقتصر هذا التمدّد على القارة الأوروبية فحسب، بل يظهر بقوّة أيضاً في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، يرفع شعارات التفوّق العرقي وكره الأجانب ومعاداة المسلمين، رافضاً التمازج الثقافي والتعددية، ومتمرّداً على منظومة القواعد والاتفاقات والتشريعات التي يقوم عليها القانون الدولي، وتندرج في إطارها العلاقات بين الدول منذ منتصف القرن الماضي.
إنها «الوجوه الجديدة لليمين»، كما سماها المؤرخ الإيطالي إنزو ترافرسو، في مؤلف بالعنوان نفسه صادر عن جامعة هارفرد، يستعرض فيه المشارب المتعددة لهذه القوى التي تخلّى معظمها عن صفة الحزب، ويبيّن التباينات العميقة أحياناً في جذورها وظروف نشأتها. لكنه يجزم في خلاصة مؤلفه الطويل أن القواسم المشتركة بينها هي التي ستمدّها في نهاية المطاف بمحفزّات التقارب والنسغ اللازم للتحالف من أجل رسم معالم نظام دولي جديد؛ يؤكد أنه في طور التشكّل.
وتفيد آخر الاستطلاعات بأن القوى اليمينية المتطرفة، مجتمعة، يمكن أن تشكّل الكتلة الثالثة في البرلمان الأوروبي على مسافة قصيرة جداً من الكتلة التقدميّة التي ستحتفظ بالمركز الثاني بعد الكتلة الشعبية المحافظة التي تبقى «الديمقراطية المسيحية في ألمانيا» نواتها الأساسية. لكن أحزاب اليمين المتشدد في بلدان الشرق الأوروبي، خصوصاً في المجر وبولندا، لم تكشف بعد عن أوراق تحالفاتها المحتملة بعد الانتخابات، وثمّة شكوك في أنها قد تنشقّ عن الكتلة الشعبية لتشكيل الجبهة اليمينية المتطرفة التي تتطلّع إليها كل الأحزاب «السياديّة» لتغيير مسار المشروع الأوروبي ومضمونه السياسي والاجتماعي.
رأس الحربة للمشروع اليميني المتطرف في الاتحاد الأوروبي، الذي يحظى بدعم علني وتمويل من المحافظين المتشددين في الولايات المتحدة وروسيا، هو حزب «الرابطة» الإيطالي الذي يتزعمه نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية ماتّيو سالفيني، الذي يرجّح أن يصبح القوة السياسية الأولى في إيطاليا بنسبة تأييد تزيد عن 30 في المائة، بعد أن كانت شعبيته لا تتجاوز 9 في المائة، قبل الانتخابات العامة الأخيرة التي حصل فيها على 17 في المائة من الأصوات تأييداً لبرنامجه المتطرف في مكافحة الهجرة.
لكن المخاوف من هذا الصعود السريع لليمين المتطرف في إيطاليا ليست مقصورة على تأثيره في توازن القوى داخل البرلمان الأوروبي وتداعياته السياسية المحتملة على الاتحاد، في حال وصول سالفيني إلى رئاسة الحكومة، وهو أمر بات شبه محتوم في ضوء الاستطلاعات ونتائج الانتخابات الأخيرة. لا ينسى أحد أن إيطاليا كانت مهد العقيدة الفاشيّة التي سبقت الفكر النازي، وأسّست لحركات نهلت من مبادئها في المحيط الأوروبي بقي بعضها نشطاً وحاكماً، كما في إسبانيا والبرتغال، حتى سبعينيات القرن الماضي. وليس من باب الصدفة أن يكون المنظّر اليميني المتطرف ستيف بانون، الذي كان المستشار الاستراتيجي لدونالد ترمب خلال حملته الانتخابية والأشهر الأولى من ولايته، يعتبر أن «إيطاليا اليوم هي مركز العالم»، وأن سالفيني هو «رائد المشروع التحوّلي في الغرب» الذي أقام لأجله، في دير إيطالي من القرن الثاني عشر، مركزاً عالمياً لتأهيل القيادات ومساعدة الأحزاب اليمينية المتطرفة في نشاطها وحملاتها الانتخابية.
الانتخابات الإسبانية الأخيرة التي حملت اليمين المتطرف إلى البرلمان، للمرة الأولى منذ وفاة الجنرال فرنكو، كانت واعدة جداً بالنسبة لمشروع سالفيني واستراتيجية بانون. فالنتيجة التي حصل عليها حزب «فوكس» قد لا تخوّله أن يلعب دوراً وازناً في تشكيل الحكومة الإسبانية الجديدة، لكن حصوله على 2.6 مليون من الأصوات تشكّل 11 في المائة من مجموع الناخبين في أوّل ظهور له على المشهد السياسي الوطني في إسبانيا، هو مؤشر واضح على أن الرياح تجري بما تشتهي سفن الفكر السياسي الذي يستيقظ من جديد على القارة الأوروبية، والذي بدأ يخرج عن إطار المختبرات الاجتماعية الضيّقة والمتفرّقة، ليصبح شريكاً أساسياً في الحوار مع النخب الصناعية والمالية والمراكز الاقتصادية والكبرى.
في فبراير (شباط) من عام 1933، بعد أن ترسّخ حضور الحزب النازي في برلمان ألمانيا، التي كانت تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية حادة، اجتمع هتلر في مبنى «الرايشتاغ» برؤساء الشركات الألمانية الكبرى الذين تعهدوا بدعمه ومدّه بمساعدات مالية ضخمة من أجل «قيام نظام جديد يعيد الاستقرار، ويوفّر الهدوء والانضباط لتسيير العجلة الاقتصادية نحو النمو»، كما جاء في مذكّرات مدير شركة «سيمنس». وما حصل بعد ذلك، نعرفه جميعاً.



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.