رحلة في شبكة سجون الأسد السرية

المعتقل منصور عمري يعرض قطعة قماش كتب عليها معتقلون أسماءهم بالدم وهربوها من السجن (خدمة نيويورك تايمز)
المعتقل منصور عمري يعرض قطعة قماش كتب عليها معتقلون أسماءهم بالدم وهربوها من السجن (خدمة نيويورك تايمز)
TT

رحلة في شبكة سجون الأسد السرية

المعتقل منصور عمري يعرض قطعة قماش كتب عليها معتقلون أسماءهم بالدم وهربوها من السجن (خدمة نيويورك تايمز)
المعتقل منصور عمري يعرض قطعة قماش كتب عليها معتقلون أسماءهم بالدم وهربوها من السجن (خدمة نيويورك تايمز)

قام ضباط من جهاز الأمن السوري بتعليق مهند غباش من رسغيه لساعات وضربوه ضرباً مبرحاً حتى نزفت الدماء من جسده وصعقوه بالكهرباء ووضعوا سلاحاً نارياً في فمه.
واعترف غباش، وهو طالب بكلية الحقوق من حلب، مراراً بالجرم الذي اقترفه بالفعل: {تنظيم مظاهرات سلمية معارضة للحكومة}. ومع هذا، استمر التعذيب لمدة 12 يوماً حتى كتب على نفسه اعترافاً من محض خياله أقر فيه بتخطيطه لتنفيذ تفجير.
وقال غباش إن هذه كانت مجرد البداية. بعد ذلك، جرى نقله جواً إلى سجن مكدس في مطار المزة العسكري جنوب دمشق، حيث قال إن الحراس علقوه هو وعدد من السجناء عراة على حاجز ورشوا عليهم الماء في ليال من البرد القارس.
وأشار هو وناجون آخرون إلى أن أحد الحراس كان يطلق على نفسه {هتلر}، وكان يجبر المسجونين على تمثيل أدوار الكلاب والحمير والقطط، بهدف تسلية زملائه أثناء تناول العشاء، وكان يعتدي بالضرب على من يفشل في تقليد أصوات الحيوانات. وأضاف غباش أنه شاهد داخل مستشفى عسكري ممرضاً يركل وجه مريض تعرض لبتر أحد أطرافه كان يتوسل طلباً للحصول على مسكنات.
وفي وقت يقترب الرئيس السوري بشار الأسد من القضاء على ثورة استمرت ثماني سنوات، شكّل نظام سري يقوم على عمليات إلقاء اعتقال عشوائية وسجون تجري بها عمليات تعذيب، عنصراً محورياً في هذا النجاح. حتى هذه اللحظة، لم يظهر أثر لقرابة 128 ألف شخص، وجرى اعتبارهم من {الشبكة السورية لحقوق الإنسان} إما موتى أو قيد الاحتجاز.
جدير بالذكر أن {الشبكة السورية} منظمة مستقلة رقابية تتولى الاحتفاظ بأكثر البيانات دقة على هذا الصعيد. وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 14 ألف شخص قتلوا أثناء التعذيب، بينما يلقى سجناء حتفهم بسبب ظروف مروعة وصفها تحقيق أجرته الأمم المتحدة بأنها {عملية إبادة}.
اليوم، وحتى مع انحسار الحرب، وتضاؤل اهتمام العالم وشروع بعض الدول في تطبيع علاقاتها مع سوريا، تتزايد وتيرة إجراءات جديدة من الاعتقال والتعذيب والإعدام. وسجلت {الشبكة السورية} 5607 حالة اعتقال جديدة صنفتها باعتبارها عشوائية ما يعني أكثر من 100 في الأسبوع بزيادة حوالي 25% عن العام الماضي.
ونجح محتجزون في السجون أخيراً في تسريب تحذيرات تفيد بأن المئات يجري إرسالهم إلى موقع لتنفيذ الإعدام داخل سجن الصيدانية. وأفاد سجناء مفرج عنهم حديثاً بأن وتيرة أعمال القتل تتسارع.
ورغم استحواذ {داعش} على اهتمام أكبر من جانب الغرب، فإن منظومة السجون السورية ابتلعت أضعاف من احتجزهم التنظيم داخل سوريا. وتشكل إجراءات الاحتجاز من جانب الحكومة قرابة 90% من مجمل حالات الاختفاء، طبقاً لتقديرات الشبكة.
وتوصل محققون معنيون بجرائم الحرب يتبعون مفوضية العدالة والمحاسبة الدولية المستقلة، إلى أن مذكرات حكومية احتوت أوامر بشن حملات قاسية وناقشت وقوع وفيات بين المحتجزين. وحملت المذكرات توقيع مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى، بينهم أعضاء في اللجنة المركزية لإدارة الأزمة، والتي ترفع تقاريرها إلى الأسد مباشرة.
وأقرت مذكرة صادرة عن الاستخبارات العسكرية بوقوع وفيات جراء أعمال تعذيب والظروف المريعة داخل أماكن الاحتجاز. وأشارت مذكرات أخرى إلى وقوع وفيات بين محتجزين، جرى التعرف على هوية بعضهم لاحقاً من بين صور آلاف الجثث لسجناء جرى تهريبها من جانب منشق عن الشرطة العسكرية.
وأجازت مذكرتان توجيه {معاملة قاسية} لمحتجزين بعينهم. وأوحت مذكرة صادرة عن رئيس الاستخبارات العسكرية رفيق شحادة بوجود مخاوف في صفوف المسؤولين من التعرض لمحاكمات مستقبلية، وتحمل المذكرة أمراً بإبلاغه بجميع الوفيات التي تقع لمحتجزين.
على امتداد سبع سنوات، أجرت {نيويورك تايمز} مقابلات مع عشرات الناجين وأقارب متوفين ومحتجزين مفقودين، وراجعت وثائق حكومية تحوي تفاصيل حول الوفيات داخل السجون والحملات القاسية ضد معارضين، إلى جانب تفحصها لمئات الصفحات من شهادات شهود في تقارير حقوقية وقضايا منظورة أمام القضاء. وتتماشى شهادات الناجين الواردة هنا مع شهادات أدلى بها سجناء آخرين كانوا محتجزين داخل السجون ذاتها، وتدعمها مذكرات حكومية وصور جرى تهريبها من داخل السجون السورية.
في الشهور الأخيرة، اعترفت الحكومة السورية ضمناً بوفاة المئات في المعتقلات. وتحت ضغط من موسكو، أكدت دمشق مقتل بضع مئات من الأشخاص على الأقل عبر إصدار شهادات وفاة لهم أو تسجيلهم كمتوفيين في السجلات العائلية. وقال مؤسس {الشبكة السورية} فاضل عبد الغني، إن هذه الخطوة بعثت للمواطنين برسالة واضحة مفادها: {نحن انتصرنا، ونحن فعلنا ذلك ولن يعاقبنا أحد}.
ومازال الأسد ومعاونوه في السلطة بمأمن من إلقاء القبض عليهم وينعمون بحماية روسيا لهم من خلال قوتها العسكرية وحق النقض (فيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. في الوقت ذاته، بدأت دول عربية تعيد علاقاتها مع دمشق وتدرس دول أوروبية الأمر. ويأتي قرار الرئيس دونالد ترمب بسحب معظم الجنود الأميركيين من شرق سوريا، ليقلص من نفوذ أميركي ضئيل للغاية بالفعل في إطار الصراع الدائر بالبلاد والذي دخل الآن عامه التاسع.
جدير بالذكر أن منظومة الاحتجاز السورية الحالية تشكل صورة متضخمة من المنظومة التي بناها حافظ الأسد. في العام 1982، سحق الأسد الأب انتفاضة مسلحة لجماعة {الإخوان المسلمين} في حماة ودمر في خضم ذلك جزءاً كبيراً من المدينة وألقى القبض على عشرات الآلاف من الإسلاميين والمعارضين اليساريين والمدنيين غير المسيسين الذين اعتقلوا عشوائياً.
وعلى مدار عقدين، اختفى حوالي 17 ألف محتجز داخل هذه المنظومة المعتمدة على مخزون من أساليب التعذيب يعود إلى الحقبة الاستعمارية الفرنسية، بل والأساليب النازية.
تجدر الإشارة إلى أنه عندما خلف بشار الأسد والده عام 2000، أبقى على منظومة الاحتجاز من دون تغيير. والمعروف أن كل من وكالات الاستخبارات السورية الأربع: العسكرية والسياسية والتابعة للقوات الجوية وأمن الدولة، لها أفرع محلية بمختلف أرجاء البلاد. وتملك معظمها سجوناً خاصة بها. وقد وثقت مفوضية العدالة والمحاسبة الدولية المئات من هذه السجون.
وكان احتجاز العديد من المراهقين وتعذيبهم في مارس (آذار) 2011 لكتابتهم عبارات مناهضة للأسد على الجدران، دفع سوريين للانضمام إلى سلسلة الانتفاضات التي اجتاحت دول عربية. وانتشرت المظاهرات المعترضة على المعاملة التي تعرض لها المراهقون من داخل مدينتهم درعا إلى مناطق أخرى، ما أدى إلى المزيد من عمليات الاعتقال، ما أشعل بدوره مزيداً من المظاهرات.
بمرور الوقت، انضم طوفان من المحتجزين من مختلف أرجاء سوريا إلى المعارضين الموجودين داخل سجن صيدنايا.
رياض أولار، مواطن تركي احتجز لمدة 20 عاماً بعدما ألقي القبض عليه عام 1996، عندما كان طالباً في الـ19 لعقده مقابلات مع سوريين حول مذبحة وقعت بأحد السجون، يقول إن {المحتجزين الجدد تنوعوا ما بين عاملي نظافة ومزارعين ومهندسين وأطباء، جميع فئات السوريين}. وأضاف أن أعمال التعذيب زادت وتعرض المحتجزون الجدد لاعتداءات جنسية والضرب على الأعضاء التناسلية وإجبارهم على ضرب أو قتل بعضهم البعض.
ولا أحد يدري على وجه الدقة عدد السوريين الذين مروا عبر هذه المنظومة منذ ذلك الحين، لكن منظمات حقوقية تقدر أعدادهم بما يتراوح بين مئات الآلاف وملايين. من جانبها، لا تكشف دمشق عن أرقام تتعلق بالسجون، لكن جميع الشهادات تشير إلى أن المنظومة شهدت حركة ضخمة بداخلها. وانتهى الحال ببعض السجناء السياسيين في السجون العادية، بينما احتجزت أجهزة الأمن وميليشيات موالية للحكومة آخرين في أماكن احتجاز داخل مدارس وملاعب ومكاتب وقواعد عسكرية ونقاط تفتيش.
وربما يكون التقدير الحالي الصادر عن {الشبكة السورية} الذي يشير إلى وجود أكثر من 127 ألف شخص حالياً داخل منظومة الاحتجاز السورية، أقل من الواقع. ولا يتضمن هذا العدد الذي يشير إلى حالات الاعتقال التي أبلغ عنها أقارب وشهود آخرين، الأشخاص الذين أطلق سراحهم لاحقاً أو تأكد موتهم.
وتولى ضابط سابق بالشرطة العسكرية أشار لنفسه باسم {قيصر} حفاظاً على سلامته، مهمة تصوير الجثث. وفر من سوريا حاملاً صوراً تخص 6700 جثة على الأقل، صدمت العالم لدى الكشف عنها عام 2014. أيضاً، صوّر {قيصر} مذكرات على مكتب رئيسه بالعمل تخطر مسؤولين أعلى بحالات وفيات.
ومثلما الحال مع شهادات الوفيات الصادرة حديثاً، تشير المذكرات لأسباب الوفاة باعتبارها {أزمة قلبية}. وذكرت إحدى المذكرات اسم محتجز تظهر صورة جثته في إحدى الصور التي فر بها {قيصر}، وقد جرى اقتلاع عينيه.

جولة تعذيب
من جانبه، ظل غباش على قيد الحياة رغم تعرضه للتعذيب داخل 12 منشأة على الأقل، ما جعله حسب قوله {أشبه بمرشد سياحي} داخل منظومة الاحتجاز السورية. وبدأت ملحمته عام 2011 عندما كان في الـ22 من عمره. وغباش هو الابن الأكبر لمقاول بنايات حكومية، وقد ألهمته المظاهرات السلمية التي اشتعلت في ضاحية داريا بدمشق لأن ينظم مظاهرات في حلب. وألقي القبض عليه في يونيو (حزيران) 2011، وأخلي سبيله بعد تعهده بعدم التظاهر. وقال: {إلا أنني لم أتوقف عن التظاهر}.
في أغسطس (آب) ألقي القبض عليه مجدداً، في الأسبوع نفسه الذي كشفت مذكرة من مفوضية العدالة والمحاسبة الدولية أن كبار المسؤولين المعاونين للأسد أمروا بشن إجراءات أكثر صرامة وانتقدوا {تراخي} المسؤولين المحليين ودعوا إلى إلقاء القبض على المزيد من {المحرضين على التظاهر}.
داخل الاحتجاز، تعرض غباش لتعليقه وضربه وجلده داخل سلسلة من المنشآت التابعة للاستخبارات العسكرية والعامة، حسب قوله. وفي النهاية، أخلى المسؤولون سبيله بعد أن وجهوا إليه نصيحة عابسة قدموها للكثير من الشباب أمثاله: ارحلوا عن البلاد.
وفي وقت أطلق النظام سراح بعض أكثر السجناء المتطرفين المحتجزين منذ أمد طويل في سجن صيدنايا، وهم إسلاميون متشددون قادوا لاحقاً جماعات متمردة، سعى المسؤولون إلى التخلص من المعارضة المدنية. ويرى نقاد أن الخطوتين كانتا تهدفان إلى نقل الانتفاضة إلى ميدان القتال، حيث تمتع الأسد وحلفاؤه بميزة عسكرية.

عقاب سريالي
في مارس (آذار)، جرى نقل غباش بالطائرة الى قاعدة ميز الجوية التي حملت اسم إحدى البلدات المجاورة لدمشق. أفاد هو والعديد من الناجين بأن المعتقلين كان يجري نقلهم وفق نظام نقل جماعي بين السجون وأن المعتقلين كانوا يلاقون الأمرين خلال تلك الرحلات سواء في الحافلات أو المروحيات أو طائرات الشحن.
ويتذكر البعض أنهم كان يجري نقلهم في شاحنات مخصصة لنقل الماشية المذبوحة وكان يجرى تعليقهم من يد واحدة في السقف باستخدام الخطافات المستخدمة في تثبيت اللحوم. كانت مساحة زنزانة غباش الجديدة أقل من 12 متراً مربعاً وكانت مزدحمة لدرجة أنهم كانوا يتناوبون ساعات النوم.
خارج الزنزانة، كان هناك رجل معصوب العينين ومكبل اليدين. كان السيد مازن درويش محامي حقوق الإنسان الذي اعتقل لجرأته أمام القاضي بحديثه عن حقوق الإنسان والضمانات التي أقرها القانون السوري.
يقول منير فاخر الذي يبلغ من العمر 39 عاماً، إنه اعتقل فيما كان متوجهاً للقاء مجموعة من المعارضة غير المسلحة. الفارق بين الصورتين قبل وبعد الاعتقال يوضح الفارق: رغم إنه كان ضخم البنيان إلا أنه كان بالغ النحافة عندما أطلق سراحه لدرجة أن زوجته لم تتعرف عليه.
في سجن صيدنايا كان البرد هو العقاب لكل من يتكلم أو ينام من دون إذن. يتذكر فاخر فيما كان يحتسي الشاي بمقهى في إسطنبول ان ملابسه هو وجميع زملاءه في الزنزانة قد صودرت وأجبروا على النوم عراة في درجة حرارة متجمدة. أضاف أنهم كانوا أحيانا يحرمون من الماء وأنهم كانوا يفركون أجسادهم بالرمال الموجودة بين المسافات الفاصلة بين بلاط الأرضيات.
صادف يوم لقائي بفاخر ذكرى وفاة زميله في الزنزانة الذي توفي نتيجة لعدوى بكتيرية أصابت أحد أسنانه ولم يتلق علاجاً لها لدرجة أن فكه تورّم ليبلغ حجم رأس أخر. لكن أحياناً يكون العلاج مميتاً أيضاً، حيث يجري التعذيب والقتل في المستشفيات، فيما يقوم ذوو الموالين للسلطة بزيارات للضباط المصابين في نفس المستشفى.
فقد حدث أن اصطحب فاخر إلى مستشفى 601 العسكري في حي المزة مرتين. المكان يعود إلى زمن الاستعمار حيث السقوف العالية والمشهد المطل على دمشق. كان كل ستة مساجين يجرى تكبيلهم عرايا بكل سرير، {وأحياناً يموت أحدهم فيقل العدد}، بحسب فاخر. وأحياناً نتمنى له الموت إن كان يرتدي ثياباً لنحصل عليها. أضاف: {ذات مرة شاهدنا الممرضين يعمدون إلى قطع الأنسولين عن فتى (نادل) في عمر العشرين مريض بداء السكري حتى مات}.

أسماء مكتوبة بالدماء
كان المعتقلون والمنشقون يخاطرون بحياتهم ليبلغوا عائلاتهم والعالم بمأساتهم. في زنزانة بالطابق الرابع تحت الأرض، قرر المعتقلون تهريب الأسماء المدونة على الجدران خارج السجن، بحسب منصور عمري، الذي اعتقل بسبب عمله بمجال حقوق الإنسان.
كان نبيل شربجي، صحافي، هو من أوحي لغباش بالعمل في مجال حقوق الإنسان عام 2011، وكانت المصادفة أنهما باتا زميلين في الزنزانة ذاتها لاحقاً بسجن المزة، وحاول نبيل كتابة اسمه على قطعة قماش رثة مستخدماً صلصة الطماطم لإيصالها خارج السجن، لكنه في النهاية قرر كتابتها بدمه، وقام معتقل يعمل خياطاً بحياكتها بقميص عمري وبالفعل وجدت طريقها خارج السجن.
وصلت الرسالة إلى العواصم الغربية وعرضت قصاصة القميص بمتحف الهولوكوست في واشنطن، لكن شربجي كان لا يزال قابعاً في سجنه.
في رسالة إلى خطيبته تمكن من كتابتها في سجن سمح بكتابة الرسائل، كتب شربجي يقول: {منهك ومنكفئ على وجهي. أحاول أن أضحك لكن ضحكات كلها أسى. لا أملك سوى الصبر وذكراك}. وبعد عامين أفاد معتقل بعد إطلاق سراحه بأن شربجي تعرض للضرب حتى الموت.
تمارس العائلات والناجون في سوريا ولبنان وتركيا والأردن وألمانيا وفرنسا والسويد وغيرها، الكثير من الضغوط لإنقاذ الضحايا. فبعد إطراق سراحه عام 2013، وصل غباش إلى مدينة غازي عنتاب التركية حيث يدير حالياً منظمة معنية بحقوق المرأة وتوفير الإعانات للاجئين في آخر معاقل المقاومة السورية.
التهديد بالمقاضاة هو آخر ما تبقى، بحسب درويش، من أمل لإنقاذ المعتقلين، {فهذا ما يمنحنا الطاقة، لكنها مسؤولية كبيرة. ربما ينقذ هذا روحاً. بعضهم أصدقائي. عندما أطلق سراحي، قالوا لي: نرجوك لا تنسانا}.
عائلات المعتقلين المفقودين أصبحت في متاهة بعد أن عجزت عن تحديد مصائر ذويها أو استخراج شهادات وفاة لهم. فمثلا فدوى محمود التي تعيش في برلين حالياً لا تعلم إن كان زوجها عبد العزيز الخير لا يزال على قيد الحياة أم لا. فمنذ ست سنوات عاد من الخارج إلى دمشق بضمانات أمنية للتحدث مع الحكومة والمعارضة غير المسلحة والتوسط بينهما، وتوجه ابنه محمود لاستقباله في مطار دمشق، ولم يبين لهما أثر بعد ذلك في المطار الذي كان خاضعاً لسيطرة الاستخبارات الجوية السورية.
* خدمة {نيويورك تايمز}



الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
TT

الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)

يتضاعف خطر انعدام الأمن الغذائي في اليمن بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانهيار سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، بفعل الحرب الحوثية على الموارد الرئيسية للبلاد، وتوسيع دائرة الصراع إلى خارج الحدود، في حين تتزايد الدعوات إلى اللجوء للتنمية المستدامة، والبحث عن حلول من الداخل.

وبينما تتوالي التحذيرات من تعاظم احتياجات السكان إلى المساعدات الإنسانية خلال الأشهر المقبلة، تواجه الحكومة اليمنية تحديات صعبة في إدارة الأمن الغذائي، وتوفير الخدمات للسكان في مناطق سيطرتها، خصوصاً بعد تراجع المساعدات الإغاثية الدولية والأممية خلال الأشهر الماضية، ما زاد من التعقيدات التي تعاني منها بفعل توقف عدد من الموارد التي كانت تعتمد عليها في سد الكثير من الفجوات الغذائية والخدمية.

ورجحت شبكة الإنذار المبكر بالمجاعة حدوث ارتفاع في عدد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية في اليمن في ظل استمرار التدهور الاقتصادي في البلاد، حيث لا تزال العائلات تعاني من التأثيرات طويلة الأجل للصراع المطول، بما في ذلك الظروف الاقتصادية الكلية السيئة للغاية، بينما تستمر بيئة الأعمال في التآكل بسبب نقص العملة في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، وانخفاض قيمة العملة والتضخم في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

وبحسب توقعات الأمن الغذائي خلال الستة أشهر المقبلة، فإنه وبفعل الظروف الاقتصادية السيئة، وانخفاض فرص كسب الدخل المحدودة، ستواجه ملايين العائلات، فجوات مستمرة في استهلاك الغذاء وحالة انعدام الأمن الغذائي الحاد واسعة النطاق على مستوى الأزمة (المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي) أو حالة الطوارئ (المرحلة الرابعة) في مناطق نفوذ الحكومة الشرعية.

انهيار العملة المحلية أسهم مع تراجع المساعدات الإغاثية في تراجع الأمن الغذائي باليمن (البنك الدولي)

يشدد الأكاديمي محمد قحطان، أستاذ الاقتصاد في جامعة تعز، على ضرورة وجود إرادة سياسية حازمة لمواجهة أسباب الانهيار الاقتصادي وتهاوي العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، منوهاً إلى أن عائدات صادرات النفط والغاز كانت تغطي 70 في المائة من الإنفاق العام في الموازنة العامة، وهو ما يؤكد أهميتها في تشغيل مؤسسات الدولة.

ويضيف قحطان في حديث خص به «الشرق الأوسط» أن وقف هذه الصادرات يضع الحكومة في حالة عجز عن الوفاء بالتزاماتها، بالتضافر مع أسباب أخرى منها الفساد والتسيب الوظيفي في أهم المؤسسات الحكومية، وعدم وصول إيرادات مؤسسات الدولة إلى البنك المركزي، والمضاربة بالعملات الأجنبية وتسريبها إلى الخارج، واستيراد مشتقات الوقود بدلاً من تكرير النفط داخلياً.

أدوات الإصلاح

طبقاً لخبراء اقتصاديين، تنذر الإخفاقات في إدارة الموارد السيادية ورفد خزينة الدولة بها، والفشل في إدارة أسعار صرف العملات الأجنبية، بآثار كارثية على سعر العملة المحلية، والتوجه إلى تمويل النفقات الحكومية من مصادر تضخمية مثل الإصدار النقدي.

توقف تصدير النفط يتسبب في عجز الحكومة اليمنية عن تلبية احتياجات السكان (البنك الدولي)

ويلفت الأكاديمي قحطان إلى أن استيراد مشتقات الوقود من الخارج لتغطية حاجة السوق اليمنية من دون مادة الأسفلت يكلف الدولة أكثر من 3.5 مليار دولار في السنة، بينما في حالة تكرير النفط المنتج محلياً سيتم توفير هذا المبلغ لدعم ميزان المدفوعات، وتوفير احتياجات البلاد من الأسفلت لتعبيد الطرقات عوض استيرادها، وأيضاً تحصيل إيرادات مقابل بيع الوقود داخلياً.

وسيتبع ذلك إمكانية إدارة البنك المركزي لتلك المبالغ لدعم العرض النقدي من العملات الأجنبية، ومواجهة الطلب بأريحية تامة دون ضغوط للطلب عليها، ولن يكون بحاجة إلى بيع دولارات لتغطية الرواتب، كما يحدث حالياً، وسيتمكن من سحب فائض السيولة النقدية، ما سيعيد للاقتصاد توازنه، وتتعافى العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وهو ما سيسهم في استعادة جزء من القدرة الشرائية المفقودة للسكان.

ودعا الحكومة إلى خفض نفقاتها الداخلية والخارجية ومواجهة الفساد في الأوعية الإيرادية لإحداث تحول سريع من حالة الركود التضخمي إلى حالة الانتعاش الاقتصادي، ومواجهة البيئة الطاردة للاستثمارات ورجال الأعمال اليمنيين، مع الأهمية القصوى لعودة كل منتسبي الدولة للاستقرار داخل البلاد، وأداء مهاهم من مواقعهم.

الحكومة اليمنية تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الحوثيين لوقف حصار تصدير النفط (سبأ)

ويؤكد مصدر حكومي يمني لـ«الشرق الأوسط» أن الحكومة باتت تدرك الأخطاء التي تراكمت خلال السنوات الماضية، مثل تسرب الكثير من أموال المساعدات الدولية والودائع السعودية في البنك المركزي إلى قنوات لإنتاج حلول مؤقتة، بدلاً من استثمارها في مشاريع للتنمية المستدامة، إلا أن معالجة تلك الأخطاء لم تعد سهلة حالياً.

الحل بالتنمية المستدامة

وفقاً للمصدر الذي فضل التحفظ على بياناته، لعدم امتلاكه صلاحية الحديث لوسائل الإعلام، فإن النقاشات الحكومية الحالية تبحث في كيفية الحصول على مساعدات خارجية جديدة لتحقيق تنمية مستدامة، بالشراكة وتحت إشراف الجهات الممولة، لضمان نجاح تلك المشروعات.

إلا أنه اعترف بصعوبة حدوث ذلك، وهو ما يدفع الحكومة إلى المطالبة بإلحاح للضغط من أجل تمكينها من الموارد الرئيسية، ومنها تصدير النفط.

واعترف المصدر أيضاً بصعوبة موافقة المجتمع الدولي على الضغط على الجماعة الحوثية لوقف حصارها المفروض على تصدير النفط، نظراً لتعنتها وشروطها صعبة التنفيذ من جهة، وإمكانية تصعيدها العسكري لفرض تلك الشروط في وقت يتوقع فيه حدوث تقدم في مشاورات السلام، من جهة ثانية.

تحذيرات من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد (أ.ف.ب)

وقدمت الحكومة اليمنية، أواخر الشهر الماضي، رؤية شاملة إلى البنك الدولي لإعادة هيكلة المشروعات القائمة لتتوافق مع الاحتياجات الراهنة، مطالبةً في الوقت ذاته بزيادة المخصصات المالية المخصصة للبلاد في الدورة الجديدة.

وكان البنك الدولي توقع في تقرير له هذا الشهر، انكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة واحد في المائة هذا العام، بعد انخفاضه بنسبة 2 في المائة العام الماضي، بما يؤدي إلى المزيد من التدهور في نصيب الفرد من إجمالي الناتج الحقيقي.

ويعاني أكثر من 60 في المائة من السكان من ضعف قدرتهم على الحصول على الغذاء الكافي، وفقاً للبنك الدولي، بسبب استمرار الحصار الذي فرضته الجماعة الحوثية على صادرات النفط، ما أدى إلى انخفاض الإيرادات المالية للحكومة بنسبة 42 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي، وترتب على ذلك عجزها عن تقديم الخدمات الأساسية للسكان.

وأبدى البنك قلقه من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد، وتفاقم الأزمات الاجتماعية والإنسانية.