«تحرّشات» تركية بمكامن الطاقة في شرق المتوسط

مساعي أنقرة للتنقيب خارج مياهها أثارت قلقاً مصرياً ورفضاً دولياً

اللواء سمير فرج - د. أحمد قنديل
اللواء سمير فرج - د. أحمد قنديل
TT

«تحرّشات» تركية بمكامن الطاقة في شرق المتوسط

اللواء سمير فرج - د. أحمد قنديل
اللواء سمير فرج - د. أحمد قنديل

تخلت مصر أخيراً، عن ملمح لافت لطالما اتسمت به سياساتها الخارجية منذ 30 يونيو (حزيران) 2013، وهو الملمح الذي يتعلق بالتعامل الهادئ مع دول الجوار ذات التوجهات المغايرة، والتي دأبت مصر على تخفيض التوتر تجاهها أو النأي عن الدخول في سجال معها.
السبب في هذا التطور يرجع إلى إعلان تركي، بدا أكثر جدية من ذي قبل، عن بدء الحفر في منطقة بحرية تقع غرب جمهورية قبرص، للبحث عن الغاز الطبيعي. وهو ما أثار كذلك اعتراضات أوروبية وأميركية، نددت بالتحركات «غير القانونية» لتركيا قرب مكامن الطاقة الواعدة في شرق البحر المتوسط.

صيغة اعتراض مصر على الحفر التركي في شرق المتوسط، الذي أعلنته وزارة الخارجية مطلع الأسبوع الماضي، تبدو كاشفة في حد ذاتها عن حجم «القلق» لدى القاهرة. إذ استخدم تعبير «التحذير» لأنقرة من «انعكاس أي إجراءات أُحادية على الأمن والاستقرار في منطقة شرق المتوسط». وأكد بيان الخارجية المصرية «ضرورة التزام أي تصرفات لدول المنطقة بقواعد القانون الدولي وأحكامه».
متخصصون في هذا الملف، يرون أن «تحرشات» تركيا بمكامن الطاقة ليست جديدة؛ وإن كانت هذه المرة أكثر إثارة للقلق الدولي والإقليمي. إذ سبق أن أقدمت البحرية التركية خلال فبراير (شباط) 2018 على اعتراض سفينة حفر تابعة لشركة «إيني» الإيطالية، كانت في طريقها للتنقيب عن الغاز المكتشف جنوب جزيرة قبرص. وتواكب ذلك مع تأكيد تركي على نية الحفر قبالة «قبرص الشمالية (التركية)»، وهي الكيان الانفصالي الذي لا تعترف بها سوى أنقرة.
لكن، ما الذي جدّ ليثير التوترات المتصاعدة على صفحة المتوسط؟
جانب من الإجابة عن السؤال ربما يكون لدى «هيئة المسح الجيولوجي الأميركي»، التي قالت في عام 2010: إن «مياه المسطّح البحري الحيوي تغطي تحتها نحو 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز، وكان ذلك قبل تسع سنوات. غير أن الهيئة نفسها عادت وضاعفت توقعاتها، قبل سنتين، تقريباً». وأشارت إلى أن «احتياطيات الغاز الطبيعي الموجودة بالبحر المتوسط ما بين 340 إلى 360 تريليون قدم مكعبة من الغاز».

- فصول الصراع متشابكة
فصول الصراع على مكامن الطاقة في شرق المتوسط تبدو إذن متشابكة الأطراف والخلفيات. فمن جهة، لم تُثِر التحركات التركية ردود فعل إقليمية معنية مباشرة بالتنقيب في المنطقة مثل مصر واليونان وقبرص وحسب؛ بل إن إعلان الرفض جاء أيضاً من الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة الأميركية.
وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، دعت تركيا إلى «ضبط النفس واحترام الحقوق السيادية لقبرص في منطقتها الاقتصادية الخالصة، والامتناع عن أي عمل غير قانوني». وأكدت أن «الاتحاد الأوروبي سيرد في شكل ملائم وبتضامن كامل مع قبرص (عضو الاتحاد)».
واشنطن أيضاً اعتبرت هذه الخطوة «استفزازية، وتزيد من التوترات في المنطقة». ولم يختلف الأمر في موسكو، رغم ما بين روسيا وتركيا من تقارب نسبي؛ إذ شددت على ضرورة أن يكون «أي نشاط اقتصادي متوافقاً مع قواعد القانون الدولي، والإحجام عن اتخاذ الإجراءات التي يمكن أن تسبب التوتر».

- قوانين وقواعد دولية
جدير بالذكر، أن للحدود البحرية ومناطق التنقيب في المتوسط قوانين وقواعد واتفاقيات دولية، تجمع بين بعض أطرافها. وأهمها ما يتعلق باتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص في عام 2003، واتفاقية تقاسم مكامن الغاز المشتركة بين البلدين الموقعة في 2013.
وغير بعيد عن ذلك، كانت بعض دول المتوسط قد انخرطت في يناير (كانون الثاني) الماضي ضمن «منتدى غاز شرق المتوسط» (EMGF) ومقره القاهرة، وهو يضم بخلاف مصر كلاً من ليونان، وقبرص، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين، وإسرائيل. وجاء في البيان التأسيسي للمنتدى إنه «بمثابة منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء بشأن مواردها الطبيعية بما يتفق مع مبادئ القانون الدولي».
تركيا بدورها تتحرك في هذا النطاق مدفوعة بذريعة أساسية، تتمثل فيما تقول إنه «موافقة من قبرص الشمالية على التنقيب قبالة سواحلها». لكن إلى جانب ذلك، فإن بُعداً مهماً يلفت إليه الدكتور أحمد قنديل، رئيس برنامج دراسات الطاقة بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، يتمثل فيما وصفه بـ«أقصى نقاط الضعف لدى أنقرة والمتعلقة بتوافر الطاقة؛ إذ تستورد نحو 60 في المائة من الغاز المستهلك لديها من روسيا، ومن المرجح أن تكون الاكتشافات الهائلة في المتوسط، والتي بدأت في الظهور تباعاً منذ عام 2009، مطمعاً كبيراً لها».
ذريعة أخرى، تلجأ لها أنقرة في خضم الأزمة تتمثل فيما أعلنته الخارجية التركية، خلال فبراير 2018، هي أنها لا تعترف بـ«قانونية اتفاقية وقعتها مصر وقبرص عام 2013 لتقسيم مكامن التنقيب عن الغاز في المتوسط». لكن القاهرة شددت حينذاك على أن «الاتفاقية لا يمكن لأي طرف أن ينازع في قانونيتها، وأنها تتسق وقواعد القانون الدولي، وتم إيداعها بصفتها اتفاقية دولية في الأمم المتحدة».
أما الدكتور نائل الشافعي، خبير الاتصالات المصري - الأميركي والباحث المهتم بتأثير قانون البحار الدولي على الكابلات البحرية وعلى الانتفاع بمكامن الغاز البحرية، فقال لـ«الشرق الأوسط»، مذكّراً بأن «الاعتراضات التركية لا تتعلق بترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص الذي تم عام 2003، بل باتفاقية تقاسم مكامن الغاز المشتركة بين البلدين الموقعة في 2013، وتحديداً فيما تراه حقاً لقبرص الشمالية في عوائد قبرص من التنقيب عن الغاز في كل المياه المحيطة بالجزيرة».
الاتفاقية التي ترفضها تركيا ترتبط بتنظيم آلية تقاسم المكامن المشتركة للغاز بين البلدين، حسب حجم المكمن في كل طرف. وضرب الشافعي مثلاً بأنه «إذا استخرجت دولة غازاً من مكمن مشترك، فعليها أن تتنازل للدولة الأخرى عن نسبة من (الريع) تتناسب مع نسبة وجود المكمن في الدولة الأخرى». وزاد موضحاً أنه «إذا تم اكتشاف حقل غاز في مكمن مشترك بين مصر وقبرص، وأظهرت الدراسات أن ثلاثة أرباعه تقع في الجانب المصري، والبقية في قبرص، فإن إنتاجه يوزّع بين البلدين بالنسبة نفسها».
وهكذا، فإن تركيا «تعترض على احتكار قبرص اليونانية كل عوائد الغاز لدولة قبرص (بشقّيها اليوناني والتركي) في تقاسم تلك المناطق مع مصر، دون أن يكون هناك وجود لحقوق قبرص التركية (الشمالية)»، وفق تقدير الشافعي، الذي قال أيضاً إنه «في كل الأحوال، فإن تركيا لا تعترض؛ بل تعترف باتفاقية ترسيم الحدود المصرية - القبرصية الموقعة في فبراير 2003، وتطالب تركيا بحق شمال قبرص في حقل أفروديت، ونطاق التحركات التركية الراهنة تقع داخل الحدود القبرصية، وفق اتفاق 2003، ولا تأثير له على الإطلاق فيما يتعلق بأعمال التنقيب داخل الحدود المصرية».
وصحيح أن عمليات التنقيب التركية الأحدث لا تمسّ بشكل مباشر المياه الخاضعة لسلطة مصر، لكن مصر وقبرص وقّعتا اتفاقاً في مايو (أيار) 2018 لمد خط أنابيب من حقل أفروديت القبرصي، الذي تقدر احتياطياته بما بين 3.6 تريليون و6 تريليونات قدم مكعبة، بغرض تسييلها في مصر وإعادة تصديرها إلى أوروبا. وتقدر تكلفته بنحو مليار دولار أميركي، ومن المتوقع الانتهاء منه العام المقبل. وهو خط يمثل استثماراً كبيراً، لا يبدو أن القاهرة ستسمح بإبقائه رهناً لـ«التحرّشات».

- من المُكايدة إلى التعطيل
وربما كان مُفسراً سابقاً أن رفض الأتراك الاعتراف باتفاقية (مصرية - قبرصية) لا تمس سيادة أنقرة، ربما يكون مرجعه إلى «المكايدة السياسية» التي اتسم بها موقف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تجاه القاهرة منذ عام 2013، وهو موقف مناهض لـ«ثورة 30 يونيو (حزيران)» التي أطاحت بحكم «الإخوان»، وإطلاقه عدداً من التصريحات التي اعتبرتها مصر «عدائية». وقرّرت على أثرها استدعاء سفيرها إلى القاهرة وطرد سفير أنقرة.
وحدث أيضاً أن أعلنت تركيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 اعتراضها على «مناورات عسكرية مشتركة بين مصر واليونان يجري التحضير لها في جزيرة رودس اليونانية». غير أن القوات البحرية والجوية المصرية نفذت بالفعل التدريب الذي حمل اسم «ميدوزا 5» بمشاركة حاملة مروَحيات من طراز «ميسترال»، وعدد من القطع البحرية اليونانية، إضافة إلى تشكيل من الطائرات المقاتلة المتعدّدة المهام من طراز «إف 16».
ومع تطور الأحداث والتفاعلات، أقدمت أنقرة خلال فبراير 2018، على اعتراض سفينة تنقيب عن الغاز تابعة لشركة «إيني» الإيطالية في المياه القبرصية. وردّت مصر - وإن كان بشكل غير مباشر على ذلك - عبر تنفيذ القوات المسلحة المصرية في حينه «أنشطة تدريبية بمسرح عمليات البحر المتوسط، تضمنت إطلاق أربعة صواريخ أرض بحر وسطح بحر، للتعامل مع جميع التهديدات والعدائيات في المياه الإقليمية».
كذلك، شهد البحر المتوسط ما يمكن اعتباره ردّاً مصرياً على رسائل «استعراض القوة» التركية، في فبراير من العام الماضي، حين نشر الجيش المصري مقاطع فيديو مصورة بعنوان «عمالقة البحار» يظهر من خلاله قدرات وجاهزية القوات البحرية المصرية، ويستعرض الأسلحة الحديثة التي أن «جمال عبد الناصر» و«أنور السادات». وبدا لافتاً في المقاطع التي بثها الجيش المصري، ظهور عدد من سفن التنقيب عن الغاز في وسط المياه وانتشار وحدات عسكرية حولها لتأمينها.
وأخيراً، نفذت مصر تدريباً عسكرياً آنذاك شمل تشكيلات إبحار مشتركة نهاراً وليلاً، وعمليات الاعتراض البحري وحق الزيارة والتفتيش للسفن المشتبه بها، بجانب تنفيذ إجراءات البحث والإنقاذ وتبادل البلاغات بين الوحدات والقطع البحرية.

- مصالح دولية... وسياسية
لا يُمكن اختزال ما يجري في المتوسط من تبادل للرسائل الصارمة في كونه خلافات ثنائية ذات خلفيات تاريخية تتعلق بالمشكلة القبرصية. فالواقع القائم يشير إلى تداخل «شبكة مصالح دولية ضخمة ترتبط بشركات عملاقة»، وفق ما يقول لـ«الشرق الأوسط» الدكتور قنديل.
الأبعاد الدولية المرتبطة بالتوترات في المتوسط، يشرحها قنديل، منطلقاً من أن «أحدث اكتشاف أعلن في فبراير الماضي، كان يتعلق بخزّان عملاق للغاز الطبيعي في حقل (جلاوكوس1) قبالة شواطئ قبرص بواقع ما بين 5 و8 تريليونات قدم مكعبة. وتوصلت إليه شركة (إكسون موبيل) الأميركية العملاقة، بينما أوقفت أنقرة سفينة ترتبط بشركة (إيني) الإيطالية قبل أكثر من عام، فضلاً عن حضور آخر لشركة (توتال) الفرنسية».
ويشير قنديل إلى أن «ردود الأفعال الدولية المرتبطة بشكل كبير بكون قبرص عضواً في الاتحاد الأوروبي. يضاف إليها أن الشركات الدولية العملاقة المرتبطة مع دول شرق المتوسط بعقود للتنقيب، لا تتحرك بمعزل عن حكوماتها الكبرى، فضلاً عن أن معظم هذه الشركات لها خبرات في التعامل مع تلك المشكلات ذات الطابع الدولي». ويرجح أنه «لا يمكن أن تعطل تركيا هذه الشركات العملاقة».

- مشاكل داخلية
بنظرة واحدة إلى خريطة أطراف المتوسط، تبدو تركيا على خلاف وتوتر مع معظم جوارها الإقليمي. وهذا أمر يربطه الرئيس الأسبق لجهاز الشؤون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، اللواء سمير فرج، بـ«الموقف الداخلي التركي».
ويتابع فرج لـ«الشرق الأوسط» بأن «المشكلات المتعلقة بتراجع الليرة التركية، فضلاً عن أزمة الانتخابات المحلية وإعادتها، وكذلك توتر العلاقة مع واشنطن على خلفية شراء منظومة S400 العسكرية الروسية، كلها تدفع سلطة إردوغان إلى محاولة إثارة مشكلات خارجية مثل التنقيب في المياه القبرصية، وهي ذات طابع دولي، لصرف الأنظار عن أزمات الداخل».
ورغم الإشارات المصرية الدائمة لجاهزية واستعداد قواتها لحماية مصالحها الاقتصادية في المياه الإقليمية، فإن الدكتور أحمد قنديل، يستبعد «أن يكون هناك تصعيد في ذلك المستوى العسكري خلال الفترة المقبلة». وينبه قنديل إلى أن «التفسير التركي للوضع القانوني لعمليات التنقيب، يشوبه العوار، وخصوصاً أن أنقرة لم تنضم إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار الموقعة عام 1982. وهذا يعني أن تحركاتها خروجٌ عن الإجماع الدولي، وتحدٍّ للمصالح الدولية المستقرة والمتوافق عليها للتنقيب عن موارد الطاقة، ومحاولة الاستيلاء على مصادر لا تمتلكها».

- موارد الغاز الطبيعي بين لبنان وإسرائيل
لا يستهلك لبنان أي غاز طبيعي، وفق تقدير أبحاث الكونغرس في عام 2016، بينما يعتمد بصورة شبه كاملة على واردات النفط في استهلاكه للطاقة. وتبعاً لبعض التقديرات، ربما يملك لبنان موارد غاز طبيعي تقدر بـ15 تريليون قدم مكعبة. ومع هذا، لم يصرح لشركة بالعمل على التنقيب عن موارد محتملة. وهنا ينبغي الأخذ في الاعتبار وجود نزاعات بين لبنان وإسرائيل على الحدود البحرية بينهما.
أما بالنسبة لإسرائيل، فعادة ما يُعرب المسؤولون الإسرائيليون عن تفاؤلهم إزاء إمكانات موارد الطاقة الإسرائيلية. وحالياً تسيطر إسرائيل على احتياطيات مؤكدة تبلغ 6.4 تريليون قدم مكعبة؛ ما يضعها في المرتبة الثانية في حوض شرق البحر المتوسط بعد مصر. وبعد اكتشافات كبرى عامي 2009 و2010، شرعت إسرائيل في دمج الغاز الطبيعي في مزيج الطاقة الذي تعتمد عليه وأصبح يشكل قرابة 30 في المائة من مجمل احتياجات الطاقة الأساسية لديها عام 2015.
يشكل النفط مصدر الطاقة الرئيسي في إسرائيل، وتحصل عليه بصورة أساسية من خلال الاستيراد. أما الغاز الطبيعي فهو الوقود الأسرع نمواً في البلاد. ويُذكر أنه قبل عام 2003، لم تستهلك إسرائيل الغاز الطبيعي بكميات كبيرة، لكن الاستهلاك ازداد باطراد بين عامي 2003 و2009، ثم تضاعف بين عامي 2009 و2015، ومع اكتشاف حقول «تامار» و«داليت» و«ليفيثان» عامي 2009 و2010، ارتفعت إمكانات تحوّل إسرائيل لمورّد صافٍ للغاز الطبيعي.

- أهم ثروات الغاز في شرق المتوسط
تبدو مياه الدول الواقعة شرق البحر المتوسط كنزاً للطاقة يثير لعاب المنقبين؛ الأمر الذي انتبه له عدد من مؤسسات ومراكز بحثية معتبرة في العالم، منها «خدمة أبحاث الكونغرس» الأميركي.
هذا الأخير أصدر في أغسطس (آب) 2016، تقريراً تحت عنوان «اكتشافات الغاز الطبيعي بشرق البحر المتوسط»، أعده مايكل راتنر، القائم بأعمال مدير وحدة الأبحاث. ولقد رصد التقرير مبكراً - قبل الإعلان عن الاكتشافات الهائلة التي خلال العامين الماضيين ومطلع العام الحالي - المستقبل الواعد لثروات المنطقة من الطاقة. وكانت هذه أهم ملامح احتياطات المنطقة (حينها)، بخلاف ما أعلنته الدول ذاتها فيما بعد.
- وضعية قبرص
أعلنت شركة «نوبل إنيرجي» اكتشاف حقل أفروديت خارج سواحل قبرص عام 2011. وتقدر احتياطيات الغاز الطبيعي في الحقل بما يتراوح بين 5 و8 تريليون مليار قدم مكعبة. وأفادت شركة «إكسون موبيل» العملاقة، خلال مارس (آذار) الماضي، باكتشاف حقل ضخم للغاز الطبيعي، اعتبرته قبرص «أحد أكبر الاكتشافات على مستوى العالم في العشرين سنة الأخيرة»، وهو بحجم احتياطي ما بين خمسة وثمانية تريليونات قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.
- مصر
فيما يخص مصر، فإنها تحولت إلى مستورد صافٍ عام 2015، مع أنها منتج كبير للغاز الطبيعي. ويمثل الغاز الطبيعي أكبر مصدر للطاقة في مصر (أقل قليلاً من النصف عن استهلاك الطاقة الرئيسي).
علاوة على ذلك، شكّل الغاز الطبيعي 77 في المائة من إنتاج الكهرباء في مصر عام 2013، لكن مصر بحلول نقصا في الغاز الطبيعي. إذ بلغ إنتاج مصر من الغاز الطبيعي ذروته عام 2009 عند مستوى 6.1 مليار قدم مكعبة - يومياً وتراجع بنسبة 24 في المائة إلى 4.4 مليار قدم مكعبة - يومياً بين عامي 2009 و2015. ومن المتوقع تنامي الطلب من جانب قطاعي الصناعة والطاقة على الغاز الطبيعي، واللذين يشكلان بالفعل 85 في المائة من استهلاك الغاز الطبيعي بمصر، بنسبة 22 في المائة بحلول عام 2021.
مصر تمتلك حالياً 3 حقول بارزة للغاز الطبيعي. منها حقل ظهر (تبلغ قدرته الإنتاجية أكثر من 3 مليارات قدم مكعبة غاز يومياً)، وحقل غاز نورس في دلتا النيل (تستهدف مصر الوصول بمعدلات إنتاجه إلى 1.2 مليار قدم مكعبة غاز يومياً). والحقل الثالث – والأبرزـ هو حقل أتول شمال دمياط، الذي تعمل مصر على الوصول بإنتاجه نهاية العام الحالي إلى 400 مليون قدم مكعبة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.