يطلق على نفسه لقب «الأمل للباحثين عن أمل». ويعد بـ«ثورة من أجل الديمقراطية»، بعدما انتزع رئاسية بلدية إسطنبول، التي بقيت حكراً على الأحزاب الإسلامية لربع قرن من الزمان، قبل أن تُنتزع منه قبل أيام بقرار من اللجنة العليا للانتخابات.
اللجنة انتزعت المنصب من السياسي الشاب أكرم إمام أوغلو بعد 19 يوماً فقط من فوزه به في واحد من أغرب المشاهد التي عايشتها تركيا في تاريخها الحديث.
غير أن إمام أوغلو لم ييأس... بل أطلق عبارته التي أصبحت مقولة يردّدها الناس في أنحاء كبريات مدن تركيا: «كل شيء سيكون على ما يرام»، متوقعاً أنه سيفوز في جولة الإعادة في 23 يونيو (حزيران) المقبل بالمنصب من جديد «لا لشيء إلا لأن الناس أحبوه»، كما يؤكد.
عرفت تركيا، على مدى تاريخها، ظهور سياسيين من نوعية الزعماء الشباب بعد فترات تعتري فيها البلاد شيخوخة سياسية تدفع الناس إلى الحديث الجادّ عن «الدم الجديد».
هؤلاء الشباب يأتون دائماً لقلب المعايير وتغيير مسار السياسة وثبات الحكم... فيما يشبه العاصفة أو الثورة التي تندلع فجأة.
في الانتخابات المحلية التي شهدتها تركيا يوم 31 مارس (آذار) الماضي لم يكن أكثر المتفائلين في صفوف المعارضة، ولا أكثر المتشائمين في صفوف حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) الحاكم، يتوقع أن يفوز مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول متفوقاً على السياسي المخضرم رئيس الوزراء والبرلمان السابق بن علي يلدريم.
ما كان هذا في الحساب على الرغم من أن استطلاعات الرأي كانت تشير إلى احتمال حدوث ذلك. أما الرئيس رجب طيب إردوغان، لفرط ثقته في حسم الانتخابات لصالح يلدريم، فرفض أن يصدّق استطلاعات الرأي التي اعتبر أنه يجري التلاعب بها، وهو الذي طالما اعتمد عليها، وحزبه، على مدى 17 سنة.
- صعود قوي
لم يتمكن إمام أوغلو من تسلّم منصبه كرئيس لبلدية إسطنبول، رغم إعلان فوزه به، إلا بعد 17 يوماً وإعادة فرز كل الأصوات الباطلة في جميع دوائر إسطنبول (39 دائرة). أيضاً، بعد التدقيق والبحث في مناطق وأحياء بعينها، مثل بويوك تشكمجه ومالتبه، وفي أعقاب فحص الطعون وطلبات الإعادة والتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية من جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم. بعد كل ذلك، أعلنت لجنة الانتخابات فوز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية المدينة، في ضربة قوية لإردوغان الذي يولي أهمية خاصة لإسطنبول، أي المدينة - المعقل التي شهدت لمعان نجمه في بداية مشواره السياسي، ومن رئاسة بلديتها انتقل ليصبح رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية. ولكن بعد 19 يوماً فقط، وتحت ضغط حزب إردوغان، قررت لجنة الانتخابات إعادة الاقتراع على منصبه فقط، من دون إعادة الانتخابات في إسطنبول بالكامل.
يُعد أكرم إمام أوغلو من الوجوه الجديدة الصاعدة في عالم السياسة التركية. وينتمي إلى جيل الشباب نسبياً، بعكس قيادة حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إليه ويتزعّمه كمال كليتشدار أوغلو البالغ من العمر 71 سنة.
- النشأة والبداية السياسة
وُلد إمام أوغلو في مدينة أقشى آباد الصغيرة التي تقع إلى الغرب من مدينة طرابزون، المطلة على البحر الأسود شمال شرقي تركيا، عام 1970. ويتحدر من أسرة محافظة متدينة لها تاريخ طويل في العمل السياسي، فوالده حسن إمام أوغلو هو مؤسس فرع حزب «الوطن الأم»، الذي تزعمه رئيس وزراء تركيا الراحل تورغوت أوزال، في منطقة طرابزون. وبعد إنهاء أكرم دراسته الابتدائية والثانوية في طرابزون، تخرج في كلية إدارة الأعمال بجامعة إسطنبول.
إمام أوغلو اعترف بأنه ينحدر من أسرة محافظة، إلا أنه قال إنه أصبح أكثر تحرراً وتبنى القيم الديمقراطية الاجتماعية إبان مرحلة دراسته الجامعية، مع أنه لم ينخرط في العمل السياسي حتى عام 2008، عندما انضم إلى حزب الشعب الجمهوري.
بعدها بعام فقط، أي عام 2009، انتزع رئاسة بلدية حي بيليكدوزو في الشطر الأوروبي من إسطنبول من حزب العدالة والتنمية. وفي انتخابات عام 2014، سيطر إمام أوغلو وحزبه على البلدية ورئاستها وأقصى حزب العدالة والتنمية تماماً منها. وبفضل هذا الأداء الجيد تنبه حزب الشعب الجمهوري لما أنجزه إمام أوغلو في إدارة حي بيليكدوزو خلال السنوات الخمس الماضية، فرشحه في الانتخابات الأخيرة لرئاسة بلدية إسطنبول التي تضم 8.5 مليون ناخب من بين عدد سكانها البالغ 16 مليون نسمة.
- خطاب حصيف عاقل
خاض إمام أوغلو حملته الانتخابية بحصافة وتعقّل، متفادياً إثارة الانقسام واستفزاز الناخبين. ولجأ إلى خطب ود مختلف قطاعات الناخبين من دون تفرقة على أساس الانتماءين السياسي أو الحزبي. واستعاض عن وسائل الإعلام التقليدية الخاضعة تماماً لسيطرة حزب إردوغان بوسائل التواصل الاجتماعي التي قدمته إلى مختلف شرائح المجتمع، خصوصاً الشباب.
بهدوء تام، توجه أكرم إمام أوغلو إلى الناخبين القاطنين في الأحياء التي تُعد معاقل لحزب العدالة والتنمية، وتجول في شوارعها، وتحدث إلى الناس، في مسعى لكسب ود المواطنين العاديين. في المقابل، كان إردوغان يخوض الحملة الانتخابية شخصياً نيابة عن حزبه، لدرجة أنه ألقى 8 خطابات أمام الناخبين بإسطنبول في آخر يوم من الحملة الانتخابية. وحقاً، أثار هذا التصرف تساؤلات عن السبب الذي يدفع رئيس الجمهورية لخوض حملة الانتخابات المحلية، مع أنها ليست انتخابات مفصلية، ولا هي انتخابات برلمانية أو رئاسية، بينما لا يظهر المرشحون أنفسهم مثل بن علي يلدريم في إسطنبول.
وبعكس خطاب إردوغان، الحماسي والصدامي، اتسم خطاب إمام أوغلو بالهدوء والمنطقية والود، وركّز على احتياجات الناس والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب تركيا ويكتوي بها الشعب التركي، مُبرزاً عجز الحكومة عن التوصّل إلى حلول لها.
وحتى بعد إعلان نتائج الانتخابات، تحدث إمام أوغلو أمام أنصار حزبه في المدينة موجهاً كلامه لأنصار إردوغان، في أعقاب تبيان لجنة الانتخابات تقدمه بفارق بسيط على مرشح إردوغان من «العيار الثقيل» مثل بن علي يلدريم. وقال إن العملية «يجب أن تجري باحترام وتفاهم وبالحوار متبادل، وأدعو رئيسي رجب طيب إردوغان إلى إبداء منتهى الحرص في هذا المجال، وتخفيف التوتر، خدمةً لمصلحة الوطن والمنطقة. وأرجو التوصل إلى حل عادل بأسرع وقت ممكن، وتلافي إلحاق الضرر بسمعة تركيا دولياً».
لقد نجح إمام أوغلو في أن يقدّم وجهاً جديداً للعلمانيين الأتراك، لا يتصادم مع الدين ولا يستغله، أو يوظفه أيضاً لأهداف سياسية، إذ حضر إمام أوغلو صلاة الغائب على أرواح ضحايا هجوم كرايستشيرتش في نيوزيلندا قبل الانتخابات، وقرأ بعض الآيات القرآنية. وكانت هذه لفتة تناقضت مع الصورة النمطية عن حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي، بينما كان إردوغان يستخدم الفيديو الصادم للمذبحة للهجوم على الغرب واتهامه بالعداء للإسلام.
- كسب الناخبين الأكراد
وللمرة الأولى أيضاً، نجح إمام أوغلو من خلال نهجه الهادئ والتصالحي في اجتذاب تأييد الأكراد. ورغم تفادي إردوغان وحزبه، المتحالف مع حزب الحركة القومية التركي اليميني المتشدد، استفزاز الناخبين الأكراد خلال الحمة الانتخابية، فإن هذا التحالف كان كفيلاً بإبعاد أصوات الأكراد عن مرشح العدالة والتنمية وتوجيهها إلى إمام أوغلو بكثافة. وبالنتيجة، امتنع حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد عن تقديم مرشحين له في إسطنبول وأنقرة وغيرها من المدن الكبرى، حيث لا يشكّل الأكراد غالبية السكان، ووجه أصواته فيها إلى مرشحي «تحالف الأمة» المكون من حزبي الشعب الجمهوري والحزب الجيد.
- منافس إردوغان
من جهة ثانية، على الرغم من أن إمام أوغلو لم يكن ينافس في انتخابات برلمانية أو رئاسية فإنه قدم نفسه على الساحة كمنافس مستقبلي للرئيس إردوغان، الذي استهدفته خطاباته، أثناء الجملة الانتخابية وبعد فوزه، من خلال التشكيك في نتائج الانتخابات.
وبالتالي، دفع النجاح الذي حققه إمام أوغلو في إسطنبول على الرغم من الضغوط الشديدة ضده وغياب الدعم الإعلامي، كثيرين من السياسيين والمراقبين إلى النظر إليه كمنافس محتمل يصلح لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة في 2023. بل إن رئيس البرلمان نائب رئيس الوزراء الأسبق بولنت آرينج، أحد القيادات التاريخية لحزب العدالة والتنمية، عبّر عن ذلك بقوله إنه كلما هاجم إردوغان إمام أوغلو، زاد من وزنه السياسي على الساحة... وفتح أمامه الطريق إلى المنافسة على رئاسة الجمهورية بعد أقل من 5 سنوات.
إذن، يظهر الآن على الساحة المنافس الذي يهدد نفوذ إردوغان في المستقبل. وهو يتمتع بحظوظ كبيرة للفوز بنسبة أعلى من المرة الماضية في معركة الإعادة بإسطنبول. وهذا (على الأقل) ما تعكسه أرقام معجبيه على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «تويتر» و«إنستغرام»، بعدما تخطى عدد متابعيه شخصيات كبيرة من حزب العدالة والتنمية، مثل وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أو وزير الخزانة والمالية، صهر إردوغان برات البيراق، بل حتى منافسه المخضرم بن علي يلدريم.
أيضاً، أعاد الحضور اللافت لإمام أوغلو صورة الزعيم الكردي صلاح الدين دميرطاش، الذي لمع نجمه على الساحة السياسية عام 2015، وهو في الـ45 من العمر. دميرطاش قاد حزب الشعوب الديمقراطي إلى البرلمان للمرة الأولى التي يدخل فيها حزب كردي إلى البرلمان، ويشكل مجموعة برلمانية بعد تخطي الحاجز النسبي (10 في المائة من أصوات الناخبين الأتراك) في انتخابات 7 يونيو 2015. ولقد أحرج هذا الحزب حزب العدالة والتنمية الحاكم وحرمه للمرة الأولى منذ عام 2002 من الحصول على الغالبية وتشكيل الحكومة منفرداً في الانتخابات المبكرة التي أجريت في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه. يومذاك، لجأ إردوغان لتلك الانتخابات لنفوره من فكرة أن تشهد تركيا حكومة ائتلافية وجد رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو صعوبة في تشكيلها مع أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان. ومن ثم، اختار إردوغان الانتخابات المبكرة بدلاً من تسليم الحكومة إلى حزب الشعب الجمهوري، ثاني أكبر الأحزاب في البرلمان، كما يقضي القانون.
- تكرار الفوز
يرى مراقبون أن معركة الإعادة في إسطنبول بين إمام أوغلو ويلدريم «خطوة غير محسوبة من إردوغان»، الذي بدا همه الوحيد منصرفاً لاستعادة نفوذه على المدينة التي تشكل القلب النابض اقتصادياً وثقافياً في تركيا، دون حساب لنتائج هذه الخطوة على صورة البلاد في الخارج.
فضلاً عن ذلك، فإن الحزب الحاكم تخلى عن ميثاق غير مكتوب بين الدولة ومواطنيها يقوم على احترام نتائج صناديق الاقتراع من الجانبين. ولذا يُخشى أن يكون التحايل الذي تعرّض له إمام أوغلو لنزع مقعد رئاسة البلدية منه مؤشراً على نهاية العملية الانتخابية الشفافة والنزيهة في تركيا.
اليوم يدرك إمام أوغلو حقيقة توق الشارع التركي إلى التغيير، والحديث المتصاعد عن الحاجة إلى دم جديد. ولذا كان خطابه الأول بعد قرار اللجنة العليا للانتخابات يوم الاثنين الماضي، الذي ألقاه في تجمع جماهيري مساء اليوم ذاته، موحياً بذلك؛ إذ قال مخاطباً الجماهير ومواطني إسطنبول: «تريدون الأمل...؟ الأمل هنا»، وأشار إلى نفسه.
ثم تعهد بأن «كل شيء سيكون على ما يرام»... وهي الجملة التي تحولت إلى «التريند» الأعلى تداولاً في تركيا، حتى الآن وأصبحت تتردد على الألسن في إسطنبول ومختلف أنحاء تركيا، في ظل استياء واسع من الضغوط التي مارسها حزب إردوغان لإزاحة إمام أوغلو من منصبه، بعد أن قال الناخبون كلمتهم واختاروه.
وفي لقاء مع قناة «فوكس التركية»، في اليوم التالي لقرار اللجنة، بدا إمام أوغلو واثقاً من تحقيق فوز أعرض في الإعادة، إذ قال: «لقد شككوا بفوزي في الانتخابات وقرروا الإعادة. ومع أن أظرف التصويت تحتوي 4 بطاقات انتخابية لرؤساء البلديات والأقضية والمخاتير وأعضاء مجالس البلديات... فإنهم شككوا فقط في نتيجة بطاقة واحدة هي بطاقة رئيس البلدية... لكنني واثق من الفوز. أقول هذا لأنني أدرك أن الناس تحبني. نعم لقد أحبني الناس في إسطنبول؛ الشباب والسيدات الكبار... فوزنا كان حلالاً، لكنهم بذلوا كل ما في وسعهم ليسرقوه في أول أيام رمضان».