أنفاس حبيسة في تونس «المأزومة»

حرب في ليبيا ومنعرج سياسي في الجزائر

أنفاس حبيسة في تونس «المأزومة»
TT

أنفاس حبيسة في تونس «المأزومة»

أنفاس حبيسة في تونس «المأزومة»

تتأهب تونس، التي ترأس القمة العربية وتستعد لعضوية مجلس الأمن الدولي، لاستضافة اجتماع جديد لوزراء خارجية دول جوار ليبيا المباشرين، مصر والجزائر وتونس. ويأتي ذلك ضمن تحركات دولية وعربية «ماراثونية» تشهدها العاصمة التونسية منذ شهر بسبب اندلاع حرب حقيقية في العاصمة الليبية طرابلس والمناطق الليبية المتاخمة للحدود الشرقية التونسية والجزائرية. ورغم إعلان تونس الحياد في هذه «الحرب»، وأيضاً في الصراعات التي تشهدها جارتها الغربية الجزائر بعد الإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة والمقربين منه، يؤكد المراقبون أن الأوضاع الهشة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً في تونس قد تزداد تعقيدا بفعل المستجدات في «جارتيها» ليبيا والجزائر.
فكيف ستتطور الأوضاع على ضوء هذه المستجدات؟ وهل ينجح السياسيون التونسيون في احتوائها... أم يحصل العكس فتستفحل المخاطر إلى حد الإعلان عن دخول البلاد مرحلة «خطر داهم» يبرر مزيدا من إجراءات الطوارئ... منها تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة لشهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل؟

استقبل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد وكبار المسؤولين التونسيين عشرات المسؤولين الجزائريين والليبيين والأوروبيين والمبعوثين الروس والأميركيين والأمميين، منذ بدء هجوم قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر على طرابلس، وإسقاط الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. وأعرب القادة التونسيون أمام ضيوفهم مراراً عن تخوّفهم من إعادة «سيناريو» الاقتتال في 2001 و2014 عندما أثرت الحرب في ليبيا مباشرة على تونس وعلى بقية دول الجوار الليبي اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً.

- الحرب في ليبيا... والأزمة في تونس
بحكم وجود نحو نصف مليون ليبي في تونس بصفة دائمة منذ 2011 - بينهم عسكريون وأمنيون سابقون من أنصار مختلف الأطراف المشاركة في القتال - تعالت في وسائل الإعلام التونسية والمجالس الدبلوماسية والسياسية الرسمية منذ مطلع الشهر الماضي دعوات لالتزام الحياد، كي لا تجد تونس نفسها مجدداً في وضع لا تحسد عليه.
ويذكّر المراقبون في العاصمة التونسية بما حصل في حرب الإطاحة بالقذافي عام 2011، ثم إبان معارك السيطرة على المطار وطرابلس في 2014... فحينذاك قفز عدد الفارين من القتال إلى نحو مليوني ليبي، حسب الرئيس التونسي قائد السبسي. وتسلل بينهم تجار مخدّرات وإرهابيون ومهرّبون كبار.
في المقابل، حذر علي اللافي، الإعلامي والخبير في الشؤون الليبية والأفريقية، من «المضاعفات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الخطيرة لحرب ليبيا على الاستقرار في تونس، بحكم تداخل مصالح سكان الجنوب التونسي وموارد الرزق عندهم مع المستجدات في طرابلس والمناطق الغربية لليبيا، كالجبل الغربي والزاوية وصرمان وزوارة والزنتان وبني وليد وغريان». وحذر اللافي من مضاعفات انتشار الفوضى وتراجع نفوذ السلطة المركزية على التجار والصناعيين واليد العاملة والتوازنات الاجتماعية والسياسية في تونس، بما يمكن أن يكرس مقولة: «القتال في ليبيا والأزمة في تونس».

- براغماتية وحسابات
في الوقت نفسه، يحذر بعض المراقبين مثل الإعلامي والكاتب الخبير في شؤون ليبيا الجمعي القاسمي «من توظيف بعض الأطراف التونسية حرب ليبيا في دفع السلطات التونسية نحو الانخراط في مشروع أخونة ليبيا والمنطقة»، أي جعلها موالية لجماعات الإخوان المسلمين. ولقد حذر القاسمي من المضاعفات السلبية التي ستلحق بتونس، حكومة وشعباً، في صورة حصول تغيير سياسي جوهري على أرض المعارك لصالح قوات «حكومة الوفاق» أو قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر... وهذا بينما تبدو السلطات التونسية منحازة ضد المشير حفتر، رغم استقبال الرئيس قائد السبسي له في قصر قرطاج في سبتمبر (أيلول) 2017.
وبحكم احتضان تونس منذ سنوات مقرات الغالبية الساحقة من البعثات الدبلوماسية الأممية والعربية والدولية المعتمدة في ليبيا، بما فيها مكاتب الموفد الأممي غسان سلامة وموفد جامعة الدول العربية صلاح الدين الجمالي وطاقم سفارات الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى في طرابلس، كثف الجانب التونسي أنشطة خلية الأزمة الدائمة الخاصة بليبيا تحسبا لكل «السيناريوهات» الأمنية والسياسية والاقتصادية.
كذلك، أصدر وزيرا خارجية تونس خميس الجهيناوي مع نظيره الجزائري صبري بوقادوم خلال أبريل (نيسان) الماضي موقفاً رسمياً باسم البلدين يدعو إلى وقف إطلاق النار فورا في طرابلس والعودة إلى المسار السياسي. وهو ما اعتبره مؤيدو قائد الجيش الوطني الليبي في تونس وليبيا «بادرة غير ودية». غير أن السلطات التونسية تابعت في كل مستوياتها الدفاع عن خيار وقف الحرب. وصدر هذا الموقف مجدّداً بعد استقبال الرئيس التونسي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري والنائب الأول لرئيس حكومة السراج ووزير الداخلية فيها فتحي باش آغا ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي والموفد الأممي غسان سلامة.

- تأثير في المشهد السياسي
وحقاً، توشك الحرب في ليبيا أن تؤثر جوهرياً في المشهد السياسي والحزبي التونسي حسب اصطفاف مختلف الأطراف إلى جانب «حكومة الوفاق» في طرابلس برئاسة فايز السراج وحلفائها من التيار الإسلامي، أو مع قيادة الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر وحلفائه الإقليميين. وفي هذا السياق، تباينت ردود الفعل داخل المعارضة والأطراف السياسية التونسية من دعوات الرئيس قائد السبسي ووزارتي الخارجية التونسية والجزائرية لوقف القتال وحقن الدماء في ليبيا.
حزب «النهضة» الإسلامي رحّب بها، بينما خصومه عارضوها واعتبروها انحيازاً لصالح المجموعات القريبة من الإخوان المسلمين ضد الطرف الأقوى عسكرياً بقيادة خليفة حفتر. وتضاعفت الانتقادات للموقف الرسمي التونسي بعد استقبال حفتر في القاهرة من قبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والمكالمة التي تلقاها المشير في اليوم نفسه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد أسبوعين من المعارك. وبرّر الدبلوماسي التونسي السابق رؤوف بن رجب، ونقيب الصحافيين السابق عبد اللطيف الفراتي، والإعلامية التونسية المقيمة في أبوظبي بثينة جبنون، انتقاداتهم لكون الدبلوماسية التونسية التي وضع أسسها الزعيم المؤسس للدولة الحديثة الحبيب بورقيبة منذ 65 سنة تؤكد رفض الرهان على الطرف الأضعف وعلى «الجواد الخاسر». كذلك اتهم عدد من النشطاء السياسيين العروبيين واليساريين والعلمانيين رئيسي الدولة والحكومة التونسيين بالانحياز لمن وصفوهم بـ«أمراء الحرب» وزعماء الميليشيات في طرابلس ومصراتة ضد قائد الجيش الوطني الليبي «تحت تأثير قيادة حركة النهضة التونسية وحلفائها السياسيين في تونس وليبيا وتركيا وقطر». لكن خصومهم مثل البرلماني عماد الدايمي عن حزب «حراك تونس الإرادة» (بزعامة الرئيس السابق المنصف المرزوقي)، ووزير الخارجية السابق رفيق عبد السلام (صهر راشد الغنوشي زعيم «النهضة») والوزير السابق في حزب «المؤتمر» سليم بن احميدان انتقدوا المتحالفين داخل تونس وخارجها مع قوات الجيش الوطني الليبي، متهمين إياهم بـ«الانحياز ضد خيار التسوية السياسية» الذي تبنته الأمم المتحدة.

- تهديدات حفتر لتونس والجزائر
وفي سياق متصل، توشك الحرب في ليبيا ومعها الحراك السياسي الديمقراطي في الجزائر أن يعقّدا المشهد السياسي أكثر في تونس ويتسببا في تغييرات جوهرية في التحالفات الانتخابية والسياسية القادمة.
بعض الزعماء السياسيين مثل الرئيس السابق المنصف المرزوقي، زعيم حزب «حراك تونس الإرادة»، الذي يخوض حملة انتخابية وإعلامية سابقة لأوانها، أدلوا بتصريحات تربط بين القتال الحالي في ليبيا والحراك الشعبي السلمي في الجزائر والسودان من أجل التغيير والإصلاح السياسي. وذهب بعض أنصار المرزوقي إلى حد اعتبار اندلاع «حرب طرابلس» في توقيت انتصار الحراك الشعبي السلمي نفسه في الجزائر «محاولة من قبل بعض القوى الدولية والإقليمية لإجهاض الانتقال الديمقراطي في تونس والجزائر والسودان»، عبر جرّ هذه الدول مجددا نحو مربع التصعيد الأمني والعسكري... حسب زعمهم.
وفيما يتعلق بالموقف الجزائري، قال وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم في تونس إن «الحراك الشعبي الديمقراطي في الجزائر لن يشغل القوات المسلحة الجزائرية عن حماية حدود البلاد الشرقية من جهة ليبيا وتونس». وتابع مشدداً على أن «هذا الحراك لم يؤد إلى تغير موقف الجزائر وتونس من التسوية السياسية وتشجيع الفرقاء على تطبيق خريطة الطريق الأممية فيما يخص عقد المؤتمر الوطني الجامع والإعداد للانتخابات المتفق عليها في مشاورات روما وباريس وأبوظبي ثم في القمة العربية الـ30 بتونس».

- الأزمة الاقتصادية والمالية
في هذه الأثناء تتكاثر علامات الاستفهام حول التبعات الاقتصادية... ماذا عن الانعكاسات المالية والاقتصادية للحرب في ليبيا والمتغيرات السياسية السريعة في الجزائر على «جارتهما» تونس؟ لوحات تسجيل السيارات الليبية والجزائرية التي انتشرت في شوارع المدن التونسية وطرقاتها وفنادقها السياحية في الفترة الأخيرة تكشف ارتفاعاً كبيراً في عدد الليبيين والجزائريين.
بطبيعة الحال، ثمة من يربط هذه الظاهرة بسياح وافدين ارتفعت أعدادهم فجأة بمناسبة حلول شهر رمضان. لكن ثمة من يتساءل أيضاً عن إمكانية أن يكون هذا المشهد تعبيراً عن ظاهرة فرار جماعي من الحرب في ليبيا ومن المظاهرات في الجزائر؟
السلطات التونسية والليبية والجزائرية، في هذه الأثناء، تسعى إلى طمأنة مواطنيها عبر الإعلان عن جلسات تنسيق وتشاور رفيعة المستوى بين سلطات العواصم الثلاث، بما في ذلك في مجال تنظيم حركة المسافرين والسياح والفارين من الحرب والاضطرابات. إلا أن الخبير الاقتصادي التونسي رضا الشكندالي يسجل أن «التجارب السابقة أثبتت أن الحرب في ليبيا وحالة اللااستقرار في الجزائر خلال عقد التسعينات من القرن الماضي تسببتا في فرار مئات الآلاف من الليبيين والجزائريين من ضعاف الحال إلى تونس».
ويعني تضخم عدد الفارين من الحرب والاضطرابات بالنسبة لتونس أعباء مالية إضافية بالنسبة لميزانية الدولة التونسية، التي تشكو أصلاً من صعوبات كثيرة... من بينها تضخم أعباء الدعم للمواد الغذائية والأساسية مثل المحروقات. ولقد ارتفعت قيمة تلك الأعباء من أقل من نصف مليار دولار أميركي في 2010 إلى أكثر من ملياري دولار سنوياً العام الماضي. ويمكن أن تتضخم هذه الأعباء أكثر إذا ما سجّل عدد النازحين واللاجئين الليبيين والجزائريين أرقاماً قياسية... فناهز المليون شخص أو المليونين؛ غالبيتهم من أبناء الطبقات الشعبية والوسطى.
في المقابل، يرى الخبير في الشؤون الدولية أيمن بن عبد الرزاق أنه يمكن أن يساهم فرار الميسورين والأغنياء من نيران الحرب في ليبيا ومن أجواء المظاهرات في الجزائر «في دعم سياحة الفنادق الفخمة في العاصمة تونس والمناطق السياحية الحدودية مثل طبرقة – عين دراهم، على الحدود مع الجزائر، وجربة - جرجيس على الحدود مع ليبيا».
وفي هذا المجال، تقدر وزارة السياحة التونسية عدد السياح الليبيين والجزائريين بنحو 4 ملايين سنوياً. ويوفر هؤلاء كميات من العملات الجنبية للخزينة التونسية تفوق تلك التي توفرها عائدات سياحة المجموعات الأوروبية التقليدية. غير أن الخبير الاقتصادي جمال العويديدي، يقول متخوفاً أن «اضطراب الأوضاع الاقتصادية والمالية وتفاقمها في غرب ليبيا، وكذلك استمرار الغموض حول مستقبل الجزائر، يمكن أن يتسببا بحرمان الدولة التونسية من نحو نصف مواردها من العملات الأجنبية».

- تونس تعيش هاجسي الهجرة غير الشرعية والإرهاب
على الرغم من التطمينات التي قدّمها رسميون تونسيون وليبيون وجزائريون، في الآونة الأخيرة، صدرت تصريحات تكشف تخوف سلطات تونس وعدد من دول حوض المتوسط الأوسط - بينها إيطاليا - من نزوح أعداد هائلة من الفارين من الحرب الليبية نحو تونس والسواحل الجنوبية لأوروبا. وبالنسبة لإيطاليا، تتركز الخشية من التدفق عبر بوابة الجزر الإيطالية التي لا يبعد بعضها عن السواحل التونسية والليبية أكثر من ساعتين بزورق صيد عادي.
وفي هذا الصدد، أعرب رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد، خلال مؤتمر صحافي عقده في تونس مع نظيره الإيطالي جوزيبي كونتي، عن المخاوف إزاء نزوح عدد كبير من الليبيين إلى تونس كما حدث عام 2011. وأورد الشاهد أن «تونس وإيطاليا من أكثر الدول تضرراً من النزاع في ليبيا منذ 2011، وثمة تخوف من تكرار تجربة 2011 بشأن نزوح اللاجئين إلى تونس بعدد كبير». وأردف أن «الوضع الأمني في ليبيا مقلق جداً... وتبقى تونس وإيطاليا على أقصى درجات الحذر».
أيضاً أشار الشاهد إلى وجود تخوف من الإرهاب، لا سيما أن الحدود بين الحدود التونسية الليبية تمتد لأكثر من 500 كلم، قبل أن يشير إلى أن قوات الأمن التونسية مستنفرة على طول الحدود.
ومن جهة ثانية، حذر مصدر أمني تونسي رفيع من «مخاطر عودة العنف السياسي والجريمة المنظمة والإرهاب في صورة توسع مناطق الاقتتال والحرب في ليبيا، وتوظيف مجموعات متحالفة مع جماعات (القاعدة) و(داعش) للأوضاع خدمة لأجندتها الإرهابية». وفي السياق ذاته، أكد وزير الدفاع التونسي عبد الكريم الزبيدي «وجود مخاطر أمنية جديدة من جهة الحدود بين تونس وليبيا»، لكنه أكد أن «قوات الجيش والأمن في حالة طوارئ وأجهضت محاولات جديدة للنيل من أمن البلاد وانتهاك قوانينها».
وبالاتجاه نفسه، أعلن وزير الداخلية التونسي هشام الفراتي بعد زيارته الحدود التونسية الليبية والتونسية والجزائرية أن حركة المسافرين في الاتجاهين تحت السيطرة، بالتنسيق مع نظيريه في طرابلس والجزائر، لكن الأستاذ الجامعي والخبير التونسي علية العلاني دعا إلى أخذ ملف المخاطر الأمنية على مأخذ الجد. وحذر العلاني من فرضية استفحال تهريب السلع والسلاح وتسلل إرهابيين ليبين وجزائريين إلى تونس بين آلاف النازحين والمهاجرين المدنيين.
ولكن، رغم كل الجهود المبذولة والطمأنة الرسمية، فما زال بعض السياسيين والمراقبين في تونس متخوفين من تعقد الأوضاع في ليبيا والجزائر ما يجعل تونس عرضة لمخاطر أكبر على حد تعبير الوزير ناجي جلول، مستشار الرئيس التونسي والقيادي في حزب «نداء تونس».
جلول أورد في تصريح صحافي أن تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، المقرّر تنظيمها خلال العام الحالي وارد؛ تطبيقاً للفصل الـ80 من الدستور التونسي، الذي يسمح بمثل هذا القرار في صورة تعرّض البلاد لما يسمى «الخطر الداهم». وأوضح القيادي في الحزب الحاكم التونسي أن أطرافاً كثيرة قد تعتبر الحرب التي تدور رحاها حالياً في ليبيا، والمتغيرات المتسارعة في الجزائر، ومسألة الإرهاب من بين الحجج الكافية لتبرير إعلان قرار بتأجيل الانتخابات، وذلك بسبب المخاطر الأمنية وقلة جاهزية قوات الأمن والجيش لمواجهتها مجتمعة وتأمين تنظيم انتخابات عامة في ظروف عادية.
وهكذا، وفي انتظار ما ستسفر عنه تطورات الأيام المقبلة تحبس تونس، شعباً وسلطة، أنفاسها... ويزداد اصطفاف السياسيين وزعماء الأحزاب حول أحد المحورين اللذين يخوضان اقتتالاً شرساً منذ أسابيع في ليبيا «في حرب لن يكون فيها أي منتصر»، وفق توقعات رئيس الحكومة الإيطالية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.