الجوائز الأدبية... تنافُس أم سباق؟

أصيب كثير من الروائيين العرب بعدواها

الجوائز الأدبية... تنافُس أم سباق؟
TT
20

الجوائز الأدبية... تنافُس أم سباق؟

الجوائز الأدبية... تنافُس أم سباق؟

من اليسير تحديد جدوى الجوائز الأدبية في عالم الإبداع، على الرغم من وجود إشكالات كثيرة تعتري هذه الظاهرة الجديدة على واقعنا العربي ومشهدنا الثقافي، ولكنّ هناك ملابسات صارت تستشري عاماً بعد عام، وبعضها أخذ يطال مسلمات الكتابة الإبداعية التي كان الروائي العربي ملتزماً بها ومدركاً فاعليتها ومؤمناً بأهميتها، فتهرّأ بعض المسلمات وتفتّتت مسألة الإيمان بجدواها وحلّت محلها ممارسات في الكتابة الإبداعية هي طارئة وهجينة، تأخذ شكلاً غير سليم يمالئ متطلبات الجوائز وحيثياتها المختلفة، متحرياً ممكنات الفوز، واقعاً في هوة إغراءاتها.
والمتحصَّل من ذلك كله المحمومية في الحظوة بالغنيمة تكالباً على امتيازاتها المادية وأحياناً المعنوية، ولقد أُصيب كثير من الروائيين العرب للأسف بعدوى الممالأة للجوائز، انخراطاً في الترشح لها وقبولاً بآليات التسابق إليها.
وقد عُقد الأمل عند كثير منهم على الحظ، والحظ وحده فقط، في ظل غياب الرسوخ في التقاليد الذي يجعل الإبداع مرهوناً بالحظ مقروناً بالصدفة، كما أن اشتراط إشراك العمل الروائي في المسابقة أن يكون صادراً في سنة أو قبل سنتين من منح الجائزة فيه تجاهُل لأدوار أخرى ضرورية في تقويم العمل الإبداعي؛ ومن ذلك الرأي العام الذي أهم أطرافه المتلقي، ثم المشهد الثقافي، والنقد المتخصص، والصحافة الثقافية التي بها يؤكد العمل الروائي أبرز صفاته (لا كلها)، وهذا ما لا يتم إلا بعد مدة كافية من انتشار ذلك العمل، وبغير ذلك يكون أمر التقييم له تعسفياً منوطاً بلجنة من النقاد يختارهم إداريو الجائزة، ثم ما الذي يجعل المعايير الضابطة التي تضعها لجان التحكيم في مثل هذه الجوائز بعيدة عن الشبهات ومأمونة الجانب في علميتها وموثوقة في نزاهتها؟
لا يكون الإبداع إبداعاً ما لم يكن حراً يستهدف الإنسان لا الرهان، مولوداً ولادة طبيعية من مخيلة حرة لا مستعبَدة، ومستقلاً لا مرهوناً بشروط التسابق التي تضرب الإبداع وحريته في الصميم.
إن أهم سمات المبدع العربي الأصيل تحرره من موالاة ما هو سلطوي بكل معاني التسلط، سياسيةً كانت أم مجتمعية وحتى سلطة الكتابة لا إخضاع فيها إلا لمواضعات العقل واللغة. وما كان لكاتب كبير كنجيب محفوظ أن يكتب وهو يفصِّل إبداعه على مقاس الجوائز، بل كان يكتب وهو متحرر الفكر والوعي يوظِّف المخيلة والذاكرة بأمانة فيصوغ الجمال من غير أن يساير ويخطط من دون أن يتسابق في عالم الكتابة الإبداعية.
وليس التنافس كالتسابق، لأن الأول يغذّي جذوة الإبداع ويزيدها اتّقاداً، بينما الثاني هو وبال على الإبداع لأنه أقرب إلى المرض، أو هو عدوى تعيق العملية الطبيعية لولادة المبدع إما بالتقييد وإما بالخضوع والاتباع. وهو ما لا ينبغي للروائي العربي أن ينساق وراءه.
وحقيق بالجوائز الكبرى أن يكون لها مسار آخر لا تكون فيه مولداً ميكانيكياً يصنع المبدعين صناعة إعلامية، وإنما تكون مسباراً كاشفاً ومضيئاً وهي تتحرى بلجانها واستراتيجيات عملها عن الروائيين المبدعين البعيدين المغمورين والمنزوين فتُبرز إبداعهم وتكشف عن إمكانياتهم لكي تكافئهم وهم في صومعة إبداعهم، وعندها سيكون مردود ذلك كبيراً يتجاوز المبدع الفائز نفسه إلى المبدعين الآخرين الذين سيزدادون انقطاعاً إلى إبداعهم، فلا تجذبهم بهرجة التسابق.
إن التفات الجوائز إلى كبار المبدعين المنزوين المنعزلين الذين لا تعنيهم المظاهر كالمال والشهرة سيحوّل أهدافها من البحث عن دعايات براقة لأعمال روائية بعينها إلى تشخيصات موضوعية لا تنتابها دواعي الذيوع بقدر ما يهمها دواعي الإبداع الذي يخدم الثقافة العربية منمّياً فيها سنناً حسنة تدعم في الكتّاب العرب الاحترام للإبداع وإجلال حريته التي هي أسمى وأغلى من أي تسابق أو فوز. وما أكثر الروائيين العرب الذين عاشوا عزلتهم الإبداعية مواصلين مسيرة الكبار كنجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان وحنا مينة ومحمد ديب.
ولا خلاف على أن المغمورين من الروائيين في بلادنا العربية كُثر لا يعرفهم النقد العربي لأنهم في الأساس لا يريدون ناقداً يلفت إليهم الانتباه كما لا يبحثون عن تقييم لإبداعهم الذي أخلصوا له النية، فأغناهم مضيفاً إلى ذواتهم احتراماً بإزاء ما يكتبون. وهم يعلمون أن أي نتاج لن يلقى الاهتمام إلا بعد أن يختمر في ذائقة المتلقين فلا يظهر أثره الحقيقي إلا بعد حين مهما كان هذا الحين قريباً أو بعيداً. والأمثلة على ذلك كثيرة بدءاً من «أولاد حارتنا» لمحفوظ، مروراً بـ«وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، ووصولاً إلى روايات ما زال الجدل حول إبداعيتها معقوداً يُستأنف آونةً بعد أخرى.
وهذه هي الحالة الصحية التي ينبغي أن نديمها في ثقافتنا ونجدد إحياءها في نقدنا، فلا نسدل الستار على رواية لأنها لم ترشَّح لجائزة عالمية أو غير عالمية، كما لا ننبهر برواية وُضعت على لائحة قائمة صغيرة أو كبيرة. وما أكثر الروائيين الذين كانوا ضحايا الترشح الذي بدلاً من أن يدعم ثقتهم بإبداعهم راح يقلل من عزمهم ويشكك في إمكانياتهم. وحتى أولئك الذين ظهرت أسماؤهم مقرونةً بأعمالهم الروائية في قائمة من عشرين أو عشرة أو خمسة سيخضعون للأذى نفسه، كونهم سيظلون في دوامة التسابق الذي نهايته الركون في خانة الخاسرين باستثناء الاسم الذي سيثبت أن حظه عظيم وقد فاز بالغنيمة.
إن الذي ننتظره من التقييم للإبداعات الروائية العربية هو نفض الغبار عن المغمورين وإشهار ذوي الباع الحقيقي في الكتابة الروائية.
وبهذا التقدير ستتعالى الجائزة عن النظر إلى الطارئين على الإبداع الروائي من جهة، ومن جهة أخرى ستضرب في الصميم أولئك الذين لا يهمهم من إبداعهم غير الكتابة التي تراهن ولا تخلص وتساير ولا تتفرد بشتى السبل ومختلف الوسائل تناصاً مع هذا الكاتب واستقطاباً لذاك التوجه أو انحيازاً لآيديولوجيا هنا ومعاداة لأخرى هناك بهارمونية مستفزة تتكالب من دون شعور بالمسؤولية وببصيرة مصطنعة لا تخلو من المكر والدهاء.
ومن المهم في عملية التأشير على المغمورين من الروائيين العرب الاحتكام إلى لجان يتعدى جهدها التقييم إلى التشخيص والتنقيب اللذين هما أكثر أهمية وموضوعية من التقييم، بهذا لا تصبح الجوائز مجرد كرنفال بهرجي يولّد التشويش ويخلط الأوراق خلطاً يجمع الجميل بالقبيح والحقيقي بالهجين والزائف بالأصيل.
وكثير من الأعمال الفائزة ما كان لنا أن نقرأها لولا الأضواء التي سلّطتها عليها تلك الجوائز بطرق إعلامية في الغالب. وما لمسناه نقدياً مع بعض الأسماء الفائزة خلال الأعوام العشرة الماضية هو أنها ظلت في إنجازها في الحدود المتوسطة أو دون المتوسطة مما تريده أجناسية الكتابة الروائية.
والذي نتحصل عليه بالعموم أن الجوائز مفيدة ولا تضر إذا ما توفرت لمنحها الشروط المناسبة، ومثلما أن الجائزة لا تضيف للمبدع إبداعاً حتى إذا ما فاز لم يزده الفوز إلا اندفاعاً للتميز ليكون على ذات المستوى أو أكثر، كذلك كثير من الروايات تخطف قارئها وتحمله على الاندماج معها من دون أن يسأل هذا القارئ نفسه إن كان كاتبها قد فاز بجائزة أدبية أو لا.
ومؤدَّى القول إن صناعة المبدع الخُلب يسيرة في عالم التباري وكواليسه العويصة، لكن المبدع الأصيل لا تمكن صناعته، لأنه واقع خارج عالم التباري وجوائزه الثمينة.
- ناقدة وأكاديمية عراقية



قصيدة المقاومة عند سميح القاسم

قصيدة المقاومة عند سميح القاسم
TT
20

قصيدة المقاومة عند سميح القاسم

قصيدة المقاومة عند سميح القاسم

يتناول الناقد والشاعر المصري د. محمد السيد إسماعيل في كتابه «انفتاح النص الشعري» الصادر في القاهرة ضمن سلسلة «كتابات نقدية» التي تصدرها «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة» العديد من المفاهيم النظرية والتطبيقية في الشعر العربي الحديث، لكنه يتوقف بمزيد من التفصيل والتحليل عند تجربة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم عبر تجليات قصيدة المقاومة والتمرد.

ويرى المؤلف أن قصيدة المقاومة ارتبطت بشعراء الأرض المحتلة ارتباطاً وثيقاً إلى الدرجة التي كادت تقتصر عليهم.

ومن هنا اتسم شعر سميح بمجموعة من السمات الفنية يأتي في مقدمتها الوضوح، والمباشرة، والاستنفار، والإيمان بعدالة قضيته، وانتصارها الأكيد رغم كل ما يصيبها من انكسارات، وتضحيات، وهو إيمان لا يرجع فحسب إلى أفكار الواقعية الاشتراكية، التي يعتنقها الشاعر، وما تقدمه من نموذج «البطل الإيجابي»، بل يرجع في الأساس إلى إيمانه بالشعب الفلسطيني، وثقافته، وحتمية انتصاره قياساً على تجارب النضال العالمية كلها.

ظلت قصيدة القاسم، حسب المؤلف، في مقدمة شعر المقاومة، وهو ما انعكس على جماليات النص، وطبيعة التجربة، فوجدنا نموذج الإنسان البسيط المنكسر، والمحاصَر. ومن الدواوين الممثلة لهذا التوجه ديوان: «ملك أتلانتس وسربيات أخرى»، والعنوان يستلهم أسطورة تحكي غرق إحدى الجزر التي تدعى «أتلانتس»، حيث يتخذ من هذه الجزيرة رمزاً لفلسطين. والديوان مقسم إلى ست قصائد طويلة تقترب من طبيعة القصيدة الملحمية، وأكثر هذه القصائد تعبيراً عن المأزق الفلسطيني هي قصيدة: «أشد من الماء حزناً».

بتأمل عنوان القصيدة، سوف نجد «دالة الحزن» هي الأكثر حضوراً وإشعاعاً، وقد تكرر استخدامها كثيراً داخل القصيدة حتى أصبحت عبارة «أشد من الماء حزناً» أشبه بلحن الختام الذي ينهي به الشاعر مقاطعه الشعرية التي تتكون منها القصيدة. جاءت تلك العبارة أشبه بالقرار الذي ينتهي به المقطع الشعري، تمهيداً لاستئناف مقطع آخر، أو موجة أخرى، ومن مجموع هذه الموجات أو المقاطع تتكون القصيدة الغنائية الطويلة ذات النفس الملحمي الواضح.

وجاء التكرار باعتباره إحدى وسائل استمالة القارئ، والتأثير عليه، واستحضاره في وعي الشاعر، فهو المستهدف أولاً وأخيراً لأغراض متعددة، منها السخرية، كما في قوله بالفوضى: «وحول جنونك تقعي الملايين حول الملايين/ فوق الملايين/ تحت الملايين/ تمضي إلى الذبح قطعان ماعز».

وتتطور السخرية إلى ما يعرف بالرسم، أو الصورة الساخرة للشخصيات، أو من يسميهم الشاعر بـ«الكائنات الغرائب» الذين «لهم قصب السبق دون سباق/ اللهم ما تتيح المقاعد للمُقعدين/ ولهم جثة رحبة في الزحام الفقير/ وإنهم نخبة الرق أسياد زوجاتهم في المحافل/ زوجات أسيادهم في القرار الصغير».

يمكن وصف قصيدة سميح القاسم بصفة عامة بأنها قصيدة شفاهية ذات طابع احتفالي، وهذا ما يفسر ما تتسم به من تكرار، وسخرية، وزخرفة أسلوبية، كما يفسر اعتماده في تلك القصيدة على الجمل القصيرة، والقوافي المتتابعة.

وفي الأخير، يستنهض الشاعر الإنسان الفلسطيني المأزوم، والمحاصر، ويخاطبه بعقيدة التفاؤل التي لا يتراجع عنها قائلاً: «بروحك يسكن طير يهاجر صيفا/ ليرجع قبل الشتاء بموت جديد/ وتعطيك قنبلة الغاز إيقاع رقصتك القادمة/ لتنهض في اللحظة الحاسمة/ أشد من الماء حزناً وأقوى من الخاتمة».