فيلم اليوم: المفهوم يصل لكن الفيلم لا يتوقف

الفيلم: «الرئيس» The President

الزعيم وحفيده في لقطة من «الرئيس»
الزعيم وحفيده في لقطة من «الرئيس»
TT

فيلم اليوم: المفهوم يصل لكن الفيلم لا يتوقف

الزعيم وحفيده في لقطة من «الرئيس»
الزعيم وحفيده في لقطة من «الرئيس»

إخراج: محسن مخملباف
إنتاج: فرنسي/ ألماني (2014)
التظاهرة: آفاق
تقييم الناقد:(3*)
من بداية الفيلم ينصب «الرئيس» فخا لنفسه ويسقط فيه. يحدث ذلك على الشاشة بعد دقائق قليلة من المشهد الأول عندما نرى «الرئيس» (بزي عسكري) يعلم حفيده معنى السُلطة. يجلس الرئيس على شرفة قصره ويتّصل بإدارة الكهرباء ليطلب منها قطع الكهرباء عن المدينة. في ثوان تنطفئ الأضواء جميعا إلا أضواء قصره ثم يأمر بإعادة النور.
«هل تحب أن تعطي أمرا؟». يسأل الرئيس حفيده الصغير ويطلب ممن على الطرف الآخر من الهاتف الامتثال. يأمر الحفيد بقطع الكهرباء فتنقطع. يأمر بإعادتها. تعود. في المرّة الرابعة من هذه اللعبة تنقطع الكهرباء ولا تعود. عوض ذلك، يسمع الرئيس وحفيده أصوات رصاص تنتشر في المدينة. لقد ثار الناس عليه.
المشهد الذي يجيء بمثابة فخ لما سيقع طوال العرض هو ذاك الذي يصوّر الرئيس وعائلته وقد وصلوا إلى المطار، زوجته وابنتاه وحفيده معه في السيارة المضادة للرصاص. عليه أن يبقى. حفيده يريد البقاء معه فإذا به يوافق على بقائه وتوافق والدة الطفل على ذلك على الرغم من خطورة الوضع وبقرار يقذف بالمنطق من النافذة.
كان يمكن للسيناريو أن يتحاشى هذا المأزق لو أن الفيلم بدأ من النقطة التالية. لا يهم لماذا وكيف يجد الرئيس نفسه مطلوبا هاربا من مطارديه مع حفيده. يمكن إرجاع ذلك إلى تفرّق العائلة المفاجئ وليس إلى قرار لا أساس منطقيا له لأنه لا توجد أم ستترك ابنها في عهدة رئيس مخلوع، ولا الرئيس المخلوع، وهو ما زال حتى ذلك الحين يعتقد أنه سيعود إلى القصر ويجهز على معارضيه، لديه الوقت للاهتمام بطفل.
في الوقت ذاته الرئيس وحفيده هما صلب الحكاية. السيارة التي أقلت العائلة إلى المطار لم تستطع العودة إلى القصر بسبب المظاهرات. سريعا من بعد ما تنقلب قوى الأمن على ما بقي من نظام. سيارة الرئيس مطاردة من مكان إلى آخر. مساعده الأول يُقتل. سائق السيارة يهرب والرئيس يدخل محل حلاقة في قرية على أطراف المدينة ويجبر الحلاق العجوز على حلق شعر رأسه ويضع «باروكة» شعر مستعار ويخلع عنه وعن حفيده الزيين العسكريين متنكرين بثياب الحلاق ويهربان.
واحدة من رغبات الفيلم هي تصوير كيف يجد الرئيس نفسه وهو مضطر للعيش كأفراد الشعب الذين عانوا في زمنه من الفاقة والجوع. معدم وجائع ولديه حفيد ما زال يعتقد أن جدّه يشركه في لعبة غريبة لا يفهم منها شيئا، على الرئيس أن يواصل النزوح من مكان إلى آخر بحثا عن الأمان وسعيا للاقتراب من شاطئ بعيد بأمل لقاء زورق ينقله وحفيده خارج البلاد. إنه هناك فوق ذلك الشاطئ وعند الدقائق الأخيرة يجري إلقاء القبض عليه. الجموع الغاضبة تريد شنقه تارة وقطع رأسه تارة وحرقه تارة ثالثة. المفهوم يصل لكن الفيلم لا يريد التوقّف. تلك النهاية، بصرف النظر عن الغاية من ورائها، كانت أيضا تحتاج لإعادة كتابة هذا من دون أن نعد أن كل ما ورد في سياق الفيلم ركيك التأليف (الصدفة وحدها تجمع بين سجين قضى سبع سنوات في التعذيب وبين الرئيس الذي يحمله على كتفيه كون السجين فقد القدرة على المشي).
في الحقيقة، هناك رغبة في تسديد النقد لا للرئيس وحده بل للجموع الثائرة عليه أيضا ولرجال البوليس والجنود الذين يتحوّلون إلى السرقة والقيام باغتصاب النساء بعدما انتشرت الفوضى. يمكن للمرء أن يعيد المسألة إلى جذورها: لولا الديكتاتورية لما وقعت الثورة الجانحة.
لتجنّب ذكر دولة ما جرى إسقاط اسم المكان لكن الممثلين يتحدّثون اللغة الجورجية ولو أن اسم جورجيا لا يرد ذكره. مواقع التصوير مقبولة لا تحتاج إلا لتغيير اللغة حتى يصبح ممكنا تحديد الدولة التي يرمز لها الفيلم سواء كانت إيران أو دولة عربية أو دولة أخرى تعيش النوع نفسه من النظام المنتقد هنا.
أسلوب عمل مخملباف بسيط التكوين لكنه مشغول بقوّة بصرية لا تحتاج لكثير من التوضيح. في شتّى ظروفه، يصنع المخرج عملا واقعي الأسلوب يحمل خامة فنية أفضل من معظم ما حققه المخرج سابقا. بطل هذا الفيلم، كما يؤديه الممثل الجورجي ميشا غومياشفيلي، يذكّر قليلا بحال إحدى شخصيات الكاتب وليام شكسبير بعدما هجرته بناته الثلاث واستولين على حكمه وماله («الملك لير») ولو أن الممثل نفسه يحمل ملامح ليست بعيدة عن ملامح الرئيس الكوبي فيدل كاسترو. الطفل هو الجورجي أيضا داشي أوفالشفيلي، الذي يؤدي ما يؤديه جيّدا ولو أنه يزعج من حين لآخر عندما يطرح المزيد من الأسئلة ذاتها.العلاقة بينهما كشخصيّتين متلازمتين تثير الاهتمام دوما، لكنها تبقى، نتيجة الهفوة الأولى، تفتقر إلى الأرضية المقنعة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)