«ذا أفنجرز» الجديد يلعب بالزمن ويبحث عن نصرٍ أخير

نجاح تجاري باهر كسر أرقاماً كبيرة

مواجهة: روبرت داوني جونور وكريس إيفانز
مواجهة: روبرت داوني جونور وكريس إيفانز
TT

«ذا أفنجرز» الجديد يلعب بالزمن ويبحث عن نصرٍ أخير

مواجهة: روبرت داوني جونور وكريس إيفانز
مواجهة: روبرت داوني جونور وكريس إيفانز

في الوقت الذي يحق التساؤل فيما إذا كانت السينما قادرة على الاستمرار في ظلّ مؤسسات الاشتراك المنزلي المباشر، يأتي الجزء الجديد من Avengers‪:‬ Endgame ليؤكد ما يتعارض وتلك التساؤلات وليبدّد الكثير من الشكوك.
في أسبوعه الأول من العروض التجارية التي بدأت يوم الأربعاء في 22 أبريل (نيسان)، أنجز هذا الجزء الرابع من مسلسل «ذا أفنجرز» أرقاماً كوكبية قلّما تحقّق مثيلها من قبل، بل كسرت تلك الأرقام عدة ثوابت سابقة بما فيها سرعة استحواذه على بليون دولار حول العالم.
- أفنجرز ضد أفاتار
ففي غضون هذه المدة الزمنية الوجيزة جمع الفيلم ملياراً و209 ملايين دولار. وإحدى الوثبات الواسعة التي خطاها أنّه حطم رقمه القياسي السابق، فالجزء الثالث من هذا المسلسل أنجز في العام الماضي نحو 640 مليون دولار في المدة ذاتها.
الأرقام القياسية الأخرى التي حققها هي استيلاؤه على 350 مليون دولار في غضون هذه الفترة من السوق الأميركية الشّمالية وحدها (كندا، والمكسيك والولايات المتحدة)، هذه الدّول عرضت الفيلم فيما مجموعه 4662 صالة.
هذا يعني أنّ ما حصده الفيلم من باقي أنحاء العالم بلغ نحو 859 مليون دولار من بينها 330 مليون دولار من السوق الصينية وحدها. الأسواق الأخرى التي تربّع فيها هذا الفيلم على أعلى الإيرادات هي بريطانيا وأستراليا وكوريا والبرازيل والأرجنتين وفرنسا.
في السوق الأميركية الدّاخلية حصد الفيلم 156 مليونا و700 ألف دولار يوم الجمعة الماضي و109 ملايين دولار يوم السبت.
في تعداد الأفلام التي افتتحت عروضها بأرقام ضخمة نجد «أفنجرز: إندغيم» يأتي في المرتبة الأولى يليه «أفنجرز: حرب أبدية» ثم «ستار وورز: القوة تستيقظ» وبعدهما «ستار وورز: آخر جيداي» وخامساً «جوراسيك وورلد».
إذا ما استمر الفيلم في ضرب المنافسات وجذب الجمهور في الأسبوع الثاني، فإن هناك احتمالاً مقبولاً بأن يستولي على عرش الفيلم الذي حقق أعلى إيراد في التاريخ وهو «أفاتار» (2009) الذي ما يزال يحتفظ بحصيلة تتجاوز الملياري دولار حول العالم.
الظاهرة ليست في حدود أنه فيلم آخر من شركتي مارفل وديزني ينجز أرقاماً خيالية ويضع ديزني أمام عام آخر لها كأنجح شركة سينمائية حول العالم إنتاجاً وتوزيعاً، بل الأهم أنّه يبرهن أنّ السينما المباشرة إلى المنازل تستطيع أن تضع الأفلام التي تريد مشاهدتها على الموبايل في جيبك، لكنّها لن تمدك بسحر السينما على شاشات بحجم ملعب كرة.
المنافسة التي تفرضها أمازون ونتفلكس وهولو وسواها من شركات العروض المنزلية لقاء اشتراك شهري، تضرّ بالأفلام ذات الميزانيات الصغيرة والمتوسطة، لكنّ هوليوود تجابه تلك الشركات بأفلام لا تستطيع أن تنتجها وإن فعلت فإنّ صغر شاشات المنازل (مهما كبرت)، واختلاف قدر ولو بسيط من «الرزوليوشن» الرقمي لتلك الشاشات يخفق في جعل إنتاج فيلم ضخم لعرض منزلي ضرورة تجارية رابحة.
ومن السّمات المهمة التي تنجزها أفلام مثل سلسلة «ذا أفنجرز» وقبلها «ستار وورز» ومعها فيلم «أفاتار» وأفلام ضخمة كثيرة أخرى، هي أنّ المشاهد الفرد لا يذهب عادة لوحده لمشاهدة مثل هذه الأفلام في صالات السينما. وبينما يشاهد المرء فيلما لنتفلكس في منزله (غالباً بمفرده أو ربما مع بعض أفراد العائلة)، فإنّ الذهاب إلى قاعات السينما يترك ذكريات مديدة في البال.
- جديد وقديم
على ذلك، فإنّ مخاوف بعض السينمائيين والنقاد في محلها حتى وإن انتعشت صالات السينما بأفلام ضخمة الإنتاج على نحو متواصل في كل فصول السنة. وستيفن سبيلبرغ، في خطابه المرسل إلى أكاديمية العلوم والفنون السينمائية قبل أكثر من شهر، كان على حق حين ذكر أنّ الخوف هو أن تصبح صالات السينما حكراً على الأفلام الكبيرة وحدها بينما تجد الأفلام الأصغر حجماً نفسها غير قادرة على مجاراة الوضع فتتوجه لشركات العروض المنزلية قبل فوات الأوان.
هذه الخشية تؤكدها أرقام العام الماضي، فالأفلام العشرة الأولى الأكثر إيراداً في عام 2018 حصدت 35 في المائة من كل إيرادات الأفلام التي وُزّعت في صالات السينما خلال السنة الماضية. والحال لن يتغير السنة الحالية. فحتى الآن، وحسب إحصائية مؤسسة «كووان وشركاه» فإنّ نسبة الإيرادات التي سجلتها الأفلام الكبيرة منذ بدء العام الحالي وحتى ما قبل «أفنجرز: إندغيم» تصل إلى 27 في المائة من مجمل الإيرادات.
«أفنجرز» الجديد مبني على ما سبقه، ليس بالنسبة للنّجاحات الكبيرة وحدها، بل كذلك بالنّسبة للحكاية التي يتولاها الفيلم. فمع نهاية الجزء السابق من «أفنجرز» (عنوانه الكامل Avengers‪:‬ Infinity War) خرج تانوس (جوش برولِن) وقد ربح المواجهة مع أبطال فريق «أفنجرز». قدرات آيرون مان (روبرت داوني) وكابتن أميركا (كريس إيفنز) وهلك (مارك روفالو) وهوكآي (جيريمي رَنر) وثور (كريس همسوورث) وبلاك ويدو (سكارلت جوهانسن) وآلة الحرب (دون شيدل) ودكتور سترانج (بندكت كمبرباتش) وكابتن مارفل (بري لارسن) وبلاك بانثير (شادويك بوزمن) وسبايدر مان (توم هولاند) لم تستطع إيقاف الطاغي تانوس عن تحقيق أهدافه الشريرة، فلقد نجح في الحصول على الجواهر الستة التي تخوّل له السيطرة على مقادير الحكم الكوني. وبما أنّه مخلوق على حب السيطرة والدّمار فإنّ نجاحه ذاك يعني نهاية العالم.
لقد تغلب تانوس على كل أولئك الأبطال المتميزين بقوى غير طبيعية وقضى على نصف أهل الأرض وتركنا، كمشاهدين، لاهثين وراء ترقب سبيل ما، لاستعادة ميزان القوى لدى أولئك الأبطال.
هذا الجزء هو عن هذا السبيل. في الأساس كادت ديزني أن تطلقه تحت عنوان «أفنجرز: حرب أبدية - 2» لكنّها اعتمدت على «أفنجرز: إندغيم» لكي تعزز انفصال الفيلم قدر المستطاع عن سابقه وتجسيد حضوره كفيلم أخير في السلسلة.
- خداع كبير
لكن لا بد للسيناريو الذي شارك مخرجا الفيلم أنطوني وجو روسو في توقيعه، أن يبدأ حيث انتهى الجزء السابق. الدّمار شامل والنّفوس ملتاعة والشّخصيات الرئيسية تبحث فيما بينها كيف يمكن لها أن تمسك مجدداً بزمام الأمور وتواجه القوة الطاغية التي باتت مقاديرها جميعاً بيدي تانوس.
لا يؤدي الاجتماع الذي حضره من بقي حياً من الفريق، إلى نتيجة إيجابية. على العكس تواجه كل من كابتن أميركا وآيرون مان في جدال شديد (ليس للمرّة الأولى في فيلم مشترك)، بعدما قرّر الثاني أنّه لا فائدة من العمل المشترك وربما لا فائدة من المواجهة أساساً.
كانت السلسلة المعروفة نشأت علاقة صداقة قوية بين آيرون مان وسبايدر مان والثاني سقط في المواجهة كما سقط فيها بلاك بانر وستار لورد (كريس برات). الآن هو متأثر لفقدانه أترابه ولا يود أن يرى المزيد منهم يخسرون أرواحهم في مواجهة أخرى مع تانوس.
على هذا المحور، يبني الشقيقان روسو فيلمهما الجديد. إنه محور عاطفي يمشي بموازاة محور المشاهد القتالية المرتقبة والمؤثرات الضخمة المستخدمة (بلغت ميزانية الفيلم 365 مليون دولار) ولحين يبدو كما لو أنّ هذا المحور قادر على امتصاص كل تلك المشاعر الكامنة في أنفس أبطاله وبالتأكيد لديه الوقت لذلك فمدة الفيلم تبلغ ثلاث ساعات تتيح للمخرجين التوجه بالعمل صوب كل المرافئ التي في البال وتوظيف ما يشعر به الجمهور من ترقب لمعرفة كيف سينتقم «المنتقمون» من عدوّهم.
آيرون مان ليس الوحيد الذي يشعر بفداحة الخسارة. في الواقع يبدأ الفيلم بهوك آي (جيريمي رَنر) وهو تحت وطأة الحزن البالغ فقد خسر زوجته وولديه. بعد تلك المشاهد التأسيسية التي لا بد منها لإظهار وضع بعض شخصيات الفيلم الأولى في مطلع الفيلم، وبعد السباحة في جو ذلك اللقاء المنذر بانقسام تلك الشخصيات يصير لزاماً على هذه الشخصيات أن تستعيد المبادرة وتنتقل من مشاعر اليأس والحزن ومن الجدال الذي لا طائل منه إلى الفعل.
- العودة إلى المستقبل
تمر خمس سنوات من الزمن الحالي قبل أن يقترح آنت - مان (يلعب دوره بول رَد). هذا يمنح الشخصيات الخيرة بعض الأمل ولو أن رأي آيرون مان لن يتغير سريعاً. لقد نبذ حياة الحروب وقرر البقاء مع زوجته ببر (غوينيث بولترو) وابنتهما الصغيرة.
بعودته إلى المجموعة بات ممكناً العودة إلى الماضي بعربة زمنية ابتكرها ذات مرّة الروائي هـ. ج. وَلز (وقدمتها السينما سنة 1960 في فيلم من إخراج جورج بال وبطولة رود تايلور). هي هنا، وفي كل الأفلام التي تستند إلى حيلة أنّه من الممكن الرجوع إلى الأمس لإصلاح عطل في الحياة، تختلف عن ابتكار وَلز كتقنيات، لكنّها الفكرة ذاتها في الأساس. والشقيقان يستخدمانها ضمن براعة المؤثرات الخاصة المتوفرة اليوم بكل اندفاع ممكن. لا شيء يجب أن يعلو عن منح الفيلم تلك القوّة التكنولوجية وحلول الديجيتال الخاصة التي ستستر الثقوب التي إذا ما التحمت مع بعضها البعض تعرض الفيلم إلى السقوط.
مهارة السيناريو والتنفيذ وصولاً إلى الكيفية الكلية لمعالجة هذا الوضع هي في أن العودة إلى الأمس في هذا الفيلم لا تكتفي بإعادة رصف الأحداث كما كان يجب أن تقع. هذه الحيلة تتجاوز مجرد المواجهة مع تانوس إلى مواجهة كل واحد من المجموعة مع ذاته السابقة. هذا الإثراء غير المتوقع لا يسود طويلاً، لكنّه يسود جيداً خصوصاً أن شرط الخروج من المواجهات الاعتماد على كيفية دخول ما حفظته الذاكرة وتغيير بعض ما فيها من عوامل ضرورية لبناء موقف شخصي صلب.
هنا يبدو الفيلم كما لو كان دعوة عامة للناس في أن تبحث عن مشاكلها مع الذات ومشاعر الذنب التي تحتويها والجانب المظلم من الذكريات وتعيد ابتكار ذواتها بحيث تستطيع أن تتغلب على الشرور المنتشرة والمتمثلة هنا بين شخصية تانوس الطاغية وبين الشخصيات الكوميكية التي ستستعيد قواها الخارقة لتدخل الصراع من جديد.
اللعب بالأزمنة يخفّف من عبء المتوقع، ويضع الاحتمالات المختلفة أمام خط سير واحد على أحدها أن يتقدم ويمنح الفيلم النهاية المناسبة.
هذا لم يكن في المقدور إتمامه من دون عودة كل الشخصيات معاً. وبذلك سيعود الأموات منها إلى الحياة وقد منحهم الفيلم حياة أخرى. ونصف الساعة الأخيرة ما هي إلّا مزيج ناجح من المشاعر الإنسانية المجبولة بالقدر الطاغي من المؤثرات بحيث لا يمكن التفريق بين ما هو إنساني المنبع وما هو تقني الوسيلة.
القيمة الإجمالية لهذا المسلسل لا تنفصل عن المنحى العريض الذي عرفته السينما منذ أن بدأت شركة الكوميكس مارفل تعاونها مع وولت ديزني لإنجاب كل شخصياتها البطولية في أفلام متلاحقة.
حتى الآن هناك 22 فيلما من شخصيات السوبر هيرو ومعظمها يظهر في سلسلة «ذا أفنجرز». بدءاً من عام 2008 بدأ هطول هذا المطر بفيلم «آيرون مان» واستمر منتقلاً من جزء لآخر ومن شخصية لشخصية. تبعه جزء ثان من ثمّ جاء دور «ثور» و«كابتن أميركا» و«أفنجرز» وبدأ الجمع بين الشخصيات في أفلام مشتركة. هو أمر صعب أن يعاود الناقد مشاهدة هذا الكم من الأفلام على نحو متواصل لملاحظة كل تلك العلامات الفارقة التي حملتها معها منفرداً أو على نحو جمعي. كيف تعاملت كل شخصية مع الزمن وكيف تعامل كل فيلم مع القراءات المستترة تحت سطور مشاهده؟ كيف استفادت كل سلسلة من عملية الجمع بين هذه الشّخصيات وبأي ذكاء اصطناعي وطبيعي تم إدماجنا في منوال من الأفلام التي حققت بلايين الدولارات من مشاهدين اعتادوا التحلق حول كل فيلم وكل شخصية.
وحين يكتب التاريخ عن هذه الفترة التي اكتظّت فيها أفلام المسلسلات الحديثة من جيمس بوند وهاري بوتر ومسلسلات السوبر هيرو المختلفة فإنّه سيلاحظ أنّها جميعاً تلاعبت بالخيال بدرجات متفاوتة. أدنى درجات اللعب هو الذي اقترب من الواقع مترجماً إلى احتمالات، وأبعدها تلك الفانتازيات التي تدور كما في مسلسلي «لورد أوف ذا رينغز» و«ذا هوبيت»، في أقصى الزمن وأقصى المكان من دون أن تخسر إيحاءاتها للواقع بصرف النّظر عمّا هو هذا الواقع.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».