هجمات سريلانكا ودور «داعش» في آسيا

احتمالان وراء تورط التنظيم

جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
TT

هجمات سريلانكا ودور «داعش» في آسيا

جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)

يواصل المحققون في سريلانكا أعمالهم على احتمالين فيما يتعلق بضلوع تنظيم داعش الإرهابي في التفجيرات الأخيرة التي هزت البلاد وقتلت أكثر من 250 شخصاً: الاحتمال الأول أن «داعش» وفر فقط الدعم المعنوي للمهاجمين الانتحاريين وكانت عناصر التنظيم على اتصال مباشر معهم. والاحتمال الثاني أن التنظيم الإرهابي ضالع تماماً في تنفيذ المجزرة الفائقة التعقيد كما وفر العون اللوجيستي والدعم الفني لفريق المهاجمين.
حتى الآن عثر المحققون على عدد قليل جداً من الأدلة التي تفيد بتورط تنظيم داعش المباشر في عملية التفجير، وذلك باستثناء شريط الفيديو الذي تعهد فيه المهاجمون بالتنفيذ والذي صدر وانتشر عبر شبكة من غرف الدردشة التي يشرف عليها عناصر التنظيم. ومن جانب آخر، يعتقد المحققون الأميركيون الذين انضموا إلى جهود التحقيقات الجارية، أن إصدار شريط الفيديو عبر منفذ «داعش» الإعلامي يعني أن المهاجمين السريلانكيين لديهم إمكانية الوصول والتواصل مع عناصر التنظيم الرئيسية. ويذكر أنه في حالات سابقة من الهجمات الإرهابية التي ظهرت فيها فيديوهات التعهد بالتنفيذ عبر منفذ «داعش» الإعلامي، أو غرف الدردشة الموالية للتنظيم، وجد المحققون في أغلب الأحيان أن المهاجمين وعناصر «داعش» كانوا على اتصال مباشر ببعضهم البعض وكانوا ضالعين تماما في توفير التوجيهات عن بُعد.

يعتقد الخبراء الإقليميون، على الرغم من مشاركة سريلانكيين في مجزرة التفجيرات الأخيرة التي استهدفت أكثر من مدينة في سريلانكا، بينها العاصمة كولومبو، أن هذه الدولة لم تكن أبدا على رادار التنظيم الإرهابي من قبل، كما هو الحال لدى بلدان أخرى في جنوب آسيا. وكانت قد ظهرت كل من باكستان والهند وأفغانستان على «رادار» التنظيم الإرهابي بصفة مباشرة في الماضي القريب بعدما لقي هيكل التنظيم هزيمة منكرة في معاقله الرئيسية بالعراق وسوريا.
أما الآن، فيخشى خبراء الأمن أنه إن تأكد للمحققين من وجود علاقة مباشرة بين التنظيم والمهاجمين الانتحاريين، فربما تكون المنطقة بأسرها على حافة ظهور جديد لتنظيم داعش كجماعة إرهابية لها موطئ قدم في جنوب وجنوب شرقي آسيا. فالمعروف أن في غالبية بلدان المنطقة حكومات فاعلة وقوات مسلحة وأمنية قادرة. ومع ذلك، كانت هناك فرصة متاحة لظهور «داعش» كقوة إقليمية في أفغانستان التي شهدت سيطرة التنظيم الفعلية على بعض الأراضي النائية هناك في شرق البلاد.
من جهة ثانية، كان الجيش السريلانكي قد تمكن في الآونة الأخيرة من إلحاق هزيمة مريرة بـ«حركة نمور التاميل» الإرهابية الانفصالية التي كانت تسيطر في السابق على جزء من أراضي الدولة – الجزيرة. وبالتالي، فما من فرصة سانحة أبدا لأن يسمح الجيش السريلانكي باستخدام أراضي البلاد كموطئ أو منطلق من جانب تنظيم داعش وتفرعاته.
في أي حال، في حالة التفجيرات السريلانكية الأخيرة، أصدر «داعش» بياناً يباهي فيه بالهجمات الانتحارية. كذلك وزع شريطا للفيديو يُظهر شخصاً تشتبه سلطات البلاد في أنه قائد عملية التفجير. وفي ذلك الشريط، يبدو أن ذلك الرجل هو المشتبه به الأول، ويدعى محمد زهران هاشم، وهو من الدعاة المتطرّفين غير المعروفين تماما في سريلانكا، وكان ملثماً يرتدي ملابس سوداء ومتعهدا في كلمته بالولاء التام للتنظيم الإرهابي. وللعلم، زهران هاشم من مواطني سريلانكا المسلمين، وهو زعيم جماعة متطرفة غامضة تفيد التقارير الأمنية بضلوعها في بعض السلوكيات المنفلتة في المجتمع السريلانكي، ولكن يُعتقد بأنه غير قادر بمفرده على الاضطلاع بتنفيذ مثل هذه الهجمات الإرهابية المعقدة بين عشية وضحاها.
الخبراء المعنيون بالأمر يعتقدون أن بناء الهياكل السياسية والمؤسساتية الحكومية الفاعلة هو الحل الوحيد للمشاكل التي تعانيها المجتمعات العراقية والسورية، وهو أيضاً المطلوب من أجل هزيمة «داعش» ومنه تمدده في دول جنوب وجنوب شرقي آسيا. ذلك أنه من شأن الاعتماد على القوة العسكرية وحدها في مواجهة هذه الأخطار أن يزيد من تفاقم الأوضاع المضطربة أصلاً في هذه الدول. ومن الواضح أن «داعش» قد تمكن من السيطرة على الأراضي في الدول التي كانت هياكلها ومؤسساتها تعاني من ضعف واضح للجميع.
من جهة متصلة، يشير القادة الأفغان إلى أن «داعش» يشكل تهديدا خطيرا على أمن بلادهم، ولقد حذر الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمد زي من التهديد العميق الذي يمثله التنظيم. ولا يزال التنظيم يرسل برجاله وعناصره إلى جنوب وغرب أفغانستان لاختبار نقاط الضعف هناك، كما قال الرئيس الأفغاني أمام الكونغرس الأميركي أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة في عام 2015. وتشير التقارير الإعلامية الدولية كذلك إلى أن المقاتلين الأجانب الذين يدينون بالولاء للتنظيم الإرهابي يعكفون على تجنيد العناصر الجديدة في شرق أفغانستان، ويحاولون استمالة المتطرفين الجدد بالموارد السخية وقوة الدعاية التي تملكها أذرع التنظيم المختلفة، وذلك وفقا لشهادة أحد مقاتلي حركة طالبان الذي التقى مع الكثير من قادة التنظيم. ويذكر أن الانتصارات السريعة والمثيرة التي حققها التنظيم في العراق وسوريا وليبيا كانت قد اجتذبت بعض الشباب من ذوي المظالم المحددة إزاء الحكومات المحلية أو القوات الأجنبية، والذين يريدن تأمين ولاء الحلفاء المحتملين بكل بساطة.
في شرق وشمال أفغانستان، تفيد التقارير الإخبارية بنشوب معارك ضارية بين مقاتلي حركة طالبان وعناصر «داعش» تلك التي تلقى فيها طالبان الدعم المباشر من القوى الإقليمية المعنية مثل باكستان وإيران. وتشير التقارير الإعلامية الباكستانية إلى أن هناك انقسامات واضحة للغاية في صفوف الجماعات الباكستانية المسلحة، وأن عددا كبيرا من أعضاء هذه الجماعات قد انضموا بالفعل إلى هذا تنظيم الإرهابي بصفة سرية، وهم في انتظار اللحظة المناسبة للإعلان عن قرارهم.
أيضاً، ظهر «داعش» في الآونة الأخيرة كقوة دعائية مؤثرة ونجح في جذب العديد من المقاتلين عبر الأراضي الباكستانية والأفغانية للانضمام إلى صفوفه. وهناك حالة واضحة من التنافس بين حركتي طالبان الأفغانية والباكستانية وبين «داعش» في السباق على تجنيد الأتباع من المتطرفين والمسلحين داخل أفغانستان وفي منطقة شمال غربي باكستان المضطربة.
ومن ثم، فالتساؤل المطروح الآن هو ما إذا كان يمكن لـ«داعش» أن يتحول إلى جماعة متشددة ذات هيمنة في باكستان.
هناك من الخبراء من يقول بأن الجذور الفكرية لـ«داعش» يمكنها الحؤول دون تحوله إلى جماعة مهيمنة داخل باكستان التي ترجع الكثير من الجماعات المتطرفة فيها بأصولها الآيديولوجية إلى الحركة الديوبندية. ورغم ذلك، فإن الخبراء من أمثال عارف جمال يعتقدون بأن الجماعات الديوبندية المتطرفة قد تصالحت في الماضي مع جماعات متشددة فكرياً في البلاد وتوجهت لشن الهجمات المريعة على البلاد والعباد في باكستان. والآن يحاول تنظيم داعش شق طريقه كذلك باتجاه بلدان آسيا الوسطى، وإلى الجماعات المتطرفة العاملة في تلك البلدان.

الوضع في آسيا الوسطى
المعروف أنه كان لدى أغلب الجماعات المسلحة من آسيا الوسطى ملاذاتها الآمنة في جنوب أفغانستان حتى عام 2010. ورغم ذلك، شرعت الحكومة الأفغانية اعتبارا من العام نفسه في مطاردة تلك الجماعات وطردها خارج مخابئها في جنوب البلاد بعد الضغوط الكبيرة التي تعرّضت لها كابل من حكومات بلدان آسيا الوسطى لذلك الشأن. ولقد تزامن ذلك مع بدء الحملة التي شنتها قيادة «داعش» في سوريا نحو استمالة المجندين الجدد من جماعات آسيا الوسطى المتطرفة للانضمام إلى صفوف التنظيم.
ويقول الخبراء بأن ذلك الوقت يتزامن مع بدء تحول ولاء تلك الجماعات عن تنظيم القاعدة إلى «داعش». والآن، صار تنظيم «داعش خراسان»، الذي أبصر النور في عام 2014. ليس مجرد معسكر لتدريب وتجهيز المسلحين من آسيا الوسطى، بل هو وسيلة مهمة لتوفير العون اللوجيستي والدعم الفني لتنفيذ الهجمات الإرهابية داخل بلدان آسيا الوسطى.
ومن أبرز الجماعات المتطرفة في آسيا الوسطى هناك «الحركة الإسلامية في أوزبكستان» التي أعلنت عن انضمامها كلياً إلى «داعش خراسان» في الآونة الأخيرة. مع الإشارة إلى أن أحد خبراء الأمن في العاصمة الباكستانية إسلام آباد يؤكد أنه ليست هناك جماعة متطرفة في آسيا الوسطى ليست على اتصال مباشر أو غير مباشر مع «داعش» في شرق أفغانستان.
هذا، وشرع تنظيم «داعش خراسان» في بث جذوره على نحو تدريجي متأن في البلدان المسلمة بالمنطقة، بما في ذلك أفغانستان وبلدان آسيا الوسطى، فضلا عن باكستان. وخلال السنوات الأخيرة، نسبت جُل الهجمات الطائفية الداخلية في جنوب البلاد إلى تنظيم داعش الإرهابي. بيد أن هجمات سريلانكا تشير إلى توجه جديد بأن التنظيم الإرهابي يحاول امتلاك قاعدة للعمليات المتقدمة في بلدان المنطقة التي تضم أقليات من المسلمين مثل الهند وسريلانكا.
ومن أقوى المؤشرات على هذه التوجهات أن العقل المدبر لهجمات سريلانكا الأخيرة كان يتابع الزيارات المتكررة إلى الهند ببين الفينة والفينة، ولفت وجوده المتكرر هناك انتباه أجهزة الأمن والاستخبارات الهندية.
ختاماً، لقد بات الإرهاب من العوامل المسببة لاضطراب العلاقات بين مختلف الدول في جنوب آسيا، لا سيما العلاقات ما بين باكستان والهند. وإذا ما نجح داعش الآن في شن المزيد من أعمال العنف والإرهاب بين ربوع بلدان المنطقة، فربما يثبت بمرور الأيام أنه من أكثر العناصر المثيرة للاضطرابات، وبدرجة غير مسبوقة، في مستقبل المنطقة.


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟