خسائر «داعش» قد تدفعه إلى «إنهاك الدول»

بث فيديوهات قديمة وأخباراً كاذبة لرفع المعنويات

لقطة من الإصدار المرئي الأخير لـ«داعش - سيناء»
لقطة من الإصدار المرئي الأخير لـ«داعش - سيناء»
TT

خسائر «داعش» قد تدفعه إلى «إنهاك الدول»

لقطة من الإصدار المرئي الأخير لـ«داعش - سيناء»
لقطة من الإصدار المرئي الأخير لـ«داعش - سيناء»

هل خسائر تنظيم «داعش» الإرهابي سوف تدفعه للرهان على «إنهاك الدول» من جديد عبر عمليات خاطفة هنا وهناك؟. سؤال يتبادر في ذهن الجميع خاصة مع فقدان التنظيم للأرض في سوريا والعراق وغيرها من الدول، وفرار عناصره، ومقتل أغلب قياداته. الإجابة عن السؤال باتت ملامحها تظهر خلال الفترة الماضية، عقب قيام التنظيم ببث أخبار كاذبة، وفيديوهات لاستهدافات قديمة، لرفع معنويات عناصره الباقية ومناصريه.
مختصون رجحوا أن «هزائم تنظيم (داعش) الأخيرة، سوف تدفعه إلى اللجوء لكتاب (إدارة التوحش) من جديد، لإحياء دستور إنهاك العالم، عبر ضربات خاطفة قد تكون غير مؤثرة على الصدى العالمي؛ لكنها ستؤكد أن التنظيم باقٍ وموجود». المختصون أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن خطاب كتاب «إدارة التوحش» هو أداة قتال رئيسية كان يعتمد عليها «داعش» بشكل كبير منذ ظهوره اللافت عام 2014. تزامن كلام المختصين مع تحذيرات أطلقتها دار الإفتاء المصرية أخيراً من خطورة تداول كتاب «إدارة التوحش» المرجع الرسمي لـ«داعش» بين الشباب.
ويرى مراقبون أن «الكتاب لعب دوراً محورياً في تشكيل وعي الجماعات المتشددة طيلة السنوات الماضية، وفي مقدمتهم (الدواعش)، وكان عبارة عن مجموعة مقالات نشرت على مواقع الإنترنت».

مشاهد الدماء
ووفق المراقبين «فإن كتاب (إدارة التوحش) يعتبره كثيرون دستور التنظيمات المتطرفة التي تمارس الإرهاب، عُثر عليه في عام 2008 ضمن وثائق ورسائل موجهة من وإلى زعيم تنظيم (القاعدة) السابق أسامة بن لادن... وجميع التنظيمات الإرهابية تداولت هذا الكتاب فيما بينهم بكثير من الاحترام والقدسية، ويقع الكتاب في 113 صفحة لمؤلف مجهول يُدعى أبو بكر ناجي».
ناجي قال في كتابه: «نحتاج إلى القتل، ولا بد من اتباع سياسة الشدة، بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب، يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب، في إشارة إلى قتل المخالفين معهم في العقيدة»... «وهو ما سارت عليه تنظيمات العنف بالفعل خلال الفترة الماضية بقتل المختلفين معهم في الرأي والتوجهات» - بحسب المراقبين.
خطاب الجماعات المتطرفة من العناصر الرئيسية التي تحدث عنها الكتاب، فيقول: إنها «تركز على فئتين، فئة الشعوب لدفع أكبر عدد منهم للانضمام للجهاد باسم الدين، وكسب التعاطف السلبي لمن لا يلتحق بصف الجماعات... والفئة الثانية أصحاب الرواتب الدنيا (المُعدمين) لدفعهم للانضمام باسم الجهاد».
وتابع الكتاب - بحسب مؤلفه المزعوم - أن التنظيمات المتطرفة تهدف إقامة خطة تستهدف في كل مراحلها تبريراً عقلياً وشرعياً للعمليات (أي القتال) خاصة لفئة الشعوب... وأن قيادات هذه التنظيمات يرون ضرورة إظهار مشاهد الأشلاء والدماء في وسائل الإعلام، لبث الرعب والخوف في نفوس العالم».
وقال رسمي عجلان، المتخصص في شؤون الحركات المتطرفة، إن «داعش» سيعيد ما أخذه «داعش» من الكتاب، «هو بث الرعب في الطرف الآخر، وإحداث نوع من الحرب النفسية ببث بعض الأخبار الكاذبة، فضلاً عن الفيديوهات القديمة، لتصوير أنه تنظيم لا يُقهر رغم الخسائر»، مضيفاً: أن «لجوء التنظيم إلى كتاب (إدارة التوحش) من جديد، هدفه إحياء دستور إنهاك العالم، عبر ضربات خاطفة، قد تكون غير مؤثرة عالمياً؛ لكنها سوف تعزز لدى عناصره أنه باقٍ وموجود».

ادعاء الثبات
أخيراً بث تنظيم «ولاية سيناء» الفرع المصري لتنظيم داعش إصداراً مرئياً، عرض فيه لقطات مصورة - قال عنها: «إنها حديثة - لاستهداف عربات ومدرعات وكمائن أمنية في شمال سيناء»؛ إلا أن عمرو عبد المنعم، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، أشار إلى أن «الإصدار يريد تأكيد فكرة أن التنظيم متماسك وثابت، وأن خسائر (داعش) في سوريا والعراق ليست فادحة»، لافتاً إلى أن «أعداد عناصر التنظيم التي ظهرت في الإصدار قليلة جداً على غير المعتاد، ووجوههم مكشوفة، وهو ما لم يعتَد عليه التنظيم في إصدارته السابقة، من إخفاء وجوه عناصره التي يخاف عليها، فضلاً عن قيامه بعمل مؤثرات صوتية على كلماتهم في أي إصدار، والاستهدافات التي تحدث عنها الإصدار لعمليات قديمة أعلن التنظيم تبنيها في أوقات سابقة».
كما بث الفرع اليمني لـ«داعش» مطلع أبريل (نيسان) الجاري، إصداراً مرئياً بعنوان «اثاقلتم إلى الأرض»، ضم عدداً من اللقطات القديمة، التي نشرتها المكاتب الإعلامية للتنظيم في سوريا والعراق، لما سمته تطبيق الأحكام الشرعية داخل معاقل التنظيم، معتبراً أن الإقامة في الأراضي التي لا يسيطر عليها التنظيم «حرام» - على حد وصف الإصدار - ووجه «داعش» في إصداره دعوة لأصحاب التخصصات الطبية، والقيادات الإدارية، ومن وصفهم بـ«الدعاة» للالتحاق به. مطالباً إياهم بالمساهمة في إقامة الدولة «المزعومة» باليمن. وهو «ما كشف حاجة التنظيم لهذه الكوادر تحديداً في الفترة الحالية» - بحسب المراقبين.
«إدارة التوحش» ليس الكتاب الوحيد الذي حذرت منه «دار الإفتاء»؛ لكنها أصدرت قائمة ضمت كُتباً أخرى هي، «مسائل في فقه الجهاد» لأبى عبد الله المهاجر، الذي قال فيه إن «قطع الرؤوس بوحشية أمر مقصود؛ بل مُحبب إلى الله»، و«معالم على الطريق» لسيد قطب (منظر تنظيم «الإخوان»)، و«الفريضة الغائبة»، ويعتبر الأساس الفكري الأول لتنظيم الجهاد لمحمد عبد السلام فرج، و«ملة إبراهيم» لأبو محمد المقدسي، و«الجهاد والاجتهاد» لأبو قتادة الفلسطيني، و«دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» لأبو مصعب السوري، و«العمدة في إعداد العدة»، و«الإرهاب من الإسلام» لسيد إمام، أحد أكثر المؤثرين في الحركة الإسلامية، و«الولاء والبراء» لأيمن الظواهري زعيم «القاعدة»، و«الشريعة الإسلامية شريعة كاملة» لعمر عبد الرحمن، و«آيات الرحمن في جهاد الأفغان» لعبد الله عزام، و«إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام» للمسؤول الشرعي السابق في «داعش» عثمان بن عبد الرحمن التميمي.
تحذير «دار الإفتاء» من تداول هذه الكتب، لأنها «تحرض بشكل مباشر على استخدام العنف والإرهاب، وتؤسس لجماعات دينية متطرفة لا تعترف بقانون الدول، ولا هي من الدين في شيء، لأن الإسلام لم يُبح القتل أو استخدام العنف والتطرف».

انهيار التنظيم
«الإصدار المرئي الأخير لـ(ولاية سيناء) كشف عن انهيار آلة التنظيم الإعلامية، فلم تعد تلك الآلة التي اشتهر بها في السنوات الأخيرة. وقال المراقبون إن «تقنيات التصوير غائبة تماماً عن الإصدار، الأمر الذي يرسخ لدى الجميع أن التنظيم فقد قادته وكوادره الكبرى في مختلف التخصصات، ولم يبق سوى عناصر قليلة غير مؤهلة ولا مدربة على تنفيذ ما يطلب منها».
وأكد خالد الزعفراني، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، أن «خطاب (داعش)» الذي استوحاه من «إدارة التوحش» يُعد أداة قتال رئيسية، والتنظيم سوف يضخم من الفيديوهات التي يبثها خلال الفترة المقبلة، لإقناع البسطاء في العالم أن «داعش» ما زال يملك كياناً. ونشر «داعش» نهاية الشهر الماضي مقطعاً مصوراً لعناصره بالباغوز في سوريا، حيث «ظهر استخدام للنساء والأطفال كدروع بشرية ومقاتلين».
في حين أكد سيث جونز، مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، مؤلف دراسة أصدرها المركز أخيراً لتقييم القوة العسكرية لـ«داعش»، أنه «عندما تخسر الجماعات الذكية أرضاً، فإنها تنتقل إلى استراتيجية وتكتيكات «حرب العصابات»، بما في ذلك الاغتيالات المستهدفة، والكمائن والغارات والتفجيرات، وبهذه الطريقة ترهق العدو - من وجهة نظرهم -».
وأضاف جونز في تصريحات له، «حتى فيما يتعلق بالتكتيك الإعلامي للتنظيم (الجهادي)، فقد غير (داعش) من استراتيجيته المعهودة بنشر بياناته عبر تطبيق «تليغرام»، وتحول لشبكة «زيرو نت» الإلكترونية، التي تتيح للتنظيم إبقاء مواده دائماً على الإنترنت دون حذفها».
ويوضح كتاب «إدارة التوحش» في فصله السابع، بحسب المؤلف، أنه «في مرحلة شوكة (النكاية والإنهاك) نحتاج لاستقطاب الشباب، وأفضل وسيلة هي العمليات المبررة شرعاً وعقلاً... وأعلى درجات التبرير، هو تبرير العملية نفسها بنفسها؛ لكن لوجود الإعلام المضاد، يصعب إيجاد العملية التي تبرر نفسها بنفسها، وإن كان من الممكن أن يحدث ذلك، عندما نصل لمرحلة عالية من الإعلام، وعندها يعجز الإعلام المضاد عن متابعتنا وتشويهنا».
وقال باحثون في «دار الإفتاء المصرية» إن «داعش» سعى بشكل حثيث لتشتيت جهود التحالف الدولي بفتح بؤر صراع جديدة في مناطق متباعدة وفي قارات مختلفة، تنفيذاً لاستراتيجية النكاية والإنهاك. وأوضحوا أن «النكاية والإنهاك تعتمد على توسيع ساحة الصراع وفتح بؤر جديدة، وتحويل أنظار التحالفات الدولية الموجهة ضده إلى أماكن مختلفة من العالم، وقد زاد اعتماد التنظيم على تلك الاستراتيجية في آونة سابقة، حيث نفذ التنظيم العديد من العمليات في عدد من البلدان العربية والأفريقية والأوروبية والآسيوية، وبشكل متزامن ومتوالٍ، وسعى لإنشاء كيانات جديدة محلية في تلك البلدان تابعة له».


مقالات ذات صلة

وزير الدفاع الأميركي: نحتاج لإبقاء قواتنا في سوريا لمواجهة تنظيم داعش

الولايات المتحدة​  وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا (أ.ف.ب)

وزير الدفاع الأميركي: نحتاج لإبقاء قواتنا في سوريا لمواجهة تنظيم داعش

قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لوكالة أسوشيتد برس إن الولايات المتحدة بحاجة إلى إبقاء قواتها في سوريا لمنع تنظيم داعش من إعادة تشكيل تهديد كبير.

«الشرق الأوسط» (قاعدة رامشتاين الجوية (ألمانيا))
المشرق العربي وزير الخارجية التركي هاكان فيدان (الخارجية التركية)

تركيا تكشف عن 4 مطالب دولية في سوريا

كشفت تركيا عن إجماع دولي على 4 شروط يجب أن تتحقق في سوريا في مرحلة ما بعد بشار الأسد وهددت بتنفيذ عملية عسكرية ضد القوات الكردية في شمال سوريا وسط دعم من ترمب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قائد الجيش الأردني اللواء يوسف الحنيطي مستقبلاً وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة (التلفزيون الأردني)

بين أنقرة ودمشق… مساع أردنية لإعادة بناء قدرات «سوريا الجديدة»

هناك رأي داخل مركز القرار الأردني ينادي بدور عربي وإقليمي لتخفيف العقوبات على الشعب السوري و«دعم وإسناد المرحلة الجديدة والانتقالية».

محمد خير الرواشدة (عمّان)
المشرق العربي فيدان والصفدي خلال المؤتمر الصحافي في أنقرة (الخارجية التركية)

تنسيق تركي - أردني حول دعم المرحلة الانتقالية في سوريا... وعودة اللاجئين

أبدت تركيا توافقاً مع الأردن على العمل لضمان وحدة وسيادة سوريا ودعم إدارتها الجديدة في استعادة الاستقرار وبناء مستقبل يشارك فيه جميع السوريين من دون تفرقة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي عبد القادر مؤمن

كيف أصبح ممول صومالي غامض الرجل الأقوى في تنظيم «داعش»؟

يرجّح بأن الزعيم الصومالي لتنظيم «داعش» عبد القادر مؤمن صاحب اللحية برتقالية اللون المصبوغة بالحناء بات الرجل الأقوى في التنظيم

«الشرق الأوسط» (باريس)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.