سقوط «الميديا قراطيا» العربية

سقوط «الميديا قراطيا» العربية
TT

سقوط «الميديا قراطيا» العربية

سقوط «الميديا قراطيا» العربية

ظهر مصطلح «ميديا قراطيا» Mediacracy للمرة الأولى عام 1974، عندما أصدر الكاتب الأميركي كيفين فيليبس كتاباً بعنوان: «ميديا كراسي: الأحزاب والسياسات الأميركية في عصر الاتصالات»، ومنذ ذلك اليوم يُستخدم المصطلح في مراكز البحث والدوريات الرصينة للإشارة إلى نمط الحكم الذي يعتمد على الإعلام بصورة أساسية في صيانة وجوده وحماية مصالحه.
ويمكن تعريف الميديا قراطيا ببساطة بأنها «حكم الميديا ووسائلها»، أو هي «الحكم غير المباشر بوسائل الإعلام الجماهيرية، في ظل غياب الديمقراطية، وهي نظام يتوقف فيه الساسة ورجال السلطة عن التفكير في البدائل والسياسات الناجعة، ويكتفون باستخدام وسائل الإعلام لكي تضفي شرعية على حكمهم، وتصور للجمهور عالماً زائفاً من النجاح والثقة والإنجاز».
الصورة المنشورة أعلى هذا المقال تضم، كما ترى، ستة من الحكام العرب السابقين، الذين تجمعهم سمات محددة؛ أهمها أن معظمهم ضباط من ذوي الخلفيات العسكرية والشرطية، وثانيها أن حكمهم جميعاً سقط في فورة «الانتفاضات العربية»، التي اندلعت على التوالي منذ عام 2011. وثالثها أنهم جميعاً حكموا جمهوريات قامت على أفكار ذات صبغة شعبية، اعتمدت دعاوى من نوع الريادة والسيادة والاستقلال الوطني وسلطة الجماهير.
تم التقاط هذه الصورة على هامش فعاليات القمة العربية - الأفريقية الثانية، عام 2010. في مدينة سرت الليبية، وكما ترى أيضاً؛ فإن وجوه القادة الستة تبدو ممتلئة بالاطمئنان والثقة، وكأن عالمهم لن يبدأ في الانهيار بعد شهور قليلة، أو هذا على الأقل ما يعتقده ملتقط الصورة المصور الصحافي خالد الدسوقي، الذي يعمل لمصلحة وكالة الصحافة الفرنسية.
يقول الدسوقي: «أعرف أن صورتي باتت أيقونة تاريخية، وأنه يجري استخدامها على نطاق واسع باعتبارها نبوءة بسقوط هؤلاء القادة وانهيار أنظمتهم، لكن ليس بوسعي سوى أن أصفها بأنها ضربة حظ... لم أتوقع أبدا هذا المآل للصورة أو لأبطالها».
لم يكن لأحد قدرة على توقع هذه المآلات لأصحاب الصورة «الأيقونية»، ولن يكون بوسع أحد أن يتنبأ بمصير أبطال صور أخرى عديدة، ومع ذلك، فثمة رابط أساسي جمع القادة الستة وأعطى عنواناً عريضاً للطريقة التي مارسوا بها الحكم في بلادهم... لقد كانوا جميعاً من أنصار «الميديا قراطيا».
حكم الزعماء الستة بلدانهم من خلال منظومات إعلامية كبيرة ومتشعبة، أنفق عليها الشعب من خلال الضرائب التي يدفعها للحكومة، لتقوم تلك الأخيرة باستخدامها في إنشاء وسائل إعلام ضخمة، وتوظيف كوادر، وتوفير موارد للتشغيل.
عندما نحلل الواقع الإعلامي الذي صنعه العقيد القذافي في ليبيا يجب أن تأخذنا الصدمة؛ فقد استثمر هذا القائد مئات ملايين الدولارات في بناء منظومة إعلامية كارتونية، تتعدد أسماؤها ولا تتبدل عناوينها أبداً.
لم يكن لهذه المنظومة أي شاغل سوى التسبيح بمناقب القائد وذكر محاسنه ومديح أمجاده، بحيث خلقت عالماً مزيفاً، ودعت الجمهور إليه، ولاحقاً... ساقته مخدراً إلى حقائق مرة، ظهرت تباعاً عندما انهار النظام، فإذا المجتمع والسياسة والديمقراطية والاقتصاد والثقافة خواء في خواء.
لم يكن القذافي وحيداً في مقاربة «الميديا قراطيا»، فهكذا فعل أيضاً زين العابدين بن علي، وعلي عبد الله صالح، ومبارك، والبشير، وهم وإن كانوا قد سمحوا، تحت الضغط، بإنشاء وسائل إعلام خاصة، فإنهم حرصوا على أن يمتلك هذه الوسائل رجال أعمال تابعون ومؤيدون لسلطتهم، وعندما ظهرت أنماط الأداء المغايرة لمزاج السلطة، كان العقاب يقع سريعاً ومؤلماً وعميقاً.
أمّنت «الميديا قراطيا» للقادة الستة، ومثلهم الرئيس السوري بشار الأسد وبعض القادة الآخرين، الحكم لسنوات طالت أحياناً إلى ثلاثة أو أربعة عقود، لكنها مع ذلك أخلفت وعدها عندما هبت رياح الانتفاضات، وبدت عاجزة عن الوفاء بدورها.
تغيرت بيئة الاتصال العالمية، وظهرت وسائط جديدة، وهي وإن كانت تقبل التدخلات السلطوية أحياناً، فإن طبيعتها صُممت بحيث لا تقبل الطي أو الاستتباع.
لم يعرف أبطال الصورة ذلك، وغيرهم يفعل الأمر ذاته، والآن سيمكن لهذه الصورة أن تتسع أكثر وأكثر لتضم أبطالاً آخرين، وسيمكن أيضاً أن تقف عند حدود الأبطال الستة.
لا يمكن أن يستقر حكم يستند فقط إلى سلطة «الميديا قراطيا»، لأن السيطرة على مصادر الرسائل الإعلامية باتت أمراً من الماضي، وسيمكن فقط للقادة الذين يريدون البقاء خارج إطار تلك الصورة أن يحكموا بوسائل السياسة... الخيارات والبدائل والمشاركة وإخضاع الأداء للمساءلة والتقييم ومقابلة توقعات الناس. لقد سقطت «الميديا قراطيا» العربية.


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

تساؤلات بشأن اعتماد مقاطع الفيديو الطولية في الأخبار

مقاطع فيديو طولية على صفحات مواقع الأخبار (معهد نيمان لاب)
مقاطع فيديو طولية على صفحات مواقع الأخبار (معهد نيمان لاب)
TT

تساؤلات بشأن اعتماد مقاطع الفيديو الطولية في الأخبار

مقاطع فيديو طولية على صفحات مواقع الأخبار (معهد نيمان لاب)
مقاطع فيديو طولية على صفحات مواقع الأخبار (معهد نيمان لاب)

أثار اعتماد مواقع إخبارية كبرى، أخيراً، على مقاطع الفيديو الطولية تساؤلات بشأن أسباب ذلك، ومدى تأثيره في الترويج للمحتوى الإعلامي وجذب أجيال جديدة من الشباب لمتابعة وسائل الإعلام المؤسسية. وبينما رأى خبراء أن مقاطع الفيديو الطولية أكثر قدرة على جذب الشباب، فإنهم لفتوا إلى أنها «تفتقد لجماليات الفيديوهات العرضية التقليدية».

معهد «نيمان لاب» المتخصص في دراسات الإعلام أشار، في تقرير نشره أخيراً، إلى انتشار مقاطع الفيديو الطولية (الرأسية) في مواقع إخبارية كبرى مثل «الواشنطن بوست» و«النيويورك تايمز». واعتبر أن «مقاطع الفيديو الطولية القصيرة، التي تُعد عنصراً أساسياً في مواقع التواصل الاجتماعي تشق طريقها بشكل كبير».

ولفت معهد «نيمان لاب» إلى أن «مقاطع الفيديو التي تنتشر بكثرة على (إنستغرام) و(تيك توك) و(يوتيوب)، تلقى نجاحاً عند استخدامها في مواقع الأخبار»، مستشهداً باستطلاع نشره «معهد رويترز لدراسات الصحافة»، العام الماضي، أفاد بأن 66 في المائة من عينة الاستطلاع يشاهدون مقاطع فيديو إخبارية قصيرة كل أسبوع، لكن أكثر من ثلثي المشاهدات تتم على منصات التواصل.

رامي الطراونة، مدير إدارة الإعلام الرقمي في «مركز الاتحاد للأخبار» بدولة الإمارات العربية المتحدة، قال في لقاء مع «الشرق الأوسط» إن اتجاه المواقع الإخبارية لاستخدام مقاطع الفيديو الطولية «يعكس تغيراً في طريقة استهلاك الجمهور للمحتوى، ومحاولة للتكيف مع تطور سلوكياته»، وأرجع هذا التطور في سلوكيات الجمهور إلى عوامل عدة، أبرزها «الاعتماد على الهواتف الجوالة في التفاعل الرقمي».

وتابع الطراونة أن «وسائل الإعلام تحاول الاستفادة من النجاح الكبير للفيديوهات القصيرة على منصات التواصل، وقدرة هذا المحتوى على جذب الجمهور»، وأشار إلى أن «استخدام مقاطع الفيديو الطولية غيّر تجربة تلقي الأخبار وجعلها أكثر جاذبية وبساطة وتركيزاً وسهولة في الاستهلاك، نظراً لمحاكاتها التجربة ذاتها التي اعتاد عليها المتابعون في منصات التواصل». ونبه إلى أن المستخدمين يميلون إلى تمضية وقت أطول في مشاهدة الفيديوهات الطولية القصيرة والمتنوعة والتفاعل معها مقارنة بالفيديوهات العرضية التي تتطلب تغيير وضع شاشة الجوال لمتابعتها.

وأضاف الطراونة، من جهة ثانية، أن غالبية الجهات الإعلامية بدأت بتوجيه مواردها نحو هذا النمط من الفيديو، الذي يعزز فرص الانتشار والاستهلاك، وأن «مقاطع الفيديو الطولية تعتبر أداة فعالة لجذب الشباب، الذين يميلون للمحتوى البصري الموجز والمباشر، كما أن الفيديو الطولي يعكس أسلوب حياة الشباب الرقمي الذي يعتمد على الهواتف الجوالة».

هذا، وفي حين أرجع الطراونة التأخر في اعتماد مقاطع الفيديو الطولية - رغم انتشارها على منصات التواصل الاجتماعي منذ سنوات - إلى «القيود التقنية والأساليب التقليدية لإنتاج الفيديو»، قال إن معظم الكاميرات والشاشات والمعدات كانت مصممة لإنتاج الفيديو الأفقي ذي الأبعاد 4:3 أو 16:9، وكان هذا هو الشكل المعياري للإعلام المرئي سابقاً. ثم أوضح أن «إدراك منصات الإعلام التقليدية لأهمية الفيديو الطولي لم يترسخ إلا بعد بزوغ نجم منصات مثل (تيك توك) إبان فترة جائحة كوفيد-19، وبعدها بدأت تتغير أولويات الإنتاج وباشرت بدعم هذا الشكل الجديد من المحتوى تدريجياً».