بغداديون ينتقدون مقترحاً تقدم به مجلسهم المحلي لمنع حالات الانتحار

نحو 850 حالة سُجّلت في العراق عدا إقليم كردستان

TT

بغداديون ينتقدون مقترحاً تقدم به مجلسهم المحلي لمنع حالات الانتحار

أثار مقترح تقدّم به مجلس محافظة بغداد لمنع حالات الانتحار التي تصاعدت مؤخراً في العاصمة وبقية المحافظات، ووصلت عام 2019 إلى 850 حالة، موجة انتقاد بين الأوساط البغدادية ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي. ويشير المقترح المذكور إلى إنشاء حاجز أمني على جسور العاصمة لمنع الانتحار، وذلك بعد تسجيل عدة حالات في نهر دجلة الذي يشطر العاصمة إلى شطرين خلال الأشهر الماضية.
وقال رياض العضاض، رئيس المجلس، في تصريحات أول من أمس، إنّ «المجلس يعتبر إنشاء سياج أمني محكم على الجسور بطول مترين فكرة جيدة لمنع حالات الانتحار»، مشدداً على أنّها «ستكون مجدية، وتحد من ذلك، إذا نُفّذت بتصميم بسيط، وبتكلفة بسيطة».
وبمجرد تسريب وثيقة المقترح إلى وسائل الإعلام، شن ناشطون وصحافيون هجوماً لاذعاً على مجلس بغداد، واتّهموه بشتى التهم.
كاتب العمود الساخر في جريدة «المدى» البغدادية علي حسين كتب عموداً صحافياً قال فيه: «شكراً لمحافظة بغداد وأعضاء مجلسها (الأشاوس) لأنّهم لم يخيّبوا ظنّنا. ففي كل يوم يكشفون عن طبيعتهم، والطريقة التي يديرون بها العاصمة»، وأضاف: «يعتقد العضاض أنّ حل قضية الانتحار ليس في معالجة مشاكل الشّباب، والقضاء على البطالة، إنّما يتخلص بإجراء واحد فقط، هو إنشاء سياج أمني محكم على الجسور بطول مترين».
الكاتب الصحافي وليد فرحان علّق في صفحته الشخصية على «فيسبوك» قائلاً: «لو عاش ابن الجوزي في زمننا هذا لأضاف قصصاً كثيرة من أخبار الحمقى والمغفلين إلى كتابه الشّهير عنهم، لكنَّه سيضع قرار مجلس محافظة بغداد عن صبّات الجسور في فاتحة الكتاب».
أمّا المخرج الإعلامي في «شبكة الإعلام العراقية» علي السومري، فدعا متهكماً مجلس بغداد إلى «قطع جميع أشجار العاصمة، وتنشيف (تجفيف) الشّط، لوجود أناس تنتحر على أغصان الشجر».
وفي تطور لاحق، نفى مجلس محافظة بغداد أمس أنّه تقدّم بمقترح بناء سياج أمني، وأنّ المقترح تقدمت به وزارة الدّاخلية. وفي هذا السياق، يقول نائب محافظ بغداد، علي هيجل، إنّ «أصل مقترح وضع سياج أمني على جسور دجلة جاء من وزارة الدّاخلية لتلافي حالات الانتحار، ولم يتقدّم به مجلس المحافظة بعد».
وعلى الرّغم من تأكيد هيجل أنّ بعض الدّول تُغلّف بعض الجسور بمادة الزّجاج لأسباب مشابهة، فإنّه يرى في حديث لـ«الشرق الأوسط» أنّ «استجابة مجلس بغداد لمقترح الدّاخلية كان مستعجلاً، والطّلب يفتقر للمنطق، ذلك أنّ حالات الانتحار يمكن أن تقع بطرق مختلفة»، ويؤكّد أنّ «رئيس مجلس محافظة بغداد وافق مبدئياً على المقترح، لكنّه طالب الجهات المعنية بمعالجة حالات الانتحار، والوقوف على أسبابها».
وتعليقاً على مقترح مجلس بغداد، يقول عضو مفوضية حقوق الإنسان علي البياتي: «يبدو أنّ المقترح جاء من باب أضعف الإيمان، فطرق الانتحار كثيرة، وترتبط بأسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية ينبغي معالجتها».
ويضيف البياتي في حديث لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «على الحكومة والدّولة أن تأخذ دورها، عبر وضع خطط استراتيجية لمعالجة ظاهرة الانتحار، كما يجب أخذ الأمور بجدّية، وتوفير مؤسسات نفسية رصينة لمعالجة ضحايا العنف والإرهاب، وحالات التهميش التي قد تدفع إلى الانتحار».
وعن محاولات الانتحار، وأعداد الضّحايا في العراق، كشف البياتي «تسجيل 850 محاولة انتحار في بغداد وبقية المحافظات، عدا إقليم كردستان، عام 2019. وقعت 350 حالة منها في بغداد، وحلت كركوك بالمرتبة الثانية. وفي عام 2018، سُجلت نحو 460 حالة، معظمها في بغداد ومحافظة ذي قار»، ويتابع: «في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، وقعت 62 حالة انتحار في 9 محافظات، عدا بغداد وكردستان، و14 حالة منها في محافظة ذي قار، وجميعها بين أوساط الذكور».
ومن جانبها، دعت يسرى رجب، عضو في لجنة حقوق الإنسان النيابية، أمس، إلى اتخاذ إجراءات عاجلة وفاعلة لوقف حالات الانتحار بين الشّباب التي انتشرت مؤخراً، وقالت في بيان: «من الضروري تشكيل لجنة مشتركة مع الجهات المعنية، ومنها وزارتا الصّحة والعمل والشؤون الاجتماعية، بالتنسيق مع مجالس المحافظات، للتّصدي والوقوف لمعالجة ظاهرة الانتحار الخطيرة والمؤلمة التي انتشرت في محافظات كثيرة». كما كشفت أنّها «ستقوم خلال الأيام المقبلة بخطوات مهمة، مع بقية أعضاء لجنة حقوق الإنسان النيابية، لاتخاذ قرارات مهمة داخل اللجنة، ورفعها لرئاسة مجلس النواب والجهات الرّسمية، لمعالجة هذه الظاهرة بشكل فاعل وسريع»، مشيرة إلى «وجود إحباط نفسي واسع بين صفوف الشباب بسبب البطالة وفقدان فرص العمل، مما يؤدي إلى حالات كآبة ومعاناة نفسية بمستقبل مظلم تدفع الشباب للتفكير بالانتحار».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)