حين بدأ تنظيم داعش يخسر أراضيه في العراق وسوريا في ربيع عام 2015، كانت واحدة من المخاوف الكبرى للقائمين على شأن تحليل شؤون المتطرفين حول العالم، أن يقوم تنظيم «القاعدة» وكوادره، بل وحواضنه البشرية في شمال شرقي أفريقيا بنوع خاص بملء الفراغات التي خلفها أولئك، لكن سؤالا طرحه هارون ي. زيلين الباحث والمؤسس لموقع «دراسات الجهاد» خلال الأيام القليلة الماضية، في ورقة بحثية مطولة له، صادرة ضمن أوراق معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تبين أن ذلك ليس كذلك بالضرورة، والدليل ما جرى في تونس مؤخرا، إذ إن الفرع التونسي لتنظيم «القاعدة» هناك المسمى «كتيبة عقبة بن نافع»، لم يتمكن من التغلب على شبكة «داعش» في تونس ليصبح حامل راية الحركة في تونس، ويبقى السؤال الرئيسي والجوهري عن أسباب ذلك الفشل.
لمعرفة أبعاد تنظيم «القاعدة» في تلك المنطقة الجغرافية ربما يلزمنا العودة إلى منتصف عام 1995، عندما حاول تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب»، ومجموعاته السابقة، إنشاء شبكة أكبر في تونس، وبعد أن تعهدت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» بمبايعة أسامة بن لادن زعيم القاعدة في سبتمبر (أيلول) 2006، وغيرت اسمها لاحقا إلى «القاعدة في بلاد المغرب» في يناير (كانون الثاني) 2007، أعادت هيكلة تخصيصها للموارد، التي كانت موزعة في السابق على تسع مناطق فقط في الجزائر. وقررت الجماعة تقسيم عملياتها إلى أربع مناطق: الوسط حيث الجزائر، وتونس حيث الشرق، إضافة إلى الجنوب أي الساحل، وأخيرا الغرب في إشارة إلى موريتانيا، الأمر الذي يوضح أهمية الدور الذي ستلعبه تونس وأعضاء التنظيم هناك.
منذ ذلك الوقت اعتبرت «كتيبة عقبة بن نافع» الغطاء الرئيسي لتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب»، وقد ظهرت بشكل رسمي على هذا النحو كنتيجة لعملية «سيرفال» الفرنسية في مالي.
وبالقفز إلى السنوات الخمس الأخيرة حيث بدأ تنظيم «داعش» يتبلور، وبخاصة في الفترة التي سبقت إعلان خلافة «داعش»، وبعدها في أواخر يونيو (حزيران) 2014، شجع المشهد التونسيين المتطرفين على مبايعة زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي ودعمه بالإضافة إلى المشروع الأوسع نطاقا لإحياء الشكل التاريخي للحكومة الإسلامية.
فعلى سبيل المثال في أواخر مارس 2014، أعلنت المنطقة الوسطى لـ«القاعدة في بلاد المغرب» عن تأييدها لـ«داعش»، وشكلت هذه الجماعة الأساس لما سيصبح في النهاية «ولاية» لتنظيم داعش تحت اسم «ولاية الجزائر»، وذلك عقب خطاب أبو بكر البغدادي في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، الذي أعلن فيه توسيع ولاية «داعش» لتخرج عن نطاقها في العراق وسوريا. إلا أن الورقة البحثية التي بأيدينا تضعنا أمام خلاف عميق في الرؤى بين «داعش» و«القاعدة» في تونس، لا سيما من جهة التوجه الاستراتيجي لكل منهما، فـ«القاعدة» في تونس تسعى إلى كسب ود الشارع التونسي، فعلى سبيل المثال ونتيجة لتدهور أوضاع «كتيبة عقبة بن نافع» أصدرت المنظمة بيانا في أواخر أغسطس (آب) 2015، مع شعار رسمي جديد للمساعدة في إعادة تصنيفها وتعزيز جهودها، في نواح كثيرة، وقد كان ذلك أيضا من أجل إعادة تقديم الجماعة للشعب التونسي، وفي البيان بعثت «الكتيبة» برسالة لجهات كثيرة في تونس منها الحكومة والشعب.
وعلى الرغم من خطب الود هذا لجماهير الشعب التونسي، لا سيما أن «داعش» لا يهمه إبداء مودات تجاه أي شعوب المنطقة، وعدم إشارته أبدا إلى معركة كسب القلوب والعقول، فإن ما جعل «القاعدة» تخفق في كسب أفئدة المتطرفين الجدد، أو استقطاب المزيد من الإرهابيين إلى صفوفها، هو أنها لم تتمكن من الوفاء بشكل كامل بادعائها بعدم «سفك دماء المسلمين الأبرياء».
وتؤكد الورقة البحثية التي بين أيدينا أن «كتيبة عقبة بن نافع» غير متصلة بنبض الحركة المتطرفة التونسية، وليست مبتكرة في أسلوب عملها، وتبعد السكان المحليين الذين تحاول كسب ودهم، وقد يجادل البعض بأن هذا هو الحال بالنسبة لـ«داعش» في تونس أيضا، لكن تنظيم «داعش» على عكس تنظيم «القاعدة»، لم يهتم يوما بالحواضن الشعبية من منطلقات عاطفية ولم يقم لمسألة كسب الرأي العام اهتماما.
وعلاوة على ذلك فإنه عند النظر إلى السجناء من المتطرفين التونسيين، يتبين أن معظمهم من أنصار «داعش»، الأمر الذي يسلط الضوء على نقص الدعم الأوسع في البلاد، حتى لو بدا أن كلتا المجموعتين تتمتع بسرعة عملية متشابهة نسبيا في السنوات القليلة الماضية، ويرجع ذلك إلى عدم ترابط شبكة «الكتيبة»، وإلى التجارب المتغيرة للمتطرفين التونسيين منذ الانتفاضات العربية المزعومة، وعدم قدرة «الكتيبة على «مواءمة الدعاية مع الأفعال، وبالتالي خسارة قلوب السكان المحليين وعقولهم».
تاريخيا كانت معظم الجماعات المتطرفة داخل العالم العربي إما متورطة في حوادث إرهابية، أو في مستوى معين من أنشطة التمرد العسكرية. ونتيجة لذلك كانت الأدوات التي يمكن أن يستخدمها المتطرفون في محاولة لتعزيز رسالتهم أو لتنفيذ رؤيتهم للمجتمع مع مرور الوقت محدودة جدا، ومن نواح كثيرة كانت هذه المجموعات تحمل في طياتها بذور الفشل لأنها تعمل سرا وخلسة.
هنا يمكننا فهم لماذا لم تقترب تلك «الجماعات المتطرفة» من السكان المحليين، مما جعل تجاوزها مرحلة أعمال العنف البحتة صعبا، غير أنه ومع أزمنة ما أطلق عليه الربيع العربي، تغيرت هذه الديناميكية التي سمحت للجماعات الجهادية بتوسيع مجموعة إجراءاتها، بسبب فتح الميادين العامة أو الملاذات الآمنة التي تسيطر عليها المنظمات الجهادية، وقد أدى ذلك إلى نمو أنشطة الدعوة بشقيها التوعوي والتبشيري، بالإضافة إلى توفير الخدمات الاجتماعية.
هذه التحولات التي يتوجب على أي باحث في مجال الحركات الأصولية التنبه لها، أدت إلى جذب مجموعة أكبر من الأفراد إلى عدد من المنظمات المتطرفة التي ربما ما كانوا سينضمون إليها لو كانت حركة عنيفة وسرية بحتة.
هنا يضحي التساؤل المثير: ما النقاط التي سببت إخفاقا لـ«كتيبة عقبة بن نافع»، وجعلت هناك مسافة بينه وبين السكان والمواطنين، ولهذا بات عاجزا عن تلقي الإرث الذي خلفه تنظيم «داعش»؟
الشاهد أيضا أن الكتيبة والقائمين عليها فشلوا في تقديم رسائل تتجاوز الحراك الاجتماعي، الذي جاءت به الثورة التونسية، التي كانت المحرك الرئيسي في المنطقة العربية، فلم تعد مسألة مساءلة الحكومات، والتطلع إلى العدالة والحرية والعيش والكرامة الاجتماعية شعارات يسعى الأصوليون إليها، بل باتت توجهات حاسمة وحازمة من قبل «الجماهير الغفيرة»، من العلمانيين أو اليسار، وكذا جماعات الإسلام السياسي. كما أن مجالات العمل الرسمي وفوق الأرض بالنسبة للتيار الأصولي أو الإخواني أضحت متاحة ومباحة للجميع، ما يعني أن ورقة التميز السرية وتحت الأرضية، التي كانت تستغلها الجماعات المتطرفة لم يعد لها موقع أو موضع، وبالتالي فقدت زخمها عند جماهير التيارات الإسلامية العريضة في الداخل التونسي.
إضافة إلى ما تقدم فقد أظهرت الأعوام القليلة الماضية وخصوصا من 2015 وحتى اليوم عدم قدرة «كتيبة عقبة بن ناقع» على التأثير على السكان المحليين واستعطافهم، كما أن كل النيات الطيبة التي حاولت الكتيبة إظهارها للمواطنين قد ذهبت هدرا بل هباء منثورا، فقد تضررت سمعة التنظيم من جراء انحراف الكتيبة نحو سرقة المؤن من منازل السكان المحليين، واقتحام الشركات المحلية للحصول على الإمدادات، وقتلها كثيرا من السكان المحليين بقنابل كان من المفترض أن تكون موجهة ضد قوات الأمن التونسية.
أما الجزئية الكارثية التي تجعل «القاعدة» من دون مستقبل في تونس، وتفشل حتى في الاستيلاء على إرث «داعش» بالقول أو بالفعل، هو أنها ترفع رسالة ضد الحكومة التونسية الحالية، وضد أولئك الذين يؤمنون بالعملية الديمقراطية، إلا أنها لا تقدم في المقابل ما هو خارج إطار ترويع المجتمع المحلي وتنفيره، وهو مجتمع لم يقترب منه عناصر هذين التنظيمين (داعش والقاعدة سويا) أساسا لكونهم مختبئين في الجبال والمغاور وشقوق الأرض.
ولن يكون مستقبل «القاعدة» في تونس بحال أفضل من حال تنظيم داعش، فقد انقطعت صلة شبكتها بالأهالي، وخسرت قلوبهم من جراء إراقة دماء الأبرياء بأفعالها، وفشل الاستعطاف السابق واللاحق في جعل الشعوب تنسى أفعالهم الكارثية، كما أن العناوين البراقة التي تقوم «كتيبة عقبة بن نافع» ببثها بين الحين والآخر، سواء كان ذلك يتعلق بعدم المساواة الاقتصادية أو الإمبريالية التي يمكن أن تجذب المنتمين إلى اليسار العلماني، أو الرسائل التي تتضمن نقاطا اجتماعية معتدلة متعلقة بقضايا المساواة في الميراث بين الجنسين التي قد تغري الإسلامويين، كل ذلك يزول عندما يعزل العنصر نفسه عن الأفراد الذين يحاول كسب دعمهم. الخلاصة لن ترث «القاعدة» تنظيم «داعش» في الحال أو المستقبل.
«القاعدة» تفشل في وراثة «داعش» بتونس
فشلت في تقديم خطاب يجتذب المجتمعات المحلية
«القاعدة» تفشل في وراثة «داعش» بتونس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة