«القاعدة» تفشل في وراثة «داعش» بتونس

فشلت في تقديم خطاب يجتذب المجتمعات المحلية

حراس مسلحون يقومون بدورية على شاطئ مرحباً في سوسة التونسية حيث قتل 38 شخصاً (غيتي)
حراس مسلحون يقومون بدورية على شاطئ مرحباً في سوسة التونسية حيث قتل 38 شخصاً (غيتي)
TT

«القاعدة» تفشل في وراثة «داعش» بتونس

حراس مسلحون يقومون بدورية على شاطئ مرحباً في سوسة التونسية حيث قتل 38 شخصاً (غيتي)
حراس مسلحون يقومون بدورية على شاطئ مرحباً في سوسة التونسية حيث قتل 38 شخصاً (غيتي)

حين بدأ تنظيم داعش يخسر أراضيه في العراق وسوريا في ربيع عام 2015، كانت واحدة من المخاوف الكبرى للقائمين على شأن تحليل شؤون المتطرفين حول العالم، أن يقوم تنظيم «القاعدة» وكوادره، بل وحواضنه البشرية في شمال شرقي أفريقيا بنوع خاص بملء الفراغات التي خلفها أولئك، لكن سؤالا طرحه هارون ي. زيلين الباحث والمؤسس لموقع «دراسات الجهاد» خلال الأيام القليلة الماضية، في ورقة بحثية مطولة له، صادرة ضمن أوراق معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تبين أن ذلك ليس كذلك بالضرورة، والدليل ما جرى في تونس مؤخرا، إذ إن الفرع التونسي لتنظيم «القاعدة» هناك المسمى «كتيبة عقبة بن نافع»، لم يتمكن من التغلب على شبكة «داعش» في تونس ليصبح حامل راية الحركة في تونس، ويبقى السؤال الرئيسي والجوهري عن أسباب ذلك الفشل.
لمعرفة أبعاد تنظيم «القاعدة» في تلك المنطقة الجغرافية ربما يلزمنا العودة إلى منتصف عام 1995، عندما حاول تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب»، ومجموعاته السابقة، إنشاء شبكة أكبر في تونس، وبعد أن تعهدت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» بمبايعة أسامة بن لادن زعيم القاعدة في سبتمبر (أيلول) 2006، وغيرت اسمها لاحقا إلى «القاعدة في بلاد المغرب» في يناير (كانون الثاني) 2007، أعادت هيكلة تخصيصها للموارد، التي كانت موزعة في السابق على تسع مناطق فقط في الجزائر. وقررت الجماعة تقسيم عملياتها إلى أربع مناطق: الوسط حيث الجزائر، وتونس حيث الشرق، إضافة إلى الجنوب أي الساحل، وأخيرا الغرب في إشارة إلى موريتانيا، الأمر الذي يوضح أهمية الدور الذي ستلعبه تونس وأعضاء التنظيم هناك.
منذ ذلك الوقت اعتبرت «كتيبة عقبة بن نافع» الغطاء الرئيسي لتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب»، وقد ظهرت بشكل رسمي على هذا النحو كنتيجة لعملية «سيرفال» الفرنسية في مالي.
وبالقفز إلى السنوات الخمس الأخيرة حيث بدأ تنظيم «داعش» يتبلور، وبخاصة في الفترة التي سبقت إعلان خلافة «داعش»، وبعدها في أواخر يونيو (حزيران) 2014، شجع المشهد التونسيين المتطرفين على مبايعة زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي ودعمه بالإضافة إلى المشروع الأوسع نطاقا لإحياء الشكل التاريخي للحكومة الإسلامية.
فعلى سبيل المثال في أواخر مارس 2014، أعلنت المنطقة الوسطى لـ«القاعدة في بلاد المغرب» عن تأييدها لـ«داعش»، وشكلت هذه الجماعة الأساس لما سيصبح في النهاية «ولاية» لتنظيم داعش تحت اسم «ولاية الجزائر»، وذلك عقب خطاب أبو بكر البغدادي في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، الذي أعلن فيه توسيع ولاية «داعش» لتخرج عن نطاقها في العراق وسوريا. إلا أن الورقة البحثية التي بأيدينا تضعنا أمام خلاف عميق في الرؤى بين «داعش» و«القاعدة» في تونس، لا سيما من جهة التوجه الاستراتيجي لكل منهما، فـ«القاعدة» في تونس تسعى إلى كسب ود الشارع التونسي، فعلى سبيل المثال ونتيجة لتدهور أوضاع «كتيبة عقبة بن نافع» أصدرت المنظمة بيانا في أواخر أغسطس (آب) 2015، مع شعار رسمي جديد للمساعدة في إعادة تصنيفها وتعزيز جهودها، في نواح كثيرة، وقد كان ذلك أيضا من أجل إعادة تقديم الجماعة للشعب التونسي، وفي البيان بعثت «الكتيبة» برسالة لجهات كثيرة في تونس منها الحكومة والشعب.
وعلى الرغم من خطب الود هذا لجماهير الشعب التونسي، لا سيما أن «داعش» لا يهمه إبداء مودات تجاه أي شعوب المنطقة، وعدم إشارته أبدا إلى معركة كسب القلوب والعقول، فإن ما جعل «القاعدة» تخفق في كسب أفئدة المتطرفين الجدد، أو استقطاب المزيد من الإرهابيين إلى صفوفها، هو أنها لم تتمكن من الوفاء بشكل كامل بادعائها بعدم «سفك دماء المسلمين الأبرياء».
وتؤكد الورقة البحثية التي بين أيدينا أن «كتيبة عقبة بن نافع» غير متصلة بنبض الحركة المتطرفة التونسية، وليست مبتكرة في أسلوب عملها، وتبعد السكان المحليين الذين تحاول كسب ودهم، وقد يجادل البعض بأن هذا هو الحال بالنسبة لـ«داعش» في تونس أيضا، لكن تنظيم «داعش» على عكس تنظيم «القاعدة»، لم يهتم يوما بالحواضن الشعبية من منطلقات عاطفية ولم يقم لمسألة كسب الرأي العام اهتماما.
وعلاوة على ذلك فإنه عند النظر إلى السجناء من المتطرفين التونسيين، يتبين أن معظمهم من أنصار «داعش»، الأمر الذي يسلط الضوء على نقص الدعم الأوسع في البلاد، حتى لو بدا أن كلتا المجموعتين تتمتع بسرعة عملية متشابهة نسبيا في السنوات القليلة الماضية، ويرجع ذلك إلى عدم ترابط شبكة «الكتيبة»، وإلى التجارب المتغيرة للمتطرفين التونسيين منذ الانتفاضات العربية المزعومة، وعدم قدرة «الكتيبة على «مواءمة الدعاية مع الأفعال، وبالتالي خسارة قلوب السكان المحليين وعقولهم».
تاريخيا كانت معظم الجماعات المتطرفة داخل العالم العربي إما متورطة في حوادث إرهابية، أو في مستوى معين من أنشطة التمرد العسكرية. ونتيجة لذلك كانت الأدوات التي يمكن أن يستخدمها المتطرفون في محاولة لتعزيز رسالتهم أو لتنفيذ رؤيتهم للمجتمع مع مرور الوقت محدودة جدا، ومن نواح كثيرة كانت هذه المجموعات تحمل في طياتها بذور الفشل لأنها تعمل سرا وخلسة.
هنا يمكننا فهم لماذا لم تقترب تلك «الجماعات المتطرفة» من السكان المحليين، مما جعل تجاوزها مرحلة أعمال العنف البحتة صعبا، غير أنه ومع أزمنة ما أطلق عليه الربيع العربي، تغيرت هذه الديناميكية التي سمحت للجماعات الجهادية بتوسيع مجموعة إجراءاتها، بسبب فتح الميادين العامة أو الملاذات الآمنة التي تسيطر عليها المنظمات الجهادية، وقد أدى ذلك إلى نمو أنشطة الدعوة بشقيها التوعوي والتبشيري، بالإضافة إلى توفير الخدمات الاجتماعية.
هذه التحولات التي يتوجب على أي باحث في مجال الحركات الأصولية التنبه لها، أدت إلى جذب مجموعة أكبر من الأفراد إلى عدد من المنظمات المتطرفة التي ربما ما كانوا سينضمون إليها لو كانت حركة عنيفة وسرية بحتة.
هنا يضحي التساؤل المثير: ما النقاط التي سببت إخفاقا لـ«كتيبة عقبة بن نافع»، وجعلت هناك مسافة بينه وبين السكان والمواطنين، ولهذا بات عاجزا عن تلقي الإرث الذي خلفه تنظيم «داعش»؟
الشاهد أيضا أن الكتيبة والقائمين عليها فشلوا في تقديم رسائل تتجاوز الحراك الاجتماعي، الذي جاءت به الثورة التونسية، التي كانت المحرك الرئيسي في المنطقة العربية، فلم تعد مسألة مساءلة الحكومات، والتطلع إلى العدالة والحرية والعيش والكرامة الاجتماعية شعارات يسعى الأصوليون إليها، بل باتت توجهات حاسمة وحازمة من قبل «الجماهير الغفيرة»، من العلمانيين أو اليسار، وكذا جماعات الإسلام السياسي. كما أن مجالات العمل الرسمي وفوق الأرض بالنسبة للتيار الأصولي أو الإخواني أضحت متاحة ومباحة للجميع، ما يعني أن ورقة التميز السرية وتحت الأرضية، التي كانت تستغلها الجماعات المتطرفة لم يعد لها موقع أو موضع، وبالتالي فقدت زخمها عند جماهير التيارات الإسلامية العريضة في الداخل التونسي.
إضافة إلى ما تقدم فقد أظهرت الأعوام القليلة الماضية وخصوصا من 2015 وحتى اليوم عدم قدرة «كتيبة عقبة بن ناقع» على التأثير على السكان المحليين واستعطافهم، كما أن كل النيات الطيبة التي حاولت الكتيبة إظهارها للمواطنين قد ذهبت هدرا بل هباء منثورا، فقد تضررت سمعة التنظيم من جراء انحراف الكتيبة نحو سرقة المؤن من منازل السكان المحليين، واقتحام الشركات المحلية للحصول على الإمدادات، وقتلها كثيرا من السكان المحليين بقنابل كان من المفترض أن تكون موجهة ضد قوات الأمن التونسية.
أما الجزئية الكارثية التي تجعل «القاعدة» من دون مستقبل في تونس، وتفشل حتى في الاستيلاء على إرث «داعش» بالقول أو بالفعل، هو أنها ترفع رسالة ضد الحكومة التونسية الحالية، وضد أولئك الذين يؤمنون بالعملية الديمقراطية، إلا أنها لا تقدم في المقابل ما هو خارج إطار ترويع المجتمع المحلي وتنفيره، وهو مجتمع لم يقترب منه عناصر هذين التنظيمين (داعش والقاعدة سويا) أساسا لكونهم مختبئين في الجبال والمغاور وشقوق الأرض.
ولن يكون مستقبل «القاعدة» في تونس بحال أفضل من حال تنظيم داعش، فقد انقطعت صلة شبكتها بالأهالي، وخسرت قلوبهم من جراء إراقة دماء الأبرياء بأفعالها، وفشل الاستعطاف السابق واللاحق في جعل الشعوب تنسى أفعالهم الكارثية، كما أن العناوين البراقة التي تقوم «كتيبة عقبة بن نافع» ببثها بين الحين والآخر، سواء كان ذلك يتعلق بعدم المساواة الاقتصادية أو الإمبريالية التي يمكن أن تجذب المنتمين إلى اليسار العلماني، أو الرسائل التي تتضمن نقاطا اجتماعية معتدلة متعلقة بقضايا المساواة في الميراث بين الجنسين التي قد تغري الإسلامويين، كل ذلك يزول عندما يعزل العنصر نفسه عن الأفراد الذين يحاول كسب دعمهم. الخلاصة لن ترث «القاعدة» تنظيم «داعش» في الحال أو المستقبل.


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.