أعادت الأنشطة البشرية تشكيل كوكبنا بعمق، ويعتبر العلماء أن الأرض دخلت في حقبة جيولوجية جديدة، أسموها «الأنثروبوسين» أو عصر التأثير البشري. ولا تكتفي التغيرات البيئية بإعادة رسم خريطة العالم الطبيعية بفعل التصحر وإزالة الغابات وتدهور الأراضي والتغير المناخي وشحّ المياه، بل إنها تدفع الناس في كثير من المناطق إلى تغيير أماكن سكناهم.
وتشير تحليلات الحروب الأهلية على مدى السنوات السبعين الماضية إلى أن 40 في المائة منها، على الأقل، كانت ترتبط بالسيطرة والنزاع حول الموارد الطبيعية، مثل الأرض والمياه ومصادر الطاقة والمعادن. كما أن النمو السكاني يزيد من أعداد الناس الذين يسكنون المناطق الهامشية والمتردية بيئياً. وتضاف إلى هذا كله الكوارث الطبيعية، التي تدفع أكثر من 26 مليون شخص للنزوح عن ديارهم كل عام، أي ما يقارب نزوح شخص واحد كل ثانية.
- العالم في سنة 2050
من المتوقع أن يقترب تعداد سكان الأرض في سنة 2050 من 10 مليارات إنسان، بالتوازي مع نمو الاقتصاد العالمي 4 أضعاف. وسيؤدي ذلك إلى تغير في أنماط الاستهلاك، يترك أثراً واسعاً على الموارد الطبيعية والنظم البيئية.
وفيما يعيش نصف البشر في المدن حالياً، فإن نسبة ساكني المدن سترتفع إلى 60 في المائة سنة 2030. وإلى 66.4 في المائة سنة 2050. وهذا يعني ارتفاع تحديات الصحة العامة في المناطق الحضرية، تحت ضغط تلوث الهواء واكتظاظ النقل وإدارة النفايات والمياه.
ستتوسع رقعة الأراضي الزراعية لإطعام الأعداد المتزايدة من الناس على مستوى العالم، لكن معدلات الاتساع ستكون متضائلة بمرور السنين. ومن المتوقع أن تبلغ مساحة الأراضي الزراعية ذروتها بحلول 2030، ثم تنخفض مع تباطؤ نمو السكان العالمي وتحسّن المردود الزراعي، ولا سيما في دول «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، ومجموعة الـ«بريكس».
مع استمرار التوجهات الاجتماعية الاقتصادية الحالية، سوف تتجاوز الآثار السلبية للضغوط على النظم البيئية، بفعل النمو السكاني وارتفاع مستويات المعيشة، التقدم المحرز في الحدّ من التلوث وتحسين كفاءة استهلاك الموارد. ولذلك سيستمر تراجع رأس المال البيئي الطبيعي وتآكله إلى سنة 2050 وما بعدها، مع خطر حدوث تغييرات لا عودة عنها، وستكون العواقب كبيرة، سواء من الناحية البشرية والاقتصادية.
وإذا التزمت الدول بخطة «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ»، فستبلغ درجة الحرارة العالمية ذروتها في منتصف القرن، بزيادة تقل قليلاً عن درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ثم تتراجع درجة الحرارة لتصل إلى الهدف الطموح، المتمثل بزيادة مقدارها 1.5 درجة مئوية فقط مع نهاية القرن الحالي.
أما في حال لم تلتزم الدول بتعهداتها المناخية، فستتجاوز الزيادة في الحرارة العالمية درجتين مئويتين في منتصف القرن، وستبلغ الزيادة ما بين 3 درجات إلى 6 درجات بحلول 2100، وهذه أرقام مرعبة، تعني أن أماكن واسعة على سطح الأرض لن تكون صالحة لسكنى البشر.
وتتسبب زيادة الحرارة العالمية بأكثر من درجتين مئويتين في تغيير أنماط الهطول المطري، وزيادة في ذوبان الأنهار الجليدية والتربة الصقيعية، ورفع مستوى مياه سطح البحر، وتفاقم شدة تواتر الأحداث المناخية القاسية، مثل موجات الحر والفيضانات والأعاصير، كما تساهم في فقدان التنوع الحيوي.
وفي حين يمثل التغير المناخي تهديداً متزايداً، فإن الدوافع الأساسية لفقدان التنوع الحيوي العالمي تتمثل في الإفراط باستغلال الأنواع الحية وتغير أنماط استخدامات الأراضي. وبينما لا تزال ربع الأرض اليابسة حالياً تخلو تماماً من آثار النشاط البشري، فإن هذه المساحة ستتضاءل إلى 10 في المائة فقط بحلول 2050. وعلى الرغم من تباطؤ خسارة الغابات على مستوى العالم مؤخراً نتيجة إعادة التحريج، فإن الغابات الاستوائية لا تزال تشهد مزيداً من الإزالة، علماً بأنها تضم أعلى مستويات التنوع الحيوي على وجه الأرض.
لقد خسر العالم بالفعل نحو ثُلث التنوع الحيوي في المياه العذبة، ومن المتوقع حصول مزيد من الخسائر، خاصة في أفريقيا وأميركا اللاتينية وأجزاء من آسيا. ويمثل الاتجاه الحالي لتراجع التنوع الحيوي تهديداً لرفاهية الإنسان، وسيلحق ضرراً اقتصادياً واسعاً بالمجتمعات الريفية الفقيرة، التي تعتمد سبل عيشها على منتجات الطبيعة والنظم البيئية والمنافع التي تنتج عنها.
من ناحية أخرى، ستتعرض موارد المياه العذبة إلى مزيد من الإجهاد في كثير من المناطق، وسيرتفع عدد السكان في أحواض الأنهار التي تعاني من نقص مائي حاد، بزيادة مقدارها 2.3 مليار نسمة. وهذا يعني أن أكثر من 40 في المائة من سكان العالم في سنة 2050 سيعيشون في مناطق تعاني من الإجهاد المائي، خاصة في شمال وجنوب أفريقيا وجنوب ووسط آسيا.
ومن المتوقع أن يزداد الطلب الإجمالي على المياه بمقدار 55 في المائة، بسبب الطلب المتزايد من قطاع الصناعة وقطاع الطاقة والاستخدام المنزلي. وقد يصبح نضوب المياه الجوفية أكبر تهديد للزراعة في المناطق الريفية ولإمدادات مياه الشرب في المناطق الحضرية. وبحلول 2050، من المرجح ألا يتمكن 1.4 مليار إنسان من الحصول على خدمات الصرف الصحي الأساسية، خاصة في الدول النامية.
- الاتجاه شمالاً
ما لم يشهد العالم ابتكارات تقنية ثورية كتوليد الطاقة من الاندماج النووي النظيف أو إنبات القمح بكميات مياه قليلة، وما لم تحصل كوارث بشرية مأساوية بفعل حرب عالمية ثالثة أو تفشي وباء خطير، وإذا استمرت الحكومات والشعوب في تبني السياسات الاقتصادية والبيئية ذاتها من دون مراجعة حقيقية وعمل مؤثر، فإن مناطق كثيرة من العالم لن تكون أماكن صالحة للعيش سنة 2050.
في كتابه «العالم في سنة 2050... أربع قوى تصوغ مستقبل الحضارة الشمالية»، يدعو أستاذ الجغرافيا في جامعة كاليفورنيا، لورانس سميث، الشباب إلى الاتجاه شمالاً. وتتوافق دعوة سميث مع تقديرات علماء المناخ حول إمكانية ظهور مستوطنات بشرية جديدة في أماكن باردة غير جذابة حالياً، بسبب اعتدال حرارتها في المستقبل.
ويتوقع الدكتور سميث أن يشهد القرن الحادي والعشرون تراجع الولايات الأميركية الغربية والجنوبية والدول الأوروبية المتوسطية، في مقابل صعود نجم الولايات الأميركية الشمالية وكندا والدول الإسكندنافية وروسيا. ويطلق سميث على هذه الدول، التي تحتل ربع الكرة الأرضية إلى الشمال من خط العرض 45 درجة، تسمية «الشمال الجديد»، وهي تضم أيضاً غرينلاند وسيبيريا والدائرة القطبية الشمالية، التي تعد من أغنى مناطق العالم بالمياه العذبة والثروات الطبيعية.
وتشير التقديرات إلى أنه خلال الفترة بين بداية 2011 ونهاية 2014 كانت الطبقة الجليدية في غرينلاند تفقد نحو 269 غيغا طن من الجليد سنوياً، وهي كمية من المياه العذبة تكفي لسد احتياجات ملياري شخص. كما أن غرينلاند غنية بالمعادن الثمينة كالحديد والزنك واليورانيوم والعناصر النادرة، وتضم بعضاً من أغنى المكامن بالرواسب النفطية والغاز الطبيعي في القطب الشمالي.
انحسار الغطاء الجليدي عن مناطق واسعة في جزيرة غرينلاند وسيبيريا سيجعلها أكثر اخضراراً. ومن المتوقع أن يؤدي الاحترار العالمي إلى تحويل مجمل مساحة غرينلاند إلى أراضٍ غنية بالأشجار والشجيرات بنهاية القرن، فيما سيكون 50 إلى 85 في المائة من مساحة وسط سيبيريا صالحة لزراعة أنواع كثيرة من الخضار والفاكهة، ومن المرجح أن تكون المناطق الجنوبية من سيبيريا أرضاً لزراعة المحاصيل المحبة للدفء.
- المنطقة العربية
عربياً، تبدو خيارات البقاء حرجة للغاية. فأغلب البلدان العربية (13 بلداً) هي حالياً ضمن البلدان العشرين ذات الموارد المائية العذبة الأكثر ندرة في العالم. ومن المتوقع أن تكون جميع الدول العربية، باستثناء جزر القمر، دون خط الفقر المائي بحلول سنة 2050، خاصة إذا ما علمنا بوجود تقديرات حول تصاعد النزاعات المستقبلية على المياه في أحواض أنهار النيل والفرات ودجلة والأردن.
وإذ يدرك كثير من الدول العربية هذه الحقيقة القاسية، يفكر بعضها جدياً في السير على خطى الدول الخليجية بإقامة محطات تحلية لمياه البحر، مع ما يعنيه هذا التحول من تأثير على أمن الطاقة والغذاء. ولئن كانت جزر القمر أوفر حظاً من ناحية المياه، فهي ستعاني من مشكلات تغير المناخ، باعتبارها من الدول الجزرية المعرضة لارتفاع منسوب مياه البحر والأحوال الجوية المتطرفة.
وسيكون لتغير المناخ أثره الكبير على جميع الدول العربية. فإلى جانب الجفاف، ستشهد بعض الدول مثل عُمان عواصف موسمية أكثر شدة وتكراراً. كما ستخسر السواحل العربية بعضاً من أهم مناطقها الزراعية بفعل ارتفاع منسوب مياه البحر، ولا سيما دلتا النيل. ومن المتوقع أن تواجه مصر مصاعب اقتصادية اجتماعية كبيرة ناتجة عن تراجع الوارد المائي وفقدان الأراضي المتاحة للزراعة، إلى جانب تراجع أهمية قناة السويس، نتيجة ظهور ممرات ملاحية جديدة في القطب الشمالي بفعل ذوبان الجليد.
وستتأثر مصر، شأنها شأن جميع الدول العربية، بالأحداث المناخية المتطرفة، فتصبح دورات الجفاف أكثر حدة، وتكون الأيام التي ترتفع فيها الحرارة فوق 50 درجة مئوية اعتيادية خلال موسم الصيف. وستشهد الدول العربية في المواسم الماطرة مزيداً من الهطولات الومضية ذات الغزارة المرتفعة، على فترات زمنية قصيرة، ما يسبب سيولاً وفيضانات.
هذه التحولات المتوقعة خلال السنوات القليلة المقبلة تستلزم مراجعة حكيمة للسياسات العربية، خاصة في مسائل التخطيط الحضري والتوسع العمراني والبنى التحتية، إلى جانب البحث عن خيارات جديدة لضمان الأمن الغذائي والأمن المائي. ولا يقتصر الأمر على دور الحكومات، فالجامعات والتجمعات العلمية والمهنية مدعوة لمراجعة مقارباتها، بحيث تتلاءم مع التغيرات المتوقعة، كالبحث عن محاصيل أقل استهلاكاً للمياه، والتحول إلى أنظمة جديدة للبنى التحتية، توفر الحماية للمجتمعات من أحوال المناخ القاسية.