«العام المصري ـ الفرنسي» يبرز دبلوماسية الطعام بين الدولتين

جانب من فعاليات أسبوع فن الطهي الفرنسي في مصر
جانب من فعاليات أسبوع فن الطهي الفرنسي في مصر
TT

«العام المصري ـ الفرنسي» يبرز دبلوماسية الطعام بين الدولتين

جانب من فعاليات أسبوع فن الطهي الفرنسي في مصر
جانب من فعاليات أسبوع فن الطهي الفرنسي في مصر

للطعام الفرنسي خصوصيته ومكانته لدى الفرنسيين، والتي تعدت شهرته حدود أوروبا، كذلك هي خصوصية الطعام المصري الذي اشتهر حول العالم بتنوعه وتمازجه مع مطابخ عالمية عدة. ويبرز العام المصري - الفرنسي (عام 2019) الخصائص المشتركة بين المطبخين المميزين بين البلدين عبر إقامة فعاليات ومناسبات عدة، كان آخرها «أسبوع فن الطهي الفرنسي في مصر»، الذي نظمته السفارة الفرنسية بالقاهرة والمركز الثقافي الفرنسي، احتفالاً بمرور 150 عاماً على هذا الحدث التاريخي، بعنوان «دبلوماسية الطعام»، وشهدت الفعاليات كذلك تنظيم ورش لتعليم فن المخبوزات الفرنسية الشهيرة.
يقول المؤرخ المصري المتخصص في تاريخ قناة السويس، الدكتور عباس أبو غزالة، لـ«الشرق الأوسط»: «شيّد الخديو إسماعيل شاليه الإسماعيلية خصيصاً ليشهد حفلات عشاء افتتاح قناة السويس، ودعا الملوك والسفراء إلى حفل عشاء بالقصر الجديد. وبعد الحفل تم استقبال الضيوف الكبار في قاعة واسعة مزيّنة بقماش الجوخ وأوراق الشجر والنباتات التي جلبها من أنحاء أوروبا».
ويضيف: «ضمت قائمة الطعام أسماكاً من البحر المتوسط، مجموعة مشويات ضمت فخذ ظبي بطريقة سانت هيبار، وديكاً رومياً مضافاً إليه لفت الرعد، وطائر فاسيان مزيناً بالجرجير، وطيوراً كبيرة محشوة بالسمان، ولحماً بقرياً مشوياً على الطريقة الإنجليزية، وهلام (جيلي) من مدينة بيريجييه، وخبزاً من لحوم الصيد على شكل حصن حربي، وهلامية طائر الفاسيان Faisan، إلى جانب فطائر محشوة على طريقة دورساي، ولسان بقر مطهو على البخار بالطريقة الإنجليزية، وهلامية من اللحم أو السمك من مدينة نيراك، وحرباء الثور (فيليه) على طريقة الإمبراطور».
ويشير إلى أن قائمة المقبلات تضمنت: «قريدس (جمبري) من السويس مزيناً بأوراق الجرجير، وهيلون (أسباراجوس) من إيطاليا، أما التحلية؛ فضمت مقدونية الكرز، و(بودنج دبلومات) بالأناناس (وهي حلوى محشوة بالبسكويت والكريمة) وقطع البسكويت المزخرفة من إقليم سافوي، ونابوليتان (جيلاتي) مزخرفة بطبقات متعددة النكهات، كما ضمت المائدة الملكية الكثير من المثلجات والعصائر وقوالب الحلوى».
وألهمت الأطباق الشهيرة السابقة، الدبلوماسيين المصريين والفرنسيين لتقليدها خلال أسبوع الطهي ضمن فعاليات عام مصر وفرنسا الذي بدأ في يناير (كانون الثاني) الماضي. وفق ما تؤكده أورا بوغينسكي، الملحق الدبلوماسي بالسفارة الفرنسية بالقاهرة، لـ«الشرق الأوسط». تضيف بوغينسكي: «للطعام أهمية دبلوماسية كبرى، كما أن الثقافة الفرنسية تحتفي بالطعام وخصوصيته الثقافية، وتضمن أسبوع فن الطهي ورش طهي بالتعاون مع منظمة (سلو فوود) في مصر، حيث تم تمويل جميع فعاليات الاحتفالية بمواد وأغذية من مزارعين محليين مصريين، كما حرصت آغيت ومغالي وهما مصممتا طعام فرنسيتان على المشاركة في ورش الطهي وإعداد الأصناف الفرنسية وتزيينها».
وتشير بوغينسكي «كان هناك أكثر من 3 آلاف شخص في حفل العشاء الذي أقيم ليلة افتتاح قناة السويس، ولا تزال قائمة طعام هذا الحفل هي الأشهر في التاريخ. دبلوماسية الطعام أمر مهم في التقريب بين الشعوب، وهي أداة للتأثير المتبادل والتفاهم بين الثقافات».
وحول التغيرات التي طرأت على المطبخ الفرنسي تشير بوغينسكي: «بالطبع تغير مفهوم إعداد الطعام، وطرأت تغيرات على المطبخ الفرنسي، وبخاصة أن الثقافة العربية أيضاً أثرت في المطبخ الفرنسي، وبخاصة مع تداخل المطبخين الجزائري والمغربي مع توافد المهاجرين إلى فرنسا».
مريم، صاحبة مطعم بحي المعادي، أشرفت على ورشة الطهي المشتركة بين أفراد من الجالية الفرنسية بمصر وعدد من المصريين من الأطفال والكبار الذي اشتركوا سوياً في إعداد حلوى الإكلير على الطريقة الفرنسية مع لمسات مصرية، تقول لـ«الشرق الأوسط»: هذا هو العام الثاني على التوالي، الذي نستضيف فيه ورش الطهي بالتعاون مع المركز الفرنسي، وأهمية الحدث أننا نركز على جذب الأطفال والأمهات والكبار لتعلم فنون الطهي عبر إشراكهم في إعداد أطباق قد يعتقدون أنها صعبة، لكن بعد مشاركتهم يجدون أن إعدادها أمر ممتع ومفيد».
وتضيف مريم: «اخترنا هذا العام حلوى الإكلير الفرنسية الشهيرة، التي تتطلب مكونات بسيطة متاحة في كل منزل، وقمنا بعمل الحشو بكريمة الكاسترد، وفي محاولة للمزج بين المذاقين الفرنسي والمصري، أضفنا شراب الكركديه، وزيّنا الحلوى وطبق التقديم بمسحوق الكركديه الذي تشتهر به مصر، وبخاصة مدينة أسوان». وتوضح مريم: «الطهي أمر ممتع ويتيح للطاهي المجال للابتكار والإضافة والخروج بأطباق جديدة، وهو أمر نحاول ترسيخه في مطعمنا وعبر مهرجان فن الطهي».
يشار إلى أنه في يوم 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1869، أقام الخديو إسماعيل حفل استقبال بمدينة الإسماعيلية بمناسبة افتتاح قناة السويس. كان من ضمن المدعوين الكثير من الملوك والملكات والأمراء والسفراء الذين أبحروا من أرجاء أوروبا كافة في مواكب بحرية، أشهرهم موكب أوجيني وأسطولها المهيب.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».