{نوتردام باريس}... ألهمت بروست وبيكاسو وماتيس وكانت مزاراً دائماً لفرويد

رواية هوغو منحتها مكانة عالمية وجددت اهتمام معاصريه بها

لوحة «نوتردام باريس» لبابلو بيكاسو
لوحة «نوتردام باريس» لبابلو بيكاسو
TT

{نوتردام باريس}... ألهمت بروست وبيكاسو وماتيس وكانت مزاراً دائماً لفرويد

لوحة «نوتردام باريس» لبابلو بيكاسو
لوحة «نوتردام باريس» لبابلو بيكاسو

قلِق فيكتور هوغو - روائي فرنسا الأشهر – كثيراً، لما بدأت الكتب المطبوعة في الانتشار الواسع بأيدي الناس خلال القرن التاسع عشر. لقد كان يخشى أن يستسهل المبدعون العباقرة إيداع روائعهم في وسيلة التواصل الاجتماعي والفكري الجديدة، التي تسهل مراقبتها ومصادرتها وتغييبها، أي الكتب، وينفضوا عن فنون المعمار التي بقيت عبر تاريخ الحضارة وحتى قبل اكتشاف الطباعة، سجلاً عابراً للأزمنة واللغات والثقافات، لكل مغامرات البشرية التي بلغت أقصى حدود الخيال، وبقيت عصية على المراقبة والمصادرة والتغييب. كانت الأبجديات قد كتبت على جدران من حجر، واصطفت حروفها صفوفاً كما أبيات القصائد، بينما شمخت الأعمدة الصاعدة إلى عنان السماء كما هيروغرافيات حبلى بالمعاني الممكنة.
هوغو وقتها كان يرى رأي العين كيف تنفضّ الجماهير رويداً رويداً عن زيارة كاتدرائية سيدة باريس الشهيرة، التي بقيت لقرون كتاباً مفتوحاً للفقراء، وحديقة تحلق فيها أرواح العاشقين وميناء لكل مسافر أعياه السفر.
وبدلاً من ارتداء أفضل ملابسهم، واصطحاب أغلى أحبائهم لزيارة معلم باريس الأجمل، أصبح كثيرون يقضون أوقاتهم منعزلين وحيدين، وهم يحملقون فيما يشبه شاشة من ورق يحملونها في أيديهم، دونت فيها نتف إبداع سهل رخيص قصير العمر، خاضع لرقابة السلطات ورغبات الناشرين وحسابات التجار.
وقتها، كانت نوتردام الجليلة المتربعة في قلب عاصمة الأنوار، قد تجاوزت بداياتها ككاتدرائية مكرسة للتعبد، وأداء طقوس دينية لطريقة من البشر، وأصبحت بمثابة نقطة تلاقٍ سحرية بين السماء والأرض، وبين النور والظلمة، وبين الحياة والعدم، تجمع أجيال البشر المتتابعة من كل الثقافات والأديان، في فضاء مشغول كقماشة ملونة مبهرة، من أحلام وضحكات وآهات وصلوات وتنهدات، وآلام دفينة كثيرة.
لكن سخرية القدر انتصرت على قلق هوغو، فكان هو ذاته الأديب الذي خلد نوتردام – العصية على التدنيس وحكم الزمان كما سماها – في كتاب مطبوع، فجعل منها ملحمة عبقرية نقلت عبق أنفاس جدران كاتدرائية التنهدات البشرية، وتلألؤ زجاج أيقوناتها تغنجاً بالأنوار وإغواء للشمس، إلى كل من يقرأ، ولو لم تطأ قدماه باريس يوماً.
كانت تلك روايته الشهيرة عن قصة الحب المروعة المعروفة في العالم الأنغلوفوني بعنوان أول ترجمة لها، أي «أحدب نوتردام».
وكانت ترجمة إنجليزية رديئة، وكأن صاحبها لم يحظ يوماً بالمثول أمام سيدة باريس العظيمة. فالنص الفرنسي (صدر عام 1831) عنونه هوغو ببساطة «نوتردام باريس» وجعل فيه من الكاتدرائية بطلاً صامتاً ومسرحاً يشهد بعطف على تعاقب الأزمنة، وتقلبات حياة بشر باريس العالقين في لحظة من التاريخ، لم يكن لمؤرخ أن يلتقطها بكل تفاصيلها مهما بذل. كانت تلك الرواية وكأنها ملحمة أدب كلاسيكي تأهلت فور صدورها لتكون رفيقة باريسية مجللة بالشغف، لجلجامش العراق وإلياذة اليونان القديم.
وفي الرواية نص يسجل المفارقة التي كان يقترفها هوغو بصوغ النوتردام رواية مطبوعة، إذ يشير كلود فروللو البطل الشرير فيها إلى زواره، بأن ينقلوا أبصارهم من كتاب مفتوح على مكتبه إلى مشهد الكاتدرائية الحاكمة، قائلاً: «هذه (أي الكتب) ستقتل تلك (أي المعمار)»، ثم يتمتم: «قدر الأشياء العظيمة أن تقتلها أشياء وضيعة».
وللحقيقة، منحت رواية هوغو تحديداً الكاتدرائية مكانة عالمية، وجددت اهتمام معاصريه بها، وكانت حافزاً لأوسع حملة في تاريخ فرنسا، لجمع الأموال من أجل تنفيذ أعمال صيانة وترميم واسعة لمعلم ثقافي أثري.
كان هوغو يكتب مقاطع روايته بعد أوقات مكثفة يقضيها في الكاتدرائية متأملاً، وهو لذلك تأخر عن الموعد المتفق عليه لتسليم النص للنشر عامين كاملين، كادا يزيدان لولا إلحاح الناشر الدائم.
«نوتردام باريس» لم تكن نصاً بقدر ما كانت حالة وجودية عاشها حتى الثمالة هذا الفرنسي الجميل، وقد تركت آثارها ظاهرة في كتابات جيل كامل من الروائيين العظام، أمثال هنري دي بلزاك، وغوستاف فولبير، وحتى تشارلز ديكنز.
وتنقل ماري بيرغمان، كاتبة سيرة الروائي الفرنسي مارسيل بروست، صاحب المجلدات العبقرية الستة، المسماة «البحث عن الزمن الضائع»، حالة وجودية شبيهة عاشها الأديب الشهير في حضرة النوتردام، وتذكر أنه كان عندما يصيبه الأرق ليلاً ويعانده شيطان الكلمات، يتناول معطف فراء سميكاً ويضعه على كتفيه، ويمضي إلى الكاتدرائية ليقضي وحيداً ساعتين أو أكثر واقفاً، يتأمل تفاصيل النقوش القوطية، متفكراً في تعاقب الأيام، ومستجدياً الإلهام والسمو عن اليومي والعادي والمألوف.
لم يكن سحر الكاتدرائية مقتصراً على الباريسيين وحدهم، وإن عدَّها هؤلاء تجسيداً لتاريخهم وثقافتهم وسر مدينتهم. إذ يُلحظ أن مثقفين أوروبيين كثيرين أغوتهم النوتردام لما أخذتهم الأيام إلى باريس. ومنهم النمساوي سيغموند فرويد، رائد علم النفس، الذي كتب أنه «مسه شعور غامر لم يعهده من قبل» عندما زار الكاتدرائية عام 1885، وكان عندما اتخذ من باريس مقراً لسكنه يقضي كل أوقات فراغه حصراً داخل حرمها، متجولاً دائم الدهشة، مسجلاً في أوراقه: «لم أرَ بحياتي شيئاً هائلاً وصامتاً وحزيناً مثيراً لأعمق العواطف، كتلك الكاتدرائية».
ومثل فرويد، كان لبيكاسو، الفنان الإسباني الأشهر في القرن العشرين، علاقة توحد خاصة بنوتردام، ورسمها في إحدى لوحاته الثمينة، تماماً كما فعل قبله كثير من تشكيليي فرنسا الكبار، كهنري ماتيس، الذي وكأنه هوغو، وقد حمل فرشاة رسم بدل القلم، ليحذو حذوه بتخليد الكاتدرائية في لوحات صارت جزءاً من تاريخ الفن البشري. ولحقهم نهايات القرن العشرين السينمائيون والمصورون الفوتوغرافيون المحترفون، ومنتجو الأفلام الوثائقية.
نوتردام باريس، التي بنيت على قواعد معبد وثني قديم، ووضع حجر أساسها البابا ألكسندر الثالث عام 1163، استهلكت خلال عشرات السنوات أعمار طائفة واسعة من أكفأ معماريي أوروبا وبنائيها، وكانت ورشة العمل فيها كجامعة هندسية تجتمع إليها عقول نخبة أوروبا، لتتعلم وتتجادل وتبدع، وتترك سجلاً لا يفنى لقدرة العقل البشري على الإبداع، عندما تتلاقى إرادة الأفراد على أشق المهمات.
عندما كانت نوتردام تحترق قبل أيام، كتب أحد الصحافيين عن صديقه الفرنسي، لحظة علم الأخير باحتضان النيران لسيدة باريس المشتعلة، أنه خرج إلى الشــــــوارع الباكية لا يلوي على شيء، يتجـــــــول مشدوهاً حتى منتصف الليل، حين وجد ثلة من سكان المدينة وسائحيها، فرقتهم المنابت وجمعتهم الصلاة بلغات كثيرة وبأصوات عالية، راكعين معاً كي تنجو نوتردامهم.
وعندما سأله الصحافي عن مشاعره قال مستهجناً السؤال: «ماذا تعتقد؟ باريس من دون نوتردام، إنه الجنون بعينه!».



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.