«قصص»... معرض مرويات بصرية ينقل السودان إلى قلب القاهرة

سارة عاصم وعمر كمال الدين يحلقان في فضاءات التجريد والتشخيص

الفنانة سارة عاصم أمام أعمالها مع إحدى مرتادات المعرض
الفنانة سارة عاصم أمام أعمالها مع إحدى مرتادات المعرض
TT

«قصص»... معرض مرويات بصرية ينقل السودان إلى قلب القاهرة

الفنانة سارة عاصم أمام أعمالها مع إحدى مرتادات المعرض
الفنانة سارة عاصم أمام أعمالها مع إحدى مرتادات المعرض

يحتضن غاليري لمسات بوسط القاهرة معرضاً فنياً يحمل عنوان «قصص» يجمع مرويات بصرية للفنانين السودانيين سارة عاصم، وعمر كمال الدين، في تجربة فنية لافتة تعكس ملامح من حركة الفن التشكيلي في السودان وتياراته المختلفة.
يضم المعرض 40 لوحة بأحجام مختلفة تنوعت ما بين لوحات بألوان الأكريلك والأكواريل والزيت، وتعكس الهوية السودانية عبر فضاء اللوحات. لقي المعرض إقبالاً لافتاً من الجالية السودانية الكبيرة بالقاهرة، وحفاوة من الوسط التشكيلي المصري بحضور الفنان عادل بنيامين، ووجيه يسي، وإيهاب لطفي، والدكتور محمد إسحاق، والفنانة نيرمين شمس، والدكتور الطيب الحضيري.
جدير بالذكر أن الفن التشكيلي السوداني غني بمبدعيه الذين حفروا لأنفسهم مكانة عالمية نظراً لثراء تجاربهم التي تعكس روح القارة السمراء، فالفنان عمر كمال الدين يقدم تجربة إبداعية تميل إلى المدرسة التشخيصية لكنها لا تغفل الرموز «الطوطمية» أيضاً، لنجده يتعامل مع فضاء اللوحة كصفحة بيضاء يدون عليها القصص، فتخرج اللوحات لتروي قصة من قصص المجتمع السوداني بتقلباته ومتغيراته، وهي الثيمة التي يدور حولها المعرض، جسد من خلالها مشاهد يومية، مقدماً أعمالا تتراوح بين الحركة والسكون.
يختزن عمر كمال مشاهد متنوعة من الحياة اليومية السودانية، كما أن له خصوصية قصصية في أغلب لوحاته، فبينما تسيطر المرأة على أعماله، فإنها لا تسير على أقدام، بل تتجسد أقدامها كأنها نابعة من باطن الأرض، راسخة فيها كنبتة أو شجرة سامقة قوية لا تنساق أو تنقاد بل هي محركة للأحداث كما شاهدنا في الثورة السودانية.
بإيقاع مدهش يطوع كمال الدين فرشاته ويمضي بها وهو المتخصص في تقنية الألوان المائية، لكنه يميل أكثر لألوان الأكريلك لأنه بما يحققه من سرعة في الاستجابة لتطبيق أفكاره: «يساعد على تحقيق الدفقة الشعورية لي فور حدوثها بينما يحتاج الزيت إلى أن أقوم بعمل طبقات وطبقات حتى تتجسد فكرتي على مسطح اللوحة». ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «أحيانا أعود للوحة وأحاول تعديلها وأحيانا أكتفي بما صنعه تدفق الشعور».
بينما تختزل الفنانة سارة عاصم خبرات فنية وحياتية بألوان الأكواريل عبر لوحات ذات طابع تجريدي تقدم فيها بناء محكما وتقسيما بارعا للمساحات، مجيدة اللعب بالضوء، فنجد اللون الأصفر بتدرجه وتماهيه مع اللون الأبيض وتختزل مكوناتها الثقافية ببراعة عبر دفقات لونية تشعها لوحاتها.
ترسم عاصم عالماً حدوده اللونية لا متناهية محلقة في فضاء التجريد الرحب، سنجد وجودا قويا وراسخا للون الأزرق الغامق، لكنها تغزل من تمازج اللونين الأصفر والأخضر مع الألوان الترابية في عدد من لوحاتها كخلفية للقصص التي ترويها تجريديا وهو ما يعطي المتلقي شحنات إيجابية وسلاماً نفسياً، فيما نجد في إحدى اللوحات أن سارة عاصم تفتح عبر الألوان مسارات عبر طاقات لونية تعبر عن الأمل محفوفة باللون الأحمر القاني لتكتب نهاية بعض مروياتها أن الطرق لا تزال ممهدة أمام الحالمين بمستقبل أفضل.
بضربات فرشاة جريئة استعانت عاصم بالميثيولوجيا النوبية ورموزها، معبرة عن اختلاجات تبعث على الإيجابية والتفاؤل معتمدة على لغتها التشكيلية الخاصة من جذورها السودانية والمصرية معاً، إذ نرى في تكوينات لوحاتها رموز النوبة ذات الأبعاد الحضارية الممتدة عبر آلاف السنين.



«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
TT

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

أعقاب سجائر يصل عددها إلى 4213، مَمالح لا تُحصى، عبوات مشروبات غازية، فناجين قهوة تجمّدَ فيها البنّ والزمن... هذا بعضٌ ممّا يجدُه الزائر في «متحف البراءة» في إسطنبول. المكان الذي أسسه الكاتب التركي أورهان باموك، خارجٌ عمّا هو مألوف في عالم المَتاحف. هنا، لا لوحات ولا منحوتات ولا أزياء تراثيّة، بل تأريخٌ للحياة اليوميّة العاديّة في إسطنبول ما بين سبعينات وتسعينات القرن الماضي.

لا بدّ للآتي إلى هذا المكان أن يكون قد قرأ رواية «متحف البراءة» لباموك، أو على الأقل سمع عنها. ففي زقاق شوكوركوما المتواضع الواقع في منطقة بيوغلو، لا شيء يوحي بأنّ ذلك المبنى الصغير المطليّ بالأحمر هو في الواقع متحفٌ يخبّئ في طبقاته الـ4، الكثير من تفاصيل حياة الأتراك على مدى 3 عقود.

يقع متحف البراءة في منطقة بيوغلو في إسطنبول (الشرق الأوسط)

فراشة تستقبل الزائرين

يكفي أن يحمل الزائر نسخةً من الرواية حتى يجول مجاناً في المتحف. حرُصَ باموك على أن تضمّ إحدى صفحات الكتاب بطاقة دخول للقارئ، موجّهاً إليه بذلك دعوةً لزيارة المتحف إذا حطّت به الرحال في إسطنبول. بخَتمٍ يحمل رسمَ فراشة تُدمَغ البطاقة، لتبدأ الجولة بأول غرضٍ معروض وهو قرط أذن على شكل فراشة. يقفز إلى الذاكرة فوراً الفصل الأول من الرواية، يوم أضاعت المحبوبة «فوزون» أحد أقراطها عند بطل القصة «كمال»، فاحتفظ به كما لو كان كنزاً، مثلما فعل لاحقاً مع كل غرضٍ لمسَ «فوزون» أو وقع في مرمى نظرها.

صفحة من رواية «متحف البراءة» تمنح الزائر بطاقة دخول إلى المتحف (الشرق الأوسط)

في متحف الحب

تتوالى الواجهات الزجاجية الـ83 بمنمنماتها وأغراضها، لتعكسَ كلُ واحدة منها فصلاً من فصول الرواية. لا يكتفي المتحف بتوثيق أنثروبولوجيا إسطنبول فحسب، بل يؤرّخ لحكاية الحب الأسطورية التي جمعت بين الرجل الأرستقراطي صاحب المال وقريبته الشابة المنتمية إلى الطبقة الفقيرة.

لعلّ ذلك الحب الجارف بين «كمال» و«فوزون» هو أبرز ما يدفع بالزوّار من حول العالم إلى أن يقصدوا المكان يومياً بالعشرات. يصعدون السلالم الخشبية، يجولون بين الطبقات الضيّقة، يتوقّفون طويلاً أمام الواجهات الزجاجية الصغيرة التي تحوي ذكريات المدينة وإحدى أجمل حكاياتها. منهم مَن أتى من الصين، ومنهم مَن قصد المكان ليُعدّ بحثاً جامعياً عنه، وما بينهما شابة مولَعة بالرواية تصرّ على التقاط صورة في كل زاوية من زوايا المتحف.

في المتحف 83 واجهة زجاجية تختصر كل منها فصلاً من الرواية (الشرق الأوسط)

رواية في متحف ومتحف في رواية

لمعت الفكرة في رأس أورهان باموك في منتصف التسعينات. قرر أن يجمع أغراضاً ليبني منها رواية تصلح أن تتحوّل متحفاً. سار المشروعان التوثيقي والأدبي بالتوازي، فأبصرت الرواية النور عام 2008، أما المتحف فافتُتح عام 2012 نظراً للوقت الذي استغرقه إعداده. ليس كل ما في المكان مقتنيات خاصة اشتراها باموك من محال التحَف العتيقة في إسطنبول وحول العالم، فبعض ما تُبصره العين في المتحف الذي يفوق عدد معروضاته الألف، استقدمَه الكاتب من منازل أقرباء وأصدقاء له.

استقدم باموك بعض الأغراض المعروضة من بيوت أقرباء وأصدقاء له (الشرق الأوسط)

استثمر الأديب التركي الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2006، ماله ووقته في مشروعه، وهو أول متحفٍ في العالم خاص برواية. في المرحلة الأولى، بدأ بتجميع الأغراض. ثم ابتاعَ مبنى صغيراً مؤلفاً من 4 طبقات وعائداً إلى القرن الـ19.

بالموازاة، كانت مخطوطة «متحف البراءة» قد بدأت سلوك الخط الروائي الذي قرره لها باموك، أي الدوَران حول شخصيتَيها الأساسيتَين الطالعتَين من بنات أفكاره. في القصة المتخيّلة، يدعو البطل «كمال» الكاتب أورهان باموك إلى تدوين سيرته. يخبره كيف أنه جمع كل غرض يذكّره بـ«فوزون»، كما كان يسرق بعض مقتنياتها كأمشاط الشعر والحليّ وقطع الملابس وغيرها من الأغراض الشخصية. في الرواية، وبعد أن يخسر «فوزون» إلى الأبد، يشتري «كمال» المنزل الذي قطنت فيه المحبوبة مع والدَيها، ليقيم فيه ويحوّله إلى متحفٍ يحيي ذكراها.

أمشاط الشعر العائدة إلى بطلة الرواية «فوزون» (الشرق الأوسط)

مؤثرات بصريّة وصوتيّة

من قصاصات الصحف إلى أواني المطبخ، مروراً بالصور القديمة، وساعات اليد، وقوارير العطر، والمفاتيح، وأوراق اليانصيب، وبطاقات الطيران، يتيح المتحف أمام الزائر أن يدخل في الرواية. كما يسمح له بمعاينة قريبة لأسلوب عيش أهل إسطنبول على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ما بين 1975 ومطلع الألفية الثالثة. في «متحف البراءة» يتداخل الخيال بالواقع، ويصبح المتجوّل في الأرجاء جزءاً من اللعبة التي اخترعها أورهان باموك.

يتجاوز عدد المعروضات في متحف البراءة ألف قطعة (الشرق الأوسط)

تخرق صمتَ الزائرين وصوتَ الراوي، مؤثّراتٌ خاصة من بينها فيديوهات معروضة على الجدران تعكس الحقبة التاريخية، وأصوات خرير مياه ونعيق غربان إسطنبول ونَورس البوسفور.

السيّد باموك... مدير المتحف

ليس طَيفا «فوزون» و«كمال» وحدهما المخيّمَين على المكان، فباموك حاضرٌ كذلك من خلال ترجمات الكتاب المعروضة في الطابق السفليّ، وكذلك عبر نبرة الراوي في الجهاز الصوتيّ، الذي يتقمّص شخصية الكاتب. مع العلم بأنّ باموك أشرف شخصياً على تفاصيل المتحف، وحتى اليوم بعض الواجهات الزجاجية فارغة «لأني ما زلت أعمل عليها»، وفق ما يقول الراوي. أما إن سألت موظفة الاستقبال عن هوية مدير المتحف، فستجيب: «السيّد باموك». كيف لا، وهو الذي أنفق 1.5 مليون دولار على تحفته الصغيرة، من بينها جائزة المليون دولار التي حصل عليها من مؤسسة نوبل.

وصلت تكلفة المتحف إلى 1.5 مليون دولار سدّدها باموك من ماله الخاص (الشرق الأوسط)

في غرفة «كمال»

يقول «كمال» في الكتاب: «أذكر كيف كان البرجوازيون في إسطنبول يدوسون فوق بعضهم كي يكونوا أوّل مَن يمتلك آلة حلاقة كهربائية أو فتّاحة معلّبات، أو أي ابتكار جديد آتٍ من الغرب. ثم يجرحون أيديهم ووجوههم وهم يصارعون من أجل تعلّم استخدامها». هذه الطبقيّة ذاتها والفوارق الاجتماعية التي تخيّم على خلفيّة الرواية، هي التي جعلت قصة حب «كمال» و«فوزون» تتأرجح بين الممكن والمستحيل.

الرواية كما المتحف يجمعان السرديّتَين العاطفية والاجتماعية (الشرق الأوسط)

تنتهي الزيارة في الطبقة الرابعة، أو بالأحرى في العلّيّة حيث أمضى «كمال» السنوات الأخيرة من حياته ما بين 2000 و2007، وفق الرواية. هنا، على سريرٍ حديديّ ضيّق كان يستلقي البطل العاشق ويروي الحكاية لأورهان باموك الجالس قبالته على مقعدٍ خشبيّ. لا يضيع شيءٌ من تفاصيل الخاتمة؛ لا ثياب نوم «كمال»، ولا فرشاة أسنانه، ولا الدرّاجة التي أهداها إلى «فوزون» وهي طفلة.

غرفة «كمال» بطل الرواية حيث أمضى السنوات الـ7 الأخيرة من حياته (الشرق الأوسط)

على براءتها وبساطتها، تروي أغراض «متحف البراءة» إحدى أجمل قصص الحب التي أزهرت بين سطور أورهان باموك، وخلّدت في قلب إسطنبول النابض.