على إحدى ضفاف نهر النيل التي يقبع عليها فندق «غراند حياة»، بحي غادرن سيتي العريق بالقاهرة، تنبعث رائحة الخبز المصري الشهي، تماماً كما كانت منذ آلاف السنين، فمن هناك تجلس السيدة ميرفت الشهيرة بـ«أم محمد» تخبز وتنتج العيش الطازج الذي يعمر موائد الفندق الفاخر، وتشيع أجواءً من البهجة والمرح وسط زوارها.
ويحتل الخبز مكانة عظيمة لدى قدماء المصريين، حتى أن البرديات تشير إلى أن مصر القديمة عرفت قرابة 100 نوع منه، وبات مع مضي الوقت يشتهر بتعدد مسمياته وكثرة أنواعه في البيوت المصرية، إذ تختلف طريقة تصنيعه وفقاً للموقع الجغرافي ما بين شمال مصر ومدنها الساحلية وما بين صعيدها وريفها، مثل، «المرحرح»، و«البتاو»، و«البكوم» في الريف المصري والدلتا، و«الشمسي» في بعض مدن الصعيد، و«الخامر» و«الكابد» و«الدامبرت» في مدن البحر الأحمر الممتدة حتى صعيد مصر، و«المجردق» في مرسى مطروح، و«الخنريت» بأسوان، فيما يطلق على الخبز الأسمر «العيش البلدي» في محافظات عدة بينها القاهرة والجيزة والإسكندرية.
«الشرق الأوسط» رافقت أم محمد وهي تخلط العجين وتضبط مكوناته بمقدار من الطحين الأبيض والردة (نخالة القمح)، فتأخذ مقداراً من العجين تطلقه في الهواء ثم تلتقطه بمضرب خشبي دائري، ثم تسحب كمية محسوبة بدقة من الردة لتنثرها على وجه الخبز الأبيض، قبل أن تطلق العجين مرة أخرى في حركات سريعة لتلقي به إلى داخل تجويف الفرن الحجري.
وأمام اللهيب الذي يلفح الوجوه، تقول أم محمد في حديث إلى «الشرق الأوسط»: «أعمل يومياً منذ الصباح الباكر، وحتى الرابعة عصراً وأحياناً يمتد عملي فترة المساء أيضاً، فالعديد من زبائن الفندق يفضلون الخبز المصري»، ورغم شدة الحرارة المنبعثة من الفرن، تشير إلى أن «تنتج 500 رغيف يومياً بمفردها».
وتشرح أم محمد، بوجه باسم مقادير صناعة الخبز: «عبارة عن مكونات بسيطة من الدقيق والملح والخميرة وقليل من الردة، وبعد أن يختمر العجين يستغرق إعداد الرغيف دقيقتين في الفرن»، وتتحدث وهي تتابع بمهارة إدخال قطع العجين في النار وانتشاله منها ووضعه على طاولة خشبية لحين نقله إلى طاولات الفندق: «أعمل في مجال الطهي منذ أكثر من 20 عاماً تنقلت خلالها للعمل في مطاعم عديدة بالقاهرة الكبرى».
وتؤكد: «لا يوجد فندق أو مطعم يقدر يستغنى عن العيش المصري»، «وسيظل هو الأكثر شعبية لأنه يساعد على فتح الشهية ويفضله الزبائن من جنسيات كافة».
ومثلما رسم المصريون القدماء الخبز أثناء تقديمه كقرابين على جدران معابدهم المنشرة في أرجائها، أصبحت صومعة الخبز وقائدتها أم محمد، مزاراً محبباً لزوار الفندق من العرب والأجانب على مدار أكثر من 10 سنوات حيث تستقبلهم بابتسامة لم تخف آثار الحرارة على وجهها، ليتابعوا رحلة الرغيف من كونه حبات دقيق متناثرة إلى عجين رخو إلى رغيف بقوام متماسك تتصاعد منه رائحة البيوت المصرية الدافئة، تساعدهم على تعلم آلية إعداد الرغيف على الطريقة التقليدية المصرية، ليعم المرح صومعة أم محمد، وتتصاعد ضحكات النزلاء وهم يحاولون تقليدها في مهارة رفع العجين والدفع به إلى بهو الفرن.
تعتز أم محمد، بمهنتها وتقدم واجب الضيافة لزوار مخبزها المطل على النيلي بلقيمات طازجة لتشاركهم «العيش والملح» وهي المقولة الشعبية التي تعبر عن طيب العشرة بين المصريين وضيوفهم. وتداعبهم بمثل شعبي قائلة: «العيش الحاف يربي الكتاف».
أكثر من 100 نوع من الخبز المصري...تاريخياً
أم محمد تصنعه من 20 عاماً وتقول: «العيش الحاف يربي الكتاف»
أكثر من 100 نوع من الخبز المصري...تاريخياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة