منتدى أصيلة يودع دورته الـ36 بتكريم أهالي المدينة

منح عددا من الجوائز لسكانها المبدعين في شتى المجالات

جانب من حفل اختتام موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ36
جانب من حفل اختتام موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ36
TT

منتدى أصيلة يودع دورته الـ36 بتكريم أهالي المدينة

جانب من حفل اختتام موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ36
جانب من حفل اختتام موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ36

أسدل الستار أخيرا على فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ36 بحفل توزيع الجوائز على سكان مدينة أصيلة الذين تميزوا خلال السنة في كل من مجالات: البيئة، والرياضة، والتعليم، والإبداع، والعمل الجماعي. واعتاد موسم أصيلة الثقافي على ختم فعالياته كل سنة بتتويج السكان المتميزين عبر تخصيص جوائز للكبار والصغار، ضمنها جائزة الأم المثالية، والعاملة المثالية، والرياضي المثالي، وجائزة البيئة لأحسن زقاق في المدينة؛ من حيث النظافة والتزيين، وجائزة صياد السنة، وجائزة الصياد التقليدي للسنة، ثم جائزة إبداع الطفل، وبالإضافة إلى جوائز الأفراد تمنح جائزة لجمعيات المدينة باختيار الجمعية المثالية التي قدمت خدمات أفضل خلال السنة لصالح أصيلة وسكانها.
وجرى خلال هذه الدورة تخصيص جائزة المشغل الخاص بإبداع الطفل عبر مشغل الكتابة، الذي تميز هذا العام بإدراج ورشة لتعليم أطفال المدارس تقنيات كتابة السيناريو والسينما، بعد أن كانت تعنى فقط بتعليم كتابة الرواية والقصة.
وخاطب محمد بن عيسى، الأمين العام لمنتدى أصيلة، سكان المدينة خلال الحفل، قائلا إن «هذا الحدث فرصة في كل موسم للعودة للأرض وللمواطن (الأصيلي) لتكريمه، وتقديم الامتنان له على ابتسامته وحسن ترحيبه بالضيوف الذين يفدون كل سنة للمشاركة في المنتدى بطريقة رمزية من خلال جوائز للمتميزين من أبناء أصيلة».
وعادت جائزة الأم المثالية لعائشة السنوسي، وهي من سكان أصيلة، وتمتاز بسمعتها وأخلاقها الطيبة بين سكان المدينة، وهي أم لـ7 أبناء، بينما منحت جائزة العاملة المثالية لرحمة الحساني، وهي أرملة ربت 4 أبناء من اشتغالها بالخياطة التقليدية في منزلها، أما جائزة البيئة فكانت من نصيب مجموعة من السيدات، جرى عرض صور للأزقة التي يقطنونها بزقاق «السقايا 38»، والتي حازت على إعجاب اللجنة المشرفة، وتميزت بنظافتها، وجمالية عمرانها، وزينتها، وحدائقها.
وكان للصانع التقليدي أيضا نصيب من الجوائز التقديرية، ففاز بها محمد البعزيزي الذي عمل في مجال الخياطة التقليدية قبل أن يحترف بعد ذلك مهنة الصباغة، وعرف وسط سكان المدينة بطيب الخلق والصدق والأمانة والتواضع وإتقان العمل، فيما كانت جائزة صياد السنة من نصيب عبد السلام الرايس، وهو رجل عاش حياته يعمل في قوارب الصيد في أصيلة وعدد من المدن المغربية، وتقاعد بعد أن بلغ الـ70 من عمره.
وعلى المستوى الرياضي آلت جائزة رياضي السنة لعبد الملك حيمد الملقب بـ«ديدي»، وهو عاشق لكرة القدم، وله مسار حافل في عدد من الفرق الكروية، وتميز بالانضباط، وأسس بعد اعتزاله فريق «الشباب الأصيلي»، وتفرغ كذلك لتنشيط بطولات الأحياء، أما جائزة جمعية السنة ففازت بها «جمعية الأصيل للثقافة والفنون»، وهي تعنى بتربية الناشئة وتنمية الحس الفني والجمالي للشباب وعنايته بالموروث الشعبي الوطني، وهي جمعية تأسست بمبادرة من شباب مدينة أصيلة.
جائزة طفل السنة لهذا العام كانت من نصيب الطفل إبراهيم نويرة الذي يتميز بموهبة كبيرة في كرة القدم، وحاز على جوائز تقديرية كثيرة، وكان نموذجا للطفل الرياضي بموهبته الفريدة، أما بخصوص جوائز الحاصلين على أعلى معدلات في الباكالوريا (الثانوية العامة)، فكانت ككل سنة من نصيب الفتيات؛ حيث فازت بها كل من الطالبة ندى المكاوي (تخصص علوم فيزيائية)، وسارة الصروح، المتفوقة في علوم الآداب.
أما جائزة أحسن محاولة في كتابة السيناريو والقصة فمنحت للطالب محمد سعد الطليكي، وجائزة أحسن محاولة لكتابة القصة والمسرحية منحت للطالبة فدوى بلعة، بينما منحت جائزة أحسن محاولة لكتابة القصة للطالبة مريم قطيطو.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)