يوم الثلاثاء أعلن مهرجان «كان» عن ماهية الفيلم الذي سيفتتح الدورة الجديدة. لن يكون فيلماً فرنسياً بل سيكون فيلماً أميركياً. لن يكون لمخرج ما زال يتعلم بل لخبير في السينما. كذلك لن يحاول أن يكون واحداً من تلك التي تعد ولا تسلّـم ما تعد به، بل سيكون واحدا من تلك الأفلام التي تعرف، نسبة لتاريخ مخرجها، أين تقف وكيف.
الفيلم هو «الموتى لا يموتون» والمخرج هو جيم جارموش الذي لا يريدك أن تخاف ولا يريدك أن تضحك بل يريدك أن تخاف وأن تضحك معاً. فيلمه الجديد منوال من سينما الرعب القائمة على البنية الكلاسيكية لأفلام الزومبيز: بلدة صغيرة. مقابر. موتى ينهضون من الموت ويأكلون الأحياء. في المقابل، حفنة من الرجال والنساء الذين لا يصدقون ما يرون وحين يدركون أنه حقيقة ينبرون للعمل قبل فوات الأوان.
لكن اعتيادية هذه الملامح العامة للحكاية تنقلب تحت أيدي المخرجين الرافضين إعادة السائد كما هو إلى أعمال مثيرة للاهتمام. وجيم جارموش هو من بين هؤلاء. في كل فيلم حققه هناك حكاية بسيطة، لكن بقدر ما هي بسيطة تحتوي على عمق وثراء ودلالات بعيدة.
- لا للحبكة
الأميركي جيم جارموش (66 سنة) شارك في مهرجان «كان» من العام 1984 عندما قدم في نطاق «نصف شهر المخرجين» فيلمه المبكر «أغرب من الجنة». بعده قدّم على الشاشة الرسمية (وغالباً داخل المسابقة الأولى) أحد عشر فيلماً أخرى هي (على التوالي) «راضخ للقانون» (Down By the Law) سنة 1986: «قطار الغموض» (1989): «قهوة وسجائر» (1993): «رجل ميت» (1995): «كلب شبح: طريقة الساموراي» (1999): «أكبر بعشر دقائق» (2002): «القناة زد: ولهٌ رائع» (2004): «زهور مكسورة» (2005): «فقط العشاق بقوا أحياء» (2013): «أعطني خطرا» (2016) و«باترسون» (2016).
عملياً، إذن، شارك جارموش في المهرجان الفرنسي بكل أفلامه باستثناء ثلاثة أفلام هي فيلم صغير حققه كأول عمل بعنوان «عطلة دائمة» وفيلم جيد أنجزه سنة 1991 بعنوان «الليل على الأرض» وآخر لم يُشاهد إلا لماماً أنجزه سنة 2009 بعنوان «حدود السيطرة».
وهو فاز أربع مرات. نال الكاميرا الذهبية عن «أغرب من الجنة» وجائزة أفضل إسهام فني عن «قطار الغموض» والذهبية لأفضل فيلم قصير عن «قهوة وسجائر» ثم الجائزة الكبرى (الثانية في عداد الجوائز الرسمية) عن «زهور مكسورة».
لا عجب أن يعود للاشتراك في مسابقة هذا المهرجان وبل أن يفتتح دورة تكسير عظام مع منافس «كان» الأول «فينيسيا» خصوصا أن الفيلم مرصع بالنجوم. لدينا بل موراي وتيلدا سوينتون وكليو سفيني وأدام درايفر وستيف بوشيمي وكارول كاين من بين آخرين وكلهم منقسمون بين رجال ونساء ما زالوا أحياء ويحاولون البقاء هكذا ورجال ونساء عادوا من الموت جائعين.
فيلم جارموش الأسبق: «فقط العشاق بقوا أحياء» تناول حكاية تتطرق إلى «الفامبايرز» مع تيلدا سوينتون وتوم هيدلستون وجفري رايت وجون هيرت من بين آخرين. لكن ذلك الفيلم، على اختلافه عن أفلام مصاصي الدماء السائدة، كان داكناً والكوميديا التي يحويها سوداء لدرجة أنها تحتاج مكبرات لنبشها. هنا يعمد جارموش إلى تفتيح العدسة قليلاً وطرح الموضوع على نحو ساخر بوضوح أكثر.
كمخرج مستقل عن السائد من السينما، هو واحد من أولئك المخرجين الذين لا يكترثون للحبكة المعتادة. يقول في مقابلة منشورة سنة 1992 في مجلة اسمها «رفلكس»: «الحياة بلا حبكة. لماذا على الفيلم أن يحتوي على حبكة؟».
إذا كان هذا المبدأ قريباً من قناعات السينمائيين الأوروبيين فإن ذلك يعود إلى السنة التي أمضاها زائراً مداوماً للسينماتيك الفرنسية حين حط في باريس في مطلع السبعينات ليدرس اللغة الفرنسية. حين عاد إلى نيويورك دخل «مدرسة نيويورك للفيلم» وتعلم بعض التقنيات والمعلومات التي تساعده على الوقوف وراء الكاميرا لكنه لم يتعلم شيئا عن الممثلين. راقب أفلام المخرج المستقل الراحل جون كازافيتيس الذي كان يبني بدوره غالب أعماله المستقلة على كاهل الشخصيات التي يكتبها وليس حول حبكات محددة. وانتهج سبيلاً مماثلة في البداية.
تدريجياً صاغ جارموش أسلوبه البصري الخاص المؤلف من عناصر بسيطة التشكيل: حبكة محدودة من دون خط تصاعدي أو أحداث فعلية تُروى. أماكن تصوير محصورة لا يوجد امتداد مدني كبير فيها. كذلك لقطات طويلة مع كاميرا تتحرك فقط حين يدرك المخرج حاجة الفيلم الماسة إلى ذلك.
- ساموراي
شخصيات جارموش ليست من تلك التي تعيش في مرتفعات الحياة. ليس من بينها رجال أقوياء وآخرون ضعفاء. كذلك ليس من بينهم من يؤلف له حيزاً خاصاً ليقود الحكاية صوب ذروات معهودة. هم، دوماً، شخصيات من المحتمين بهامش الحياة. هؤلاء الذين نجدهم عند أطراف المجتمع المشغول بأولوياته.
جارموش ليس الوحيد في هذا المضمار. ديفيد لينش وألكسندر باين مخرجان مستقلان يشاركانه هذا المنحى إلى حد كبير. لكن ما يميز جارموش عن سواه هو أنه يبحث عن شخصيات تعيش في غربة الحياة. ليسوا غرباء على الوطن، بل غرباء في الوطن.
فيلمه السابق «باترسون» كان واحداً من هذه الأفلام. أدام درايفر لعب شخصية سائق الحافلة العمومية الذي يكتب الشعر وراء المقود قبل الانطلاق، ويذهب إلى الحانة القريبة قبل النوم ويعيش مع زوجته في هدوء تام. هو موجود وغير موجود، تماماً كشخصيات أخرى رأيناها في أفلامه الأسبق مثل «قطار الغموض» و«كلب الظل» و«زهور مكسورة».
هذا الابتعاد عن السائد شمل «كلب ظل» الذي كان ممكن له، بيد مخرج آخر، أن يصبح فيلم ساموراي بامتياز، و«رجل ميت» الذي كان فيلم وسترن يختلف عن كل فيلم وسترن سبقه، ولا «فقط العشاق يبقون أحياء» هو فيلم رعب.
بين هذه الأمثلة يبرز «كلب ظل» الذي اختار لبطولته الممثل فورست ويتيكر. كان المخرج شاهده في بضعة أفلام وأعجب بأدائه. فكر في رسم شخصية له وساعده ويتيكر بذلك عندما قابله وعلم المخرج منه أنه يحب الفلسفة الشرقية والساموراي. حين عاد جارموش لكتابة نصه السينمائي جعله خبير قتال محترفا تعهد إليه المافيا بتنفيذ مهمة قتل. يقوم بذلك لكنه يمتنع عن قتل فتاة ضمن المجموعة التي تم إرساله لإبادتها. هنا ترتكب المافيا خطأ كبيراً عندما ترسل وراءه من يريد قتله.
رغم أن هذا الملخص يصلح لأن يكون نصاً بوليسياً كاملاً، فإن الفيلم فيه الكثير من التأمل والدراسة في حياة الشخص والقليل من التشويق العادي.
تبقى الإشارة إلى أن إعلان المهرجان لفيلم جارموش الجديد جاء أقوى من إعلاناته السابقة عن أي من الأفلام التي افتتح بها مؤخراً. هناك، على الأرجح، معالجة جديدة لموضوع الدعاية الإعلامية نتيجة التغييرات التي قام بها المهرجان وتحدثنا عنها في عدد سابق.
- أفضل خمسة لجارموش
1991: Night on Earth. (جيد)
1995: Dead Man. (جيد)
1999: Ghost Dog: The Way of the Samurai. (ممتاز)
2006: Broken Flowers. (ممتاز)
2016: Paterson. (جيد)