صاحب ثلاثية الدولارات الشهيرة سيرجيو ليوني درس القانون... وخالفه

90 سنة على ولادته و30 سنة على وفاته

إيستوود وإيلاي والاك في «الجيد والسيئ والبشع». - (في الإطار) سيرجيو ليوني
إيستوود وإيلاي والاك في «الجيد والسيئ والبشع». - (في الإطار) سيرجيو ليوني
TT

صاحب ثلاثية الدولارات الشهيرة سيرجيو ليوني درس القانون... وخالفه

إيستوود وإيلاي والاك في «الجيد والسيئ والبشع». - (في الإطار) سيرجيو ليوني
إيستوود وإيلاي والاك في «الجيد والسيئ والبشع». - (في الإطار) سيرجيو ليوني

بدخول فن السينما عقد الستينات في القرن الماضي، بدأت تعرف معالجات مختلفة عما كان سائداً من قبل، من بينها ولادة نوع جديد من أفلام الغرب الأميركي عرف بالاسم الساخر «سباغيتي وسترن» نسبة إلى أن أفلامها كانت تُصنع في مطابخ إيطالية.
أحد صانعيها كان سيرجيو ليوني الذي وُلد سنة 1929 ورحل في مثل هذا الشهر من عام 1989. بذلك يكون عاش ستين سنة من بينها 32 سنة في السينما. معظم هذه السنوات لم يقضها مخرجاً إذ تأخر التحاقه بدرب صانعي الأفلام إلى سنة 1961 عندما حقق «عملاق رودس». قبل ذلك، ومن سنة 1961. عمل مساعد مخرج لأفلام رهط كبير من المخرجين الإيطاليين والأجانب، مما مكنه من الاختلاط بالمهنة من الداخل واستيعابها بكامل تفرعاتها وخصائصها.
دخول إيطاليا، وبعدها ألمانيا وإسبانيا، في سينما الغرب الأميركي (الوسترن)، كان أحد المتغيرات التي طرأت على هذا النوع من الأفلام في الستينات. في الولايات المتحدة، العرين الأول لهذه السينما.
أفلام مثل «الغرب الأخير» (إخراج روبرت ألدريتش، 1961) و«100 بندقية» (توم غرايز، 1969) و«بوتش كاسيدي وصندانس كِد» (جورج روي هِل، 1969) و«ذا شوتينغ» (مونتي هلمان، 1966) و«مسدسات بعد الظهر» (سام بكنباه، 1962) «الزمرة المتوحشة» (بكنباه، 1968) قدّمت أبطالاً يقفون على الجانب الآخر من القانون من دون أن يكونوا أشراراً سفاحين بذلك دخل عنصر جديد على تأليف البطولات التقليدية لم يكن سائداً (وإن كان موجوداً على نحو محدود فيما سبق من عقود).
صانعو سينما الوسترن الإيطالية أحبوا، بلا ريب، أفلام الغرب الأميركي لكن معظمهم، مثل كارلو ليزاني، وسيرجيو كوربتشي (وشقيقه برونو كوربتشي)، وإنزو باربوني، وإنزو كاستيلاري، وميشيل لوبو، وداميانو دامياني وآخرين عديدين، عالجوها كمادة كاريكاتيرية. هذا لا يعني أنهم عالجوها كوميدياً، ولو أن بعض تلك الأفلام كانت كوميدية، بل المقصود هو أن الإيطاليين الذين انغمسوا في تحقيق أفلام الوسترن حسب رؤاهم رفعوا عيار الدراما والتشخيص وخلق المناسبات التي يواجه فيها البطل الأشرار فيقضي عليهم بمسدس لا يفرغ من الرصاص. قلبوا المعادلات التقليدية التي كانت تقتضي بإيجاد مبررات مدروسة (قدر الإمكان) في الأفلام الأميركية وجعلوا الأفعال هي التي تتكلم أولاً بعيداً عن المنطق إذا كان لا بد من ذلك.

- مع الأميركيين في إيطاليا
ولد سيرجيو ليوني في بيت فني. والدته كانت ممثلة لعبت في أفلام إيطالية صامتة. التقت، سنة 1916. بالممثل والمخرج فنزتو ليوني فتوقفت عن التمثيل بينما استمر هو في العمل أحياناً تحت اسم روبرتو روبرتيني في أفلام إيطالية صامتة. المراجع لا توضح السبب الذي من أجله قام الحزب الإيطالي الفاشي في الثلاثينات بمنعه من العمل لسنوات عدة، لكنه عاد فأكمل دربه من أواخر ذلك العقد وحتى منتصف الأربعينات أو بعدها بقليل.
كانت وصية الأب لابنه سيرجيو الابتعاد عن العمل السينمائي، ووجدنا سيرجيو الشاب يلتحق بدراسة القانون لعله يصبح محامياً، هذا من بعد أن أسند إليه والده دوراً صغيراً في فيلم عنوانه «الفم على الطريق» (La bocca sulla strada) سنة 1941. بعده انصرف سيرجيو لدراسته القانونية ثم توقف عنها وانخرط في عداد العاملين في السينما. كان، وحتى سنوات عدة قادمة، مجرد عامل وراء الكاميرا يساعد مساعدي المخرج في أعمالهم. من بين تلك الأفلام «لصوص الدراجة» لفيتوريو دي سيكا (1948) و«فاوست والشيطان» لكارمن غالوني (1950).
بعد عام تسلم مقاليد إدارة الوحدة الثانية للفيلم التاريخي الأميركي «كيو فاديس» الذي صوّره الهوليوودي مرفن ليروي في إيطاليا. بعد ذلك نجد أن اسمه كمساعد مخرج أو ككاتب ورد على عدد كبير من أفلام الفترة من بينها فيلم أميركي آخر قام بالإشراف على إخراج معاركه هو «هيلين طروادة» لروبرت وايز (1956). كذلك قام بالعمل ذاته بعد ثلاث سنوات عندما قام الأميركي ويليام وايلر بتحقيق «بن حور» سنة 1959
في العام ذاته، قام ليوني بإكمال إخراج فيلم كان بدأه ماريو بونارد ولم يستطع (لكبر سنه) استكماله. الفيلم كان «آخر أيام بومباي» الذي، حين تم توزيعه على صالات السينما حمل اسم بونارد كمخرج. ولم يحمل اسم ليوني مطلقاً.
لكن هذه المجموعة من الأفلام المميزة بمعارك تاريخية وحجم إنتاجي كبير تركت في ذات سيرجيو ليوني حب تقديمها إلى الجمهور مازجاً خبرته في العمل لأفلام أميركية تم تصويرها في إيطاليا بخبرته بالسينما الإيطالية ذاتها. وهذا ما قاده إلى وضع سيناريو وإخراج «عملاق رودس» سنة 1961 الذي انتمى إلى الفترة التي شاعت فيها أفلام هركوليس وماشيستي وأبطال المعارك الرومانية الآخرين. نراه بعد ذلك كتب أفلاماً من النوع ذاته من بينها «مبارزة العمالقة» و«الانتقامات السبعة» كما عاد لتقديم خبرته في مجال الإشراف على مشاهد المعارك وتحريك الجيوش في فيلم «سادوم وغوموره» للأميركي روبرت ألدريتش.

- بقعة بيضاء
كل ما سبق كان تحضيراً لفيلم الوسترن الأول له (والثاني في عداد أفلامه كمخرج) وهو «حفنة دولارات». سنة 1964.
ما دارت حوله كتابات غربية (وعربية تم ترجمتها) أن ليوني ابتدع سينما الوسترن الإيطالية وبالتالي الأوروبية، وبذلك كان «رائداً» لها. لكن الحقيقة تختلف. في عام 1962 قام الألماني هارولد رايني بإخراج فيلم وسترن بعنوان «كنز سيلفر لايك» المأخوذ عن روايات ألمانية رائجة وضعها كارل ماي بطلها بطل هندي اسمه وينيتاو. نسبة لرواجها قام الألمان بتحقيق هذا الفيلم متبوعاً بعشرة أفلام أخرى من السلسلة. وكان أول المتأثرين بذلك الإسبان الذين سارعوا ما بين 1962 و1964 لتحقيق أفلامهم من الوسترن.
في إيطاليا ذاتها كانت هناك أفلام قليلة من النوع أحدها ورد سنة 1964 بعنوان «المسدسات لا تُناقش» للمخرج ماريو كايانو. تأثير ذلك على منهج ليوني غير معروف، لكن المؤكد أن سيرجيو ليوني استوحى «حفنة دولارات» من فيلم ياباني لا علاقة له بالوسترن هو «يوجيمبو» الذي حققه أكيرا كوروساوا سنة 1961 وشاهده ليوني في صيف العام ذاته، وأعجبه لدرجة أنه قرر نقله إلى فيلم وسترن. رأى سيرجيو فيه صلاحيته لذلك فنقل حكايته إلى سيناريو حمل اسمه.
لم يمض سوى عام واحد أو نحوه قبل أن ينتبه كوراساوا ومساعده في الكتابة رايوزو كيكوشيما أن الفيلم الذي حقق نجاحاً كبيراً في إيطاليا ليس سوى فيلمهما الساموراي. هذا ما تبعه رفع دعوى لإيقاف عروض الفيلم مما أجل عروضه الأميركية لثلاث سنوات. وأدّى كذلك إلى دفع 15 في المائة من إيرادات الفيلم العالمية إلى كوراساوا الذي صرح بعد سنوات ساخراً: «في الحقيقة حققت من المال عن طريق هذا الفيلم أكثر مما حققته من الفيلم الأصلي».
من اللقطة التمهيدية الأولى لهذا الفيلم يدرك المشاهد رغبة ليوني في تمييز هذا الفيلم عن أفلام الوسترن الأميركية. هي لقطة لبقعة بيضاء على شاشة حمراء. على بساطة هذا الاختيار حدد المخرج مسبقاً رغبته في توفير فيلم يتعامل ونوازع شخصية لبطله تجعل ذلك البطل (كما قام كلينت إيستوود بتمثيله) مختلفاً عن بطولات الآخرين في هوليوود. شيء من العنف الممتزج بتاريخ الرجل الذي لن يتسنى لنا معرفته بالكامل، لكننا سنشهده أكثر من مرّة في الفيلم. في إحدى تلك المرّات يتبدّى البطل (الذي لا يحمل اسماً) كما لو كان يكرر ميثالوجيا المسيح الذي عاد من الموت مع فارق أن بطل «حفنة دولارات» عاد لينتقم وليس لإصلاح العالم.
إيستوود استخدم هذا المغزى أكثر من مرّة فيما بعد في أفلامه («اشنقهم عالياً» لتد بوست سنة 1968 و«هاي بلينز دريفتر» من إخراجه سنة 1973. هما أول ما يخطر على البال). لكن إيستوود، في مطلع الستينات، لم يكن اسماً معروفاً على الشاشة الكبيرة. كان له أتباعه في مسلسل وسترن تلفزيوني اسمه «روهايد» ولم يكن ليوني سمع به أساساً. تواصل مع هنري فوندا للعب الدور لكن ذاك رفضه. عرض الدور على تشارلز برونسون، لكنه هذا احتذى بفوندا واعتذر. الاختيار الثالث كان جيمس كوبرن الذي وافق إنما بأجر لا يمكن لليوني ومموليه القبول به.
على مضض اختار ليوني إيستوود بعد مشاهدته في حلقة من حلقات «روهايد» مما يجعل الاعتقاد السابق من أن ليوني أشار بأصبعه إلى إيستوود في تلك الحلقة وقال: «هذا هو الممثل الذي أريده» اعتقاداً غير صحيح. لا هو ولا إيستوود (الذي تقاضى 15 ألف دولار فقط عن دوره في هذا الفيلم عرف قدر هذا الاختيار وأهميته إلا من بعد أن دارت الكاميرا.
نجاح «حفنة دولارات» أدى للفيلمين اللاحقين مع إيستوود وهما «لأجل دولارات قليلة أكثر» (1965) و«الجيد والسيئ والبشع» (1966). في هذا الفيلم الأخير ضم ليوني إليه ممثلين أميركيين آخرين هما ممثل أدوار الشر لي فان كليف والممثل المتنوّع إيلاي والاك. الأول له عشرات الأدوار الشريرة في السينما وعشرات أخرى في الحلقات التلفزيونية، والثاني (والاك) لعب أدواراً مختلفة لكن سيرجيو ليوني، في مقابلة تمّـت بيننا بحضور الزميل محمد سويد في إحدى دورات مهرجان القاهرة سنة 1984 أكد أن اختياره لوالاك تم من دون أن يعرف اسمه:
«شاهدته في (السبعة الرائعون) - فيلم جون ستيرجز المأخوذ - قانونياً - من فيلم آخر لأكيرا كوروساوا هو (الساموراي السبعة) - وقلت لمن حولي هذا هو الممثل الذي سيلعب دور البشع».
بعد هذه الانتصارات حقق ثلاثة أفلام فقط هي «اختبئ أيها المغفل» و«ذات مرّة في الغرب» و«ذات مرّة في أميركا». لكن ليوني سيستمر في توسيع بؤرته واستيحاء مصادره من السينما الأميركية ومزجها برؤيته السوريالية.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».