كيف غطى الإعلام اضطرابات فيرغسون؟

عسكر الصحافيون بالقرب من الحرس الوطني.. وامتلأ المكان بشاحنات القنوات التلفزيونية

صحون فضائية ترسل التقارير حول العالم
صحون فضائية ترسل التقارير حول العالم
TT

كيف غطى الإعلام اضطرابات فيرغسون؟

صحون فضائية ترسل التقارير حول العالم
صحون فضائية ترسل التقارير حول العالم

لم أسافر بطائرة إلى سانت لويس (ولاية ميزوري) لتغطية قمة الدول الـ20 الغنية. كانت الخارجية الأميركية سترسل خطابات إلى الصحافيين في واشنطن قبل شهرين تقريبا، مع معلومات عن القمة، وإرشادات حول السفر، والفنادق. واقتراح فندق معين يُخصص للصحافيين، حتى يسهل حضورهم المؤتمرات الصحافية. ومعلومات عن كل صحافي، لمنحة بطاقة صحافية.
ولم أسافر إلى سانت لويس، حتى لتغطية المؤتمر السنوي للأميركيين العرب. رغم أن إمكانياتهم، طبعا، أقل من إمكانيات الحكومة الأميركية، كانوا سيرسلون دعوات مسبقة، ربما قبل شهر. ويتعهدون بحجز غرف في الفندق الذي يُعقد فيه المؤتمر. ويؤثر عليهم كرم العرب، ويصرفون بطاقات غذاء أو عشاء مجانية. جئت إلى هنا لتغطية اضطرابات واشتباكات عنصرية بين سكان ضاحية فيرغسون (الأغلبية الهائلة سوداء)، وشرطة المدينة (الأغلبية الهائلة بيضاء). وقبل ذلك، شاهدت مشاهد من الاضطرابات في التلفزيون جعلتني أحس، وكأنها حرب. بسبب صور الدبابات والمصفحات، وصور الشرطة، تحول كل شرطي إلى جندي؛ يحمل بندقية أوتوماتيكية عملاقة، ويرتدي ملابس القتال، ويضع على رأسه قبعة فيها جهاز اتصالات لاسلكي، ويضع على عينيه نظارة للرؤية في الظلام.

* صور تُذكّر باحتلال العراق وأفغانستان
* وجاي نيكسون، حاكم ولاية ميزوري، نفسه، قال: «تشبه فيرغسون منطقة حرب».
بحثت في خريطة «غوغل» عن فندق في فيرغسون (قريب، أو ربما ليس قريبا جدا، من مكان الاضطرابات).
لكن فوجئت بأنه لا يوجد أي فندق. رغم أن هذه ليست ضاحية صغيرة من ضواحي سانت لويس، بل هي مدينة، سكانها 20 ألف شخص تقريبا؛ لا فندق كبير (مثل «هيلتون»). ولا فندق صغير (مثل «دايز إن»).
لحسن الحظ، تقع فيرغسون قرب مطار سانت لويس، حيث توجد فنادق كثيرة، كبيرة وصغيرة. حسب خريطة «غوغل»، أقرب فندق إلى فيرغسون هو «هيلتون المطار». لكن، قال موظف الحجز إنه ملآن، بسبب أعداد كبيرة من الصحافيين من مختلف أنحاء العالم. واقترح فندقا آخر على مسافة 15 ميلا (20 كيلومترا تقريبا).
وصلت ليلا، وفي الصباح، سألت عن مكان الاضطرابات. لكن، طبعا، ليست الاضطرابات في خريطة «غوغل»، أو في أي خريطة، أو في عنوان معين يعرفه موظفو الفندق. وكنت شاهدت في التلفزيون صحافيين يتجمعون في مطعم «ماكدونالد» للساندويتشات، وحسب موقع «ماكدونالد» في الإنترنت، فإن له ثمانية مطاعم في فيرغسون.
حتى سائق التاكسي قال إنه ليس متأكدا. وزاد المشكلة عندما قال: «ليست المظاهرات في شارع واحد. لا يوجد شارع اسمه شارع المظاهرات. إنها في شوارع كثيرة. تتجمع في مكان، وعندما تواجهها الشرطة، تنتقل إلى مكان آخر». مشكلة ثالثة؛ كان الوقت صباحا. ولا يتظاهر الناس في الصباح، لأنهم متعبون من مظاهرات الليلة الماضية.
لحسن الحظ، شاهدنا في شارع محطة الوقود التي كان أحرقها المتظاهرون، وكنت شاهدتها في التلفزيون. ربما أقرب مطعم «ماكدونالد» من محطة الوقود هو «ماكدونالد الصحافيين»، بالإضافة إلى وجود عربة تلفزيون خارج المطعم. لكن كان عدد الصحافيين قليلا جدا، وكانوا يتناولون الإفطار، يتضح أنهم صحافيون من ملابسهم، وكومبيوتراتهم، وكاميراتهم. ومن الواضح أنهم متعبون من الليلة الماضية. في زاوية، جلس ثلاثة صحافيين ألمان، تحدث معي واحد منهم بالإنجليزية بلكنة ألمانية واضحة، وفي اقتضاب، قال واحد منهم إن المظاهرات لا تخرج أثناء النهار بسبب حرارة الجو.
ولحسن الحظ، مرة أخرى، كان هناك متجر خمور قريب، عليه آثار نهب، وتحرسه شرطة. كان الشرطي ودودا (ربما لمواجهة تقارير صحافية بأن الشرطة اعتقلت صحافيين، منهم صحافي في «واشنطن بوست»، مما جعلها تنتقد الشرطة، وكأنها تشكوهم للرئيس أوباما).
قال الشرطي، وقد زاد الغموض: «الآن، توجد ثلاثة جهات أمنية في فيرغسون؛ الحرس الوطني، وشرطة هاي واي باترول (شرطة الطرق البرية)، وشرطة المدينة». سألت: «أيهما أقرب؟». قال: «الحرس الوطني. في ميدان تارغيت، على هذا الشارع، بعد أميال قليلة».
هذه أكبر منطقة تجارية في فيرغسون (رغم أنها ليست كبيرة جدا). وفيها متجر «تارغيت»، ويُعد من المتاجر «الراقية». ربما عسكر الحرس الوطني هنا لحمايته، لأن أغلبية الذين في داخله من البيض.
لحسن الحظ، مرة أخرى، فكر صحافيون كثيرون مثل هذا التفكير. وعسكروا بالقرب من الحرس الوطني. وامتلأ المكان بشاحنات القنوات التلفزيونية، وارتفعت إلى السماء صحون الإرسال إلى الأقمار الفضائية؛ «إن بي سي» و«سي بي إس» و«سي إن إن»، وتلفزيونات محلية (واحد باللغة الإسبانية).
لكن، مثلما قال الصحافي الألماني، لا توجد مظاهرات بالنهار. لهذا، امتلأ المكان بكاميرات متجهة نحو الحرس الوطني، وعسكر كل فريق تحت خيمة، وانشغلوا بالفطور والقهوة والشاي.

* البحث عن صحافيين
* إذن لا يذهب الصحافيون إلى مكان المظاهرات، يذهب المتظاهرون إلى مكان الصحافيين. لهذا، بدأ أناس يأتون إلى «صحافيي تارغيت» ليتحدثوا؛ جاءت امرأتان سوداوان عضوتان في كونغرس ولاية ميزوري، وجاء أستاذ جامعة متخصص في موضوع الأقليات، وقدم نفسه على أنه «خبير».
وجاء صاحب موقع في الإنترنت اسمه «لو أند أوردر» (القانون والنظام). طبعا، لم يقل إنه يؤيد قتل الشرطي ويلسون للصبي الأسود براون، لكن قال: إن الشرطة يجب أن لا تتساهل مع الذين يخرقون القانون.
وجاءت نسوة بيضاوات يحملن لافتات عن موضوع «القانون والنظام»، وقلن إنهن من جناح «حزب الشاي» التابع للحزب الجمهوري، وهو الجناح الذي ظل يقود حملة قوية ضد أوباما، منذ أن أصبح رئيسا. وكأنهم لا يريدون رئيسا أسود لأميركا (رغم أنهم، طبعا، لا يقولون ذلك، علنا، على الأقل).
وجاء رجل أمن من متجر «تارغيت»، وقال إنه يريد أن يقول للإعلاميين إن «تارغيت» توفر الأمن الكافي لزبائنها؛ لم يتحدث عن أبيض أو أسود. وصار واضحا أنه كان يريد تقديم دعاية تجارية باسم المحافظة على الأمن.
مضى النهار بطيئا، وارتفعت حرارة الشمس، وأحس الصحافيون بالملل، وبدأوا يجرون مقابلات صحافية مع بعضهم بعضا؛ تجولت كاميرا تلفزيون «سي بي إس» بين صحافيين يجلسون تحت خيام، وسألني مراسل صحيفة من أستراليا إذا كنت أريد الحديث عن ردود فعل اضطرابات فيرغسون في الدول العربية والأفريقية. وطلب صحافي يتكلم اللغة الإسبانية مترجما يساعده في مقابلات مع صحافيين أميركيين.
وصار واضحا أن صحافي أميركا اللاتينية أراد معرفة وضع الأقلية اللاتينية في الولايات المتحدة (حسب آخر إحصاء للسكان، تفوقت الأقلية اللاتينية على السود في عدد السكان).
وحاول صحافي من الدنمارك معرفة التعقيدات العنصرية في تاريخ الولايات المتحدة. وقال مندوب إذاعة «بان أفريكان» (كل أفريقيا) إن الأفريقيين «يعطفون كثيرا على إخوانهم وأخواتهم الأميركيين».
وركزت شبكة تلفزيون أسترالية على رأي الصحافيين الأميركيين البيض في هذه الاشتباكات العنصرية.

* شرطة فيرغسون
* في منتصف النهار، ذهبت مع مجموعة من الصحافيين إلى مركز شرطة فيرغسون. كنا نحاول مقابلة قائد الشرطة، بعد أن قال جنود في الحرس الوطني (الذي يعسكر في «تارغيت الصحافيين») إنهم لا يتحدثون للصحافيين، ولأن شرطة فيرغسون لم تعد تراقب مباشرة المتظاهرين (بعد اتهامات بالتفرقة العنصرية)، اعتقدنا أن قائدها يمكن أن يكون غير مشغول، وبإمكانه الحديث للصحافيين. هذا هو قلب ضاحية فيرغسون؛ مركز الشرطة، مركز الإطفاء، البريد.. إلخ. لهذا، كانت هناك حراسة مشددة.
أولا: بسبب المتظاهرين الذين ظلوا يعسكرون هناك، ويحملون لافتات، ويرددون هتافات معادية للشرطة. وعندما زادت حرارة الجو، تجمعوا تحت ظلال الأشجار القريبة.
ثانيا: لأن كثيرا من السود والسوداوات كنّ في المكان، لدفع غرامات عن مخالفات مرورية، أو لدفع غرامات كجزء من محاكمات، أو لترتيب مثولهم أمام محاكم.
بالنسبة للصحافيين، كانت هذه فرصة للسؤال عن جانب آخر من جوانب هذه المشكلة العنصرية في فيرغسون (وفي كل أميركا)؛ سيطرة البيض، ليس فقط على الأمن في الشوارع، ولكن، أيضا، على المعاملات المكتبية. قالت سوداء تبدو بائسة وفقيرة، وتحمل في يدها بضع دولارات: «قالت لي تلك البيضاء إنني سأعود إلى السجن إذا لم أدفع قسط الغرامة الشهرية. يقسطونها على شهور. أحيانا أجمعها كلها، وأحيانا لا أقدر».
كانت «تلك البيضاء» شقراء كبيرة الجسم، وبدت عملاقة أمام السوداء صغيرة الحجم، التي بدأت تبكي بعد أن أنذرتها البيضاء. عندما بدا صاحب كاميرا تلفزيونية يصور ذلك، منعته الشقراء. وأشارت إلى لافتة تقول: «ممنوع التصوير والحديث بالهاتف الجوال».

* المتظاهرون
* طبعا، وجد الصحافيون فرصا أكثر وسط المتظاهرين أمام مركز الشرطة؛ صور فريق تلفزيوني ألماني المتظاهرين، ولافتاتهم، ومتطوعين أحضروا أكياسا من زجاجات الماء، وصناديق من البيتزا، وكعكا.
من بين المتطوعين بيض اهتم بهم التلفزيون الألماني. وكان هؤلاء فخورين بأنهم تطوعوا، وقالوا إن الموضوع بالنسبة لهم ليس أبيض أو أسود. لكن الموضوع عدل أو ظلم.
وكان هناك محامٍ (قال إنه درس اللغة العربية في الأردن) يرفع لافتة تدعو لاعتقال الشرطي الذي قتل الصبي الأسود.
وكانت هناك سيدة بيضاء، مع ابنتها، تحت ظل شجرة صغيرة، والأم ترفع لافتة فيها: «نسكن في فيرغسون، وأريد الأمن لي ولابنتي هذه».
وجاءت إلى شاحنة تابعة لتلفزيون «سي إن إن» ليجروا معها مقابلة. هذه ثالث شاحنة تابعة لتلفزيون «سي إن إن» في المنطقة. ويبدو أنها أكثر الشبكات التلفزيونية تغطية للاضطرابات. كاميراتها تبدو في كل مكان.
بعد غروب الشمس، فرح الصحافيون عندما زادت أعداد المتظاهرين. لكن، لم تكن المظاهرات منتظمة؛ هل هي في منطقة «تارغيت»؟ في منطقة «ماكدونالد الصحافيين»؟ في منطقة نادي «نوروود» شبه الأرستقراطي؟ أمام كلية «سانت لويس»؟ في شارع فيرغسون؟ في شارع فلورسانت؟
أولا: لم تكن التغطية الصحافية منتظمة، لغياب مشرف عليها.
ثانيا: لم يكن المتظاهرون يعلنون مسبقا أين سيتظاهرون.
ثالثا: كانت هناك لعبة «القط والفأر» بين المتظاهرين والشرطة.
لهذا، صارت التغطية الصحافية تعتمد على حظ كل صحافي، وعلى قدرته على جمع معلومات عن مكان المظاهرات، وحجمها. وهل تستحق التنقل من مكان إلى آخر؟
في تلك الليلة، كان حظ الصحافيين سيئا، لأن مطرا غزيرا بدأ ينزل. لكن، كان ذلك لحسن حظ الشرطة، وقال الكابتن جونسون (في مؤتمر صحافي في منتصف الليل): «ساعدنا المطر».



رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
TT

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)

في ظل صراعات وحروب إقليمية متصاعدة وتطورات ميدانية متسارعة، لعب الإعلام أدواراً عدة، سبقت في بعض الأحيان مهمات القوات العسكرية على الأرض؛ ما ألقى بظلال كثيفة على وسائل الإعلام الدولية. تزامن ذلك مع زيادة الاعتماد على «المؤثرين» ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار؛ ما دفع رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، نهى النحاس، إلى التحذير من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار.

وفي حوارها مع «الشرق الأوسط»، عدّت نهى دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار «خطأً مهنياً»، وقالت إن «صُناع المحتوى و(المؤثرين) على منصات التواصل الاجتماعي يقدمون مواد دون التزام بمعايير مهنية. ودمجهم في غرف الأخبار كارثة مهنية».

وأشار تقرير نشره «معهد رويترز لدراسات الصحافة»، أخيراً، إلى «نمو في الاعتماد على مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار». ومع هذا النمو باتت هناك مطالبات بإدماج صناع المحتوى في غرف الأخبار. لكن نهى تؤكد أن الحل ليس بدمج المؤثرين، وتقول: «يمكن تدريب الصحافيين على إنتاج أنواع من المحتوى تجذب الأجيال الجديدة، لكن يجب أن يكون صانع المحتوى الإعلامي صحافياً يمتلك الأدوات والمعايير المهنية».

وتعد نهى «الإعلام المؤسسي أحد أبرز ضحايا الحروب الأخيرة»، وتقول إن «الإعلام استُخدم باحة خلفية للصراع، وفي بعض الأحيان تَقدمَ القوات العسكرية، وأدى مهمات في الحروب الأخيرة، بدءاً من الحرب الروسية - الأوكرانية وصولاً إلى حرب غزة».

وتبدي نهى دهشتها من الأدوار التي لعبها الإعلام في الصراعات الأخيرة بعد «سنوات طويلة من تراكم النقاشات المهنية ورسوخ القيم والمبادئ التحريرية».

وتاريخياً، لعب الإعلام دوراً في تغطية الحروب والنزاعات، وهو دور وثّقته دراسات عدة، لكنه في الحروب الأخيرة «أصبح عنصراً فاعلاً في الحرب؛ ما جعله يدفع الثمن مرتين؛ أمام جمهوره وأمام الصحافيين العاملين به»، بحسب نهى التي تشير إلى «قتل واغتيال عدد كبير من الصحافيين، واستهداف مقرات عملهم في مناطق الصراع دون محاسبة للمسؤول عن ذلك، في سابقة لم تحدث تاريخياً، وتثبت عدم وجود إرادة دولية للدفاع عن الصحافيين».

وتقول نهى: «على الجانب الآخر، أدت ممارسات مؤسسات إعلامية دولية، كانت تعد نماذج في المهنية، إلى زعزعة الثقة في استقلالية الإعلام»، مشيرة إلى أن «دور الإعلام في الحروب والصراعات هو الإخبار ونقل معاناة المدنيين بحيادية قدر المستطاع، لا أن يصبح جزءاً من الحرب وينحاز لأحد طرفيها».

نهى النحاس

وترفض نهى «الصحافة المرافقة للقوات العسكرية»، وتعدها «صحافة مطعوناً في صدقيتها»، موضحة أن «الصحافي أو الإعلامي المرافق للقوات ينظر للمعركة بعين القوات العسكرية التي يرافقها؛ ما يعني أنه منحاز لأحد طرفَي الصراع». وتقول: «عندما ينخرط الصحافي مع جبهة من الجبهات لا يعود قادراً على نقل الحقائق».

وضعت الحروب الأخيرة الصحافيين في غرف الأخبار «أمام واقع جديد جعل أصواتهم غير مسموعة في مؤسساتهم، في بعض الأحيان»، وتوضح نهى ضاربة المثل بالرسالة المفتوحة التي وقّعها عدد من الصحافيين في صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأميركية ضد تغطية حرب غزة وتجاهل قتل عدد كبير من الصحافيين، والتي أدت في النهاية إلى إيقافهم عن تغطية حرب غزة.

زعزعت الانحيازات الإعلامية في التغطية، الثقة في استقلالية الإعلام، وأفقدت مؤسسات إعلامية كبرى مصداقيتها، بعد أن كانت حتى وقت قريب نماذج للالتزام بالمعايير المهنية. ورغم ما فقدته مؤسسات الإعلام الدولية من رصيد لدى الجمهور، لا تتوقع نهى أن «تقدم على تغيير سياستها؛ لأن ما حدث ليس مجرد خطأ مهني، بل أمر مرتبط بتشابك مصالح معقد في التمويل والملكية». ولفتت إلى أن «الحروب عطّلت مشروعات التطوير في غرف الأخبار، وأرهقت الصحافيين نفسياً ومهنياً».

وترى أن تراجع الثقة في نماذج الإعلام الدولية، يستدعي العمل على بناء مدارس إعلامية محلية تعكس الواقع في المجتمعات العربية، مشيرة إلى وجود مدارس صحافية مميزة في مصر ولبنان ودول الخليج لا بد من العمل على تطويرها وترسيخها بعيداً عن الاعتماد على استلهام الأفكار من نماذج غربية.

بناء تلك المدارس الإعلامية ليس بالأمر السهل؛ فهو بحسب نهى «يحتاج إلى نقاش وجهد كبير في التعليم وبناء الكوادر وترسيخ الإيمان بالإعلام المستقل». وهنا تؤكد أن «استقلالية الإعلام لا تعني بالضرورة تمويله من جهات مستقلة، بل أن تكون إدارته التحريرية مستقلة عن التمويل قدر الإمكان»، مشددة على أن «التمويل العام لوسائل الإعلام مهم ومرحّب به، لا سيما في لحظات الاستقطاب السياسي؛ حتى لا يلعب المال السياسي دوراً في تخريب مصداقية المؤسسة».

غيّرت الحروب غرف الأخبار وألقت بظلالها على طريقة عملها، لتعيد النقاشات الإعلامية إلى «الأسس والمعايير والأخلاقيات»، تزامناً مع تطورات تكنولوجية متسارعة، ترى نهى أنها «ضرورية لكن كأدوات لإيصال الرسالة الإعلامية بفاعلية».

من هذا المنطلق، ترفض نهى التوسع في مناقشة قضايا الذكاء الاصطناعي على حساب القضايا المهنية، وتقول: «نحتاج إلى إعادة تثبيت وترسيخ القواعد المهنية، ومن ثم الاهتمام بالأدوات التي تسهل وتطور الأداء، ومن بينها الذكاء الاصطناعي الذي لا يمكن إنكار أهميته».

وتضيف: «إذا كان الأساس به خلل، فإن الأداة لن تعالجه؛ لذلك لا بد من مناقشات في غرف الأخبار حول الأسس المهنية لاستعادة الجمهور الذي انصرف عن الأخبار».

وبالفعل، تشير دراسات عدة إلى تراجع الاهتمام بالأخبار بشكل مطرد، تزامناً مع تراجع الثقة في الإعلام منذ جائحة «كوفيد-19»، وتزايد ذلك مع الحرب الروسية - الأوكرانية. ووفقاً لمعهد «رويترز لدراسات الصحافة»، فإن «نحو 39 في المائة من الجمهور أصبحوا يتجنبون الأخبار».

وهنا تقول نهى إن «الثقة تتراجع في الإعلام بشكل مطرد؛ لأن الجمهور يشعر أن صوته لم يعد مسموعاً، إضافة إلى تشبع نسبة كبيرة من الجمهور بأخبار الحرب، إلى حد مطالبة البعض بنشر أخبار إيجابية». وتضيف أن «هذا التراجع امتزج مع صعود منصات التواصل التي أصبحت يُخلط بينها وبين الإعلام المؤسسي، لا سيما مع ما قدمته من متابعات للحروب والصراعات الأخيرة».

وتشير رئيسة «منتدى مصر للإعلام» إلى أن «الحروب الأخيرة في أوكرانيا وغزة وضعت أعباء مالية، وفرضت محتوى مختلفاً على المؤسسات الإعلامية أدى إلى زيادة تجنب الجمهور للأخبار»، بحسب ما جاء في دراسة نشرها معهد «رويترز لدراسات الصحافة»؛ ما يستلزم البحث عن وسائل لإعادة جذبه، أو لـ«غرفة أخبار ثالثة» كما فعلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، مستهدفة «جذب مزيد من القراء وزيادة الموارد».

وتستهدف «غرفة الأخبار الثالثة» إنشاء محتوى خاص لمنصات التواصل الاجتماعي، ومقاطع فيديو قصيرة تتناول موضوعات متنوعة لجذب الأجيال المرتبطة بالهواتف الذكية.

ويعد التدريب واحداً من أدوار المنتديات الإعلامية، ومن بينها «منتدى مصر للإعلام». وأوضحت نهى، في هذا المجال، أن «المنتديات الإعلامية هي تعبير عن الواقع الإعلامي لدولةٍ أو منطقةٍ ما، ونقطة تلاقٍ لمناقشة قضايا ومعارف مهنية، وملاحقة التطورات التكنولوجية».

وكان من المقرر عقد النسخة الثالثة من «منتدى مصر للإعلام» نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكن تم تأجيلها «بسبب الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة والتي كانت ستؤثر على حضور بعض ضيوف (المنتدى)»، بحسب نهى التي تشير إلى أنه «سيتم عقد النسخة الثالثة من (المنتدى) منتصف 2025».

وتوضح أنه «يجري حالياً مراجعة أجندة (المنتدى) وتحديثها وتغييرها استعداداً للإعلان عنها في الربع الأول من العام المقبل»، مشيرة إلى أنه لم يتم الاستقرار بعدُ على عنوان النسخة الثالثة، وإن كان هناك احتمال للإبقاء على عنوان النسخة المؤجلة «يمين قليلاً... يسار قليلاً!».

وتقول نهى إن «منتدى مصر للإعلام» سيركز كعادته على المناقشات المهنية والتدريبات العملية، لا سيما «منصة سنة أولى صحافة» المخصصة لتقديم ورش تدريبية لطلاب الإعلام تتناول الأساسيات والمعايير المهنية.

وتختتم حديثها بالتأكيد على أن الالتزام بالمعايير المهنية هو الأساس لبقاء الإعلام المؤسسي، مجددة الدعوة لفتح نقاشات جادة بشأن مأسسة نماذج إعلام محلية في المنطقة العربية.