رؤية مختلفة للندن عبر «وحوش» وحيوانات عبرت في تاريخها

متحف المدينة يقدم عرضاً عائلياً بامتياز مستعيناً بالدراما والبصريات الممتعة

تجسيد لمحل الصيدلاني في القرن السابع عشر
تجسيد لمحل الصيدلاني في القرن السابع عشر
TT

رؤية مختلفة للندن عبر «وحوش» وحيوانات عبرت في تاريخها

تجسيد لمحل الصيدلاني في القرن السابع عشر
تجسيد لمحل الصيدلاني في القرن السابع عشر

درج «ميوزيام أوف لندن» بوسط العاصمة البريطانية على تنظيم المعارض والفعاليات المختلفة التي تدور حول العاصمة تحديدا وحول الشخصيات المرتبطة بها، ويأتي معرضه الجديد «الحيوانات في لندن» ليستمر في نفس الخط ولكن بطريقة مختلفة قليلة عن المعتاد. فالمعرض وحسب اسمه يدور حول الحيوانات المختلفة التي عاشت في العاصمة البريطانية في مختلف العصور، والجديد هنا هو أن التاريخ يعرض من خلال وجهة نظر هذه الحيوانات ومن خلال قصصها المختلفة والتي نراها مدعمة بالمادة التاريخية الموثقة.
يجب القول بأن المعرض يتجه للعائلة وللصغار عموما، وإن كان هناك تأكيد على أن لا يقل سن الأطفال الحاضرين عن 7 سنوات.
وفي موقع المتحف بالقرب من بقايا الجدار الروماني الذي أحاط بلندن قديما، نبدأ الرحلة مع «وحوش» وحيوانات عبرت في تاريخ لندن.
وعبر تسع حكايات وتسع غرف وتسعة حيوانات يقدم المتحف عرضا متحفيا وتفاعليا جذابا يدعمه بقطع تاريخية من مجموعة المتحف. وبالتعاون مع مدرسة «غيلدهول للدراما والموسيقى» حول المنسقون العرض المتحفي إلى عرض تفاعلي موسيقي وبصري بالدرجة الأولى. في كل حكاية من الحكايات التسع نعرف جانبا من تاريخ لندن الاجتماعي.
ندلف للعرض عبر مساحة من العشب الصناعي ومنها لممر خافت الإضاءة تعرض على جوانبه لقطات متحركة لحيوانات مختلفة، كل منها ينطق بصوت فنان شهير وهو ما يجعل تلك الشخصيات أقرب للزائر.
القصة الأولى تدور حول الحيوانات التي وجدت على هذه البقعة من الأرض قبل أن تصبح لندن، منها الأسود والدببة وفيل الماموث المنقرض، واستمر وجودها لآلاف السنين حتى غير قدوم الإنسان الوضع للأبد، فاتخذ مساكنه حيث كانت الحيوانات تعيش بحرية واتخذ منها طعاما ودواب. ومن القطع التاريخية المرتبطة بتلك الفترة يقدم المعرض جزأ من فك الماموث يعود لفترة ما قبل التاريخ وعثر عليه في برنتفورد غرب لندن.
فرانسيس مارشال قيمة بالمتحف قالت: «الحيوانات في لندن هو أول معرض «غامر» يقدمه «ميوزيام أوف لندن»، يعد رحلة مدهشة وخلاقة ومبدعة بصريا كما أنها تثير العواطف وتشجع الزوار على النظر للحيوانات بشكل جديد وأيضا على رؤية تاريخ المدينة من منظور مختلف. المعرض نتاج أبحاث مركزة وخيال بلا حدود من فريق العمل بالمتحف بالتعاون مع فريق مدرسة غيلدهول للموسيقى والدراما وهو ما سيجذب أطيافا مختلفة من الجمهور». وبدوره قال دان شورتن المدير الإبداعي للمعرض ومسؤول تقنيات الفيديو في مدرسة غيلدهول: كان أمرا ممتعا أن نتعاون مع «ميوزيام أوف لندن» لنخرج قصص الحيوانات المختلفة في شوارع لندن عبر مراحل تاريخية وذلك باستخدام تقنية «فيديو ما بينغ».
ما يحسب للعرض هو الشرح الصوتي للمراحل المختلفة من تاريخ العاصمة وأيضا أنه قدم بشكل درامي الحيوانات المرتبطة بكل مرحلة، واستعان العرض في سبيل ذلك بأصوات ممثلين ومؤدين معروفين للوصول للجمهور بسهولة مثل إسناد شخصية الثعلب للعارضة المعروفة كيت موس وصوت الحصان للممثل نيش كومار وغيرهم. من المرحلة الأولى قبل وجود الإنسان في لندن نعبر لمرحلة غير فيها الوجود الإنساني المعادلة، ويختار المعرض مرحلة الوجود الروماني في لندن منذ 2000 عام وإنشاء مدينة «لندينيوم» كما سماها الرومان. اختار الغزاة استخدام نقوش الحيوانات مثل الأسد والنسر على الأسلحة والفخاريات واعتبروها رموزا للقوة والشجاعة. بالنسبة للحيوانات المنزلية رعى الرومان الخنازير والأبقار والماعز واستوردوا حيوانات أخرى للأكل مثل الأرانب واستخدموا الفراء.
ويعرج العرض على جانب آخر لوجود الحيوانات في تلك الفترة وهو الترفيه في استخدام الوحوش للمصارعة في الحلبات، ونعرف أن موقع «ميوزيام أوف لندن» يقف اليوم على بقايا مسرح روماني وبقايا معبد حيث كان الرومان يقدمون قرابين من الحيوانات للآلهة. الجميل في هذه الحجرة هو العرض المرئي الذي يشغل جدران حجرة كاملة بصور محاربين رومان وأرضية من الأحجار المنقوشة. وللاستفادة من القطع الأثرية من مقتنيات الموضوع نجد جزءا من آنية فخارية تعود للعصر الروماني تحمل نقشا لشخص يقفز فوق ثور.
- بداية حدائق الحيوان
في القرون الوسطى ازدادت أعداد الحيوانات في المدينة بعضها احتفظ به في برج لندن الشهير ضمن المجموعة الملكية الخاصة والتي أضاف ملوك وملكات لاحقون لها. ومن الحكايات التاريخية أيضا نعرف أن تاجر حيوانات أقام معرضا لها في منطقة ستراند أطلق عليه اسم «إكستر اكستشانج» بالعاصمة في عام 1773. وكان الزوار الراغبون في رؤية حمار وحشي أو أسد عليهم دفع مبلغ معين لرؤيتها. ولكن المعرض الذي يعد حديقة حيوان مصغرة أغلق كما أغلقت الحديقة ببرج لندن بحلول 1830 وتم نقل الحيوانات من البرج لمكان جديد وهو «حديقة حيوان لندن» كما نعرفها الآن. العرض هنا يستخدم الأساليب المسرحية وخيال الظل لنقل صورة حية عن الحيوانات التي وجدت ببرج لندن مع أصوات ممثلين تتقمص أصوات الحيوانات المختلفة ولوحة تاريخية تصور الحيوانات في حديقة «إكستر اكستشانج» تعود لعام 1813. من العرض المرح للقاعة السابقة نمضي لجانب مظلم من تاريخ المدينة ويسرد قصة الطاعون الذي تسبب في وفاة أكثر من 100 ألف شخص في القرن السابع عشر وعبر عرض لمتجر الصيدلاني نجد صورا للعقارات وأعشاب استخدمها سكان المدينة لمحاولة تفادي الوباء ولكن هنا أيضا ما يربط تلك المرحلة بالحيوانات حيث تسببت الفئران والبراغيث في نقل البكتيريا القاتلة.
- أعظم عرض على الأرض
استخدام الحيوانات للترفيه كان وسيلة لقضاء الوقت والترفيه لسكان المدينة فمن مصارعة الديوك إلى استخدام الكلاب لقتل الفئران في حلبات يحضرها الجمهور، تطورت تلك الفعاليات لتدخل في عرض ترفيهي أكبر وأكثر تقدما عبر السيرك. ونعرف أن أول سيرك أقيم في لندن افتتحه فيليب أستلي في عام 1768 وكان في الأصل مدرسة للفروسية ولكن الأحصنة كانت مدربة لعرض الحيل واستخدمها لاعبو الأكروبات لتقديم عروضهم وسرعان ما انضمت الحيوانات المستوردة مثل الأسود والأفيال، والعرض هنا يحول حجرة لخيمة سيرك ملونة وعرض بصري يستخدم رسومات من ملصقات دعاية للسيرك.
- عصر الحصان
من أجمل القاعات في المعرض تلك التي تعرض لنا حضور الحصان في الحياة اليومية للعاصمة، تتحول الحجرة لعرض بصري مستمر عن الأحصنة، من استخدامها كوسيلة للنقل والسفر إلى استخدامها في الشرطة ثم لاستخدامها في الملاهي. وعبر مقاعد صغيرة على هيئة الأحصنة من تلك التي تستخدم في حدائق الملاهي ومقاعد عربات تجرها الأحصنة وضعت ليجلس عليها زوار العرض، نجد أنفسنا في عرض غامر ممتع يستخدم الصوت والتعليق والألوان واللقطات السينمائية في تناغم ممتع. وينال الحمام الزاجل نصيبه من العرض أيضا فمن استخدامه في المراسلات أثناء الحروب العالمية إلى وجوده في معالم سياحية مثل ترافالغار سكوير حيث اعتاد السياح إطعامه، ثم نفيه عن تلك المنطقة. المعرض ممتع ومليء بالمعلومات والقطع الأثرية وأيضا الرسومات والعروض البصرية التي تحتوي الزائر وتدخله في أجواء مختلفة من حلبة المصارعة الرومانية لحانة صاخبة في العصر الفيكتوري حيث نرى حلبة لصراع الفئران ونسمع صيحات المشجعين وتحت خيمة السيرك حيث يعلو صوت مدرب الفيلة.


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)