«لذة الحياة»... مهرجان للطعام يجمع 6 طهاة عالميين على نيل القاهرة

الأول من نوعه في شمال أفريقيا

الشّيف الإيطالي جياني مالاو خلال إحدى فعاليات مهرجان «لذة الحياة»
الشّيف الإيطالي جياني مالاو خلال إحدى فعاليات مهرجان «لذة الحياة»
TT

«لذة الحياة»... مهرجان للطعام يجمع 6 طهاة عالميين على نيل القاهرة

الشّيف الإيطالي جياني مالاو خلال إحدى فعاليات مهرجان «لذة الحياة»
الشّيف الإيطالي جياني مالاو خلال إحدى فعاليات مهرجان «لذة الحياة»

لكل مطبخ عالمي سماته، وكذلك أطباقه التي تميزه عن غيره وتجتذب الزوار الأجانب إليها إذا حلّوا ضيوفاً على هذا البلد الذي يُنسب إليه المطبخ. لكن ماذا إذا اجتمعت مأكولات خمسة مطابخ عالمية تحت سقف واحد، وأُعدت بأيدي طهاة مهرة؟! هذا بالفعل ما شهدته العاصمة المصرية القاهرة خلال الأيام الأولى من شهر أبريل (نيسان) الجاري، مع تنظيم مهرجان «لذة الحياة The Good Life»، الذي شهد حضور ستة طهاة عالميين إلى مصر بخبراتهم الرّاقية في الطّهي، لخلق احتفالية للاستمتاع بالطّعام الجيد، ولتدشين تجربة تلبّي رغبات عشاق المذاق من المصريين وزائري القاهرة على حدٍّ سواء.
حمل الطهاة في جعبتهم الكثير من المذاقات والنكهات والثّقافات، وهم: الإيطالي جياني مالاو الشيف التنفيذي لفندق «رومازينو لاكشري كوليكشن» في كوستا سميرالدا، والكندي إريك ميلوش مدير المأكولات والمشروبات في فندق «قصر البستان» أحد فنادق «ريتز كارلتون» في مسقط، والشّيف الإسباني جيسوس كاباليرو الشيف التنفيذي في فندق «ماريا كريستينا» أحد فنادق «لاكشري كوليكشِن» في سان سيباستيان، والتركي أوزجور أوستين الشيف التنفيذي لـ«سانت ريجيس إسطنبول»، بالإضافة إلى شيفي فندق «النيل ريتز - كارلتون القاهرة»، المُنظِّم للمهرجان، وهما التركي بوجرا كيليس الشيف التنفيذي للفندق، والفرنسي جون فرنسوا لافيل، الشيف التنفيذي للحلويات.
«يعدّ المهرجان الحدث الأول من نوعه في شمال أفريقيا، ويهدف إلى ترسيخ مفهوم جديد لفن الطّهي باجتماع الشيفات الستة»، هكذا تحدّث جو عياد، المدير العام لفندق «النيل ريتز - كارلتون القاهرة»، لافتاً إلى أنّ «هؤلاء الطّهاة هم أساتذة حقيقيون لفن الطّهي من جميع أنحاء العالم، حضروا لعرض مواهبهم وتقديم ما لديهم من روائع الطهي».
وعن فكرة المهرجان، أضاف لـ«الشرق الأوسط»: «أردنا أن نقيم احتفالاً بالمأكولات في جميع أنحاء العالم، وعرض أساليب الطهي والأذواق والنكهات المتنوعة، وثقافات الطّعام المختلفة عبر عرض نماذج لأعمال الطّهاة خلال حدث يستمر لمدة خمسة أيام ويُقدّم في جو حميم وجذاب، إلى جانب تقديم الطّهاة العالميين دروساً في الطّهي، وبالتالي خلق حالة من رفع المستوى».
ويكشف المدير العام للفندق أنّ المهرجان مخطّط له أن ينظَّم مرتين في العام، موضحاً أنّ من أهدافه شِقاً يتعلّق بالدّعاية لمصر عبر وجود هؤلاء الطّهاة، وتسويق القاهرة لدى الفنادق القادمين منها، وفي المقابل هناك تخطيط لمشاركة طهاة مصريين في عواصم مختلفة لتقديم المطبخ المصري.
ومن الطّهاة المشاركين يقول الإيطالي جياني مالاو، لـ«الشرق الأوسط»: «خلال المهرجان قدمت أطباق مطبخ جزيرة سردينيا الإيطالية التي أنتمي إليها، وهو مطبخ يتّسم بالكلاسيكية، ويعتمد بجانب مأكولات المطبخ الإيطالي الشّهيرة على اللحوم، وأطباق الأسماك والمأكولات البحرية، كما قدمت أنواعاً مختلفة من الباستا بشكل مختلف، مثل رافيولي المحشوة بالجبن، ونيوكي مع البطاطس، وكانيلوني بحشوات متعددة ومختلفة».
وحول انطباعه عن المطبخ المصري، يرى مالاو أنّ هناك تقارباً بينه وبين مطبخ بلاده، كونهما ينتميان إلى مطبخ البحر المتوسط، وبالتالي نفس الأفكار في الطّهي وحب الطّعام، لافتاً إلى أنّه لم يجد صعوبة في عرض أطباقه أو شرح المفاهيم العصرية والتقاليد الكلاسيكية للمطبخ الإيطالي.
أمّا الطّاهي الإسباني جيسوس كاباليرو، فقدّم لجمهور المهرجان الجمبري البانيه المقرمش على الطّريقة الإسبانية، موضحاً أنّ مطبخ بلاده يعتمد على المأكولات البحرية، بسبب أطول ساحل بحري بين دول أوروبا على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، مشيراً إلى أنّها المرة الأولى التي يتعرّف فيها على المطبخ المصري خاصة والعربي عامة من خلال المهرجان، على الرّغم من أنّ المطبخ الإسباني تأثر كثيراً بالمطبخ العربي خلال الحقبة الأندلسية.
كذلك، حاول الطاهي التركي أوزجور أوستين، إعادة المصريين إلى مذاقات الزمن العثماني، وفتح شهية زوار المهرجان عبر أشهر الأكلات التركية، لا سيما الكباب التركي المسمى «دونر كباب» بخلطته من البهارات التركية. وحسبه، فقد استساغ المصريون طعامه لأن المطبخ التركي بشكل عام يتوافق مع المطبخ العربي، ويتقاطعان في الكثير من الأطباق والتقاليد المرتبطة بالطعام.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)