ألوان على المتاريس... عودة الحياة إلى شوارع سيناء بلمسات فنية

استعداداً لاحتفال المحافظة بعيدها القومي

رسومات متنوعة على أسوار المدارس (الشرق الأوسط)
رسومات متنوعة على أسوار المدارس (الشرق الأوسط)
TT

ألوان على المتاريس... عودة الحياة إلى شوارع سيناء بلمسات فنية

رسومات متنوعة على أسوار المدارس (الشرق الأوسط)
رسومات متنوعة على أسوار المدارس (الشرق الأوسط)

في محاولة منهم لعبور الأزمات الحياتية، وليالي الشتاء المظلمة الباردة، شرع طلاب ومعلمو مدارس تربية فنية في مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء (جنوب مصر)، في بعث البهجة بنفوس الأهالي، من خلال رسمهم أشكالاً ورسومات متنوعة تتميز بألوان فاقعة تسر النّاظرين، تعوض معاناة الأيام الصّعبة التي مرّت عليهم بسبب العمليات الإرهابية في المنطقة.
محمد سليمان حسن، من أبناء مدينة العريش المصرية، أبدى إعجابه الشّديد بالألوان المبهجة على الحواجز الخرسانية التي يجتازها يومياً مترجلاً، لمسافة تزيد عن 1500 متر، من منزله في حي ضاحية السّلام، وصولاً لمقر عمله في منطقة الريسة.
يقول سليمان لـ«الشرق الأوسط»: إنّ «رسم أشكال مميزة على متاريس أمنية في نطاق ديوان محافظة شمال سيناء، وحتى مقر النّصب التذكاري للجندي المجهول، أضفى ملامح مختلفة وجيدة على هذه الأماكن التي أمر منها يومياً». وأضاف: أنّ «لون جدران المنطقة والحواجز الإسمنتية الذي كان يغلب عليه اللون الأسود من فرط طلقات الرصاص والمواجهات العسكرية في الشهور السابقة، حلت مكانه رسومات متنوعة تدعو إلى السّرور ونسيان الماضي المؤلم».
وكانت مدينة العريش إحدى أكبر مدن شمال شبه جزيرة سيناء من بين المناطق التي شهدت طوال الخمس سنوات الماضية إجراءات أمنية مشدّدة بسبب تهديدات تنظيمات إرهابية، لكنّها تراجعت بشكل ملحوظ خلال الشهور الأخيرة، بفضل «العملية الشّاملة» التي نفّذتها القوات المسلحة المصرية في المحافظة لتطهيرها من الإرهاب، بعد سقوط عدد كبير من الجنود والضباط والمدنيين في عمليات إرهابية.
من جهته، قال نبيل أحمد، أحد معلمي التربية الفنية في مديرية التربية والتعليم بـ«شمال سيناء»، لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأعمال الفنية يرسمها معلمون وطلبة مدارس فنية بالعريش، بهدف تجميل المكان استعداداً لاحتفال محافظة شمال سيناء بعيدها القومي يوم 25 من شهر أبريل (نيسان) الجاري».
وأوضح نبيل أنّ الأسوار التي ترتفع لنحو متر ونصف المتر، رُسمت عليها زهور وطيور وأشكال زخرفية، بينما رُسم علم مصر بألوانه الثلاثة الأحمر والأبيض والأسود على المتاريس الإسمنتية، بجانب لون العلم المحلّي لشمال سيناء بلونه الأصفر».
بدورها قالت المهندسة ليلى مرتجى، وكيل وزارة التربية والتعليم في شمال سيناء، في تصريحات صحافية: «شاركت في هذه الأعمال، أربع مدارس فنية صناعية، وتضمّنت تجميل وتزيين أسوار حديقة حيوان العريش، ومحيط النّصب التذكاري للجندي المجهول وأسوار مدارس بمدينة العريش».
وكان اللواء عبد الفضيل شوشة، محافظ شمال سيناء، قد قال إنّ «المحافظة تستعيد هذا العام بهجة الاحتفال بعيد المحافظة القومي الذي يواكب ذكرى تحرير سيناء وجلاء الاحتلال الإسرائيلي».
وأضاف المحافظ في تصريحات صحافية أنّ «الاحتفالات كانت شبه متوقفة خلال السنوات السابقة بسبب الظّروف الأمنية، لكنّها ستعود هذا العام من جديد، وأوضح أنّ المهرجانات الشّعبية ستكون من أبرز ملامح الاحتفالات، بالإضافة إلى افتتاح مشروعات تنموية جديدة أهمّها أول افتتاح رسمي لمدينة رفح الجديدة التي تقيمها الحكومة المصرية في مركز رفح، والتي يجري تشطيبها حالياً تمهيدا ًلتسليمها لأبناء مدينة رفح الذين تركوا بيوتهم القديمة، بسبب الحرب على الإرهاب».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)