«إيبولا» سيترك آثارا على اقتصاد الدول التي انتشر فيها

رئيس البنك الأفريقي للتنمية: الوباء ليس أزمة صحية فقط بل أزمة اقتصادية

منسق الأمم المتحدة ديفيد نبارو (وسط) خلال مؤتمر صحافي في مونروفيا مع كيجي فيكودا مساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية وكارن لاندغرين الممثلة الخاصة للأمم المتحدة لشؤون ليبيريا (رويترز)
منسق الأمم المتحدة ديفيد نبارو (وسط) خلال مؤتمر صحافي في مونروفيا مع كيجي فيكودا مساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية وكارن لاندغرين الممثلة الخاصة للأمم المتحدة لشؤون ليبيريا (رويترز)
TT

«إيبولا» سيترك آثارا على اقتصاد الدول التي انتشر فيها

منسق الأمم المتحدة ديفيد نبارو (وسط) خلال مؤتمر صحافي في مونروفيا مع كيجي فيكودا مساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية وكارن لاندغرين الممثلة الخاصة للأمم المتحدة لشؤون ليبيريا (رويترز)
منسق الأمم المتحدة ديفيد نبارو (وسط) خلال مؤتمر صحافي في مونروفيا مع كيجي فيكودا مساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية وكارن لاندغرين الممثلة الخاصة للأمم المتحدة لشؤون ليبيريا (رويترز)

سيترك وباء إيبولا الذي يضرب غرب أفريقيا آثارا طويلة الأمد على الاقتصادات الضعيفة أصلا للدول التي ينتشر فيها، بعد أن تسبب في جعل أسواقها مقفرة ووقف النشاط الزراعي واضطراب العمل في المناجم وإلغاء الرحلات الجوية.
وقال رئيس البنك الأفريقي للتنمية دونالد كابيروكا الذي أعلن هذا الأسبوع إنشاء صندوق بقيمة 60 مليون دولار للدول المعنية، إن «وباء إيبولا ليس أزمة صحية عامة فقط، بل أزمة اقتصادية أيضا (...) تطال قطاعات عدة».
وحذر خبراء، كما جاء في تقرير الوكالة الفرنسية، من أن العوامل النفسية تؤثر على الاقتصاد، وخصوصا مع مع ازدياد شدة الوباء.
وأكد فيليب أوغون مدير البحث المكلف أفريقيا في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية أن «مبدأ الوقاية (من المرض) سيكون نتيجته خفضا في الإنتاج لأن اقتصادات غرب أفريقيا تعتمد كثيرا على الشركات الكبرى لتصدير منتجاتها». وأضاف أن «كل شيء مرتبط ببقاء الوضع على حاله أو استمرار انتشار المرض»، مشيرا إلى أن «الشركات الأجنبية الكبرى الموجودة في المنطقة تشعر بقلق كبير».
فقد أعلنت الشركة العالمية العملاقة لصناعة الصلب أرسيلور - ميتال في الثامن من أغسطس (آب) تعليق توسيع منجم للحديد في يكيبا ومرفأ بوكانان في ليبيريا؛ إذ إن الشركات المتعاقدة معها قامت بإجلاء موظفيها تحت بند «القوة القاهرة».
وقال أوغون إن الوباء يمكن أن «يعزز فكرة أن غينيا وسيراليون وليبيريا دول العيش فيها خطير، بسبب أمراض مثل الإيدز وإيبولا، وكذلك الاستثمار»، مشددا على إلغاء الرحلات الجوية التي أدت إلى تباطؤ المبادلات.
ولم تعد سوى ثلاث شركات طيران دولية تؤمن رحلات إلى سيراليون وخمس إلى غينيا.
وكانت وكالة موديز للتصنيف الائتماني حذرت من أن وباء إيبولا قد تنجم عنه عواقب اقتصادية ومالية واسعة على بلدان المنطقة التي تعول كثيرا على المواد الأولية وتعاني أوضاعها المالية من التبعية والهشاشة.
وذكرت الوكالة في دراسة أن «تفشي الوباء قد ينجم عنه تأثير مالي مباشر على ميزانيات الحكومات عبر زيادة النفقات الصحية».
وقال الحاج باموغو بائع الملابس في سوق ريد لايت في مونروفيا: «إنها كارثة، نخسر الكثير من المال». وأضاف أن «كل الذين يأتون للتسوق يشترون إما الطعام أو مواد للتطهير من إيبولا».
أما صالون التجميل الذي يملكه بليدي ويسي في العاصمة الليبيرية فكان يشهد ازدهارا كبيرا، خصوصا في عطلة نهاية الأسبوع. وقال ويسي: «كنت أعود إلى بيتي في الحادية عشرة ليلا في بعض الأيام، لكن منذ (إيبولا) أصبحت أغادر المحل في السادسة، وأحيانا في الخامسة بعد الظهر».
وكانت منظمة الصحة العالمية أعلنت الجمعة حصيلة جديدة تتحدث عن 1427 وفاة بالحمى النزفية التي يسببها الفيروس، بينها 624 في ليبيريا، و406 في غينيا، و392 في سيراليون، وخمس في نيجيريا، من أصل 2615 إصابة (مؤكدة ومرجحة ومشبوهة) في المجموع.
وفي غينيا التي بدأ فيها المرض، أثار التأخر في إعلان حالة الطوارئ الصحية الأسبوع الماضي بعد دول أخرى سجلت فيها إصابات، انتقادات.
وقال المسؤول النقابي أمادو سوماه إن «غينيا ستنشر قواتها على الحدود مما سيؤدي إلى نفقات إضافية»، متهما الرئيس ألفا كوندي بالإعلان في أبريل (نيسان) الماضي أنه «تمت السيطرة» على الوباء لتجنب «هروب المستثمرين». وتوجه نحو مائة طبيب ومتطوع الأسبوع الماضي من كوناكري إلى الحدود مع ليبيريا وسيراليون، كما ذكر مراسل لوكالة الصحافة الفرنسية.
وفي قطاع الزراعة، قال الأستاذ الجامعي والخبير في اقتصاد غرب أفريقيا فيليب دو فريير إنه يشك في أن يؤثر عدد الضحايا على «عرض اليد العاملة». لكنه يتوقع سلوكا مضرا بالاقتصاد. وقال إن «الناس سيخففون من تحركاتهم. مثلا من لديه عادة بيع خضار في سوق محلية سيبقى في منزله، وبذلك لن يتمكن الناس من تأمين احتياجاتهم، وهكذا دواليك».
وفي المناطق الخاضعة للعزل الصحي في سيراليون وليبيريا، أخليت مزارع الكاكاو والبن، إذ يخشى المزارعون البقاء بعيدا عن منازلهم. وفي الوقت نفسه، شهدت السوق نقصا في المواد الغذائية الأساسية، وخصوصا الأرز، إذ توقف التجار عن التزود به بسبب مشاكل التنقل.
أما نيجيريا، الدولة الأولى المنتجة للنفط في القارة، فلم تتأثر كثيرا بنشاطات استخراج النفط في دلتا النيجر على بعد نحو ألف كيلومتر عن لاغوس حيث سجلت 15 إصابة.
وهذه الدولة التي تعد أول قوة اقتصادية في أفريقيا هي البلد الأقل تضررا بالمرض وشهد وفاة خمسة أشخاص.
لكن بيسمارك ريوان رئيس مجموعة «فايننشيال ديريفاتيف كومباني» ومقرها لاغوس، قال إن «حجوزات الفنادق تراجعت نحو 30 في المائة هذا الشهر، مثل طلبيات الطعام والشرب للمناسبات الكبيرة، مثل الأعراس والجنازات».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)