العنوان أعلاه ليس لي، ولكنه عنوان إحدى جلسات الدورة الـ18 لمنتدى الإعلام العربي، الذي انعقد في دبي، الأسبوع الماضي، بحضور نحو 70 متحدثاً من المسؤولين والخبراء، وبمشاركة مئات من المهنيين والمتخصصين، الذين أثروا نقاشاً جاداً ومكثفاً، بخصوص واقع الإعلام العربي ومستقبله.
في عشاء على هامش المنتدى، جلس عن يميني وعن يساري شابان، لا يعمل أي منهما في أي من المؤسسات الإعلامية التي نعرفها، لكن كلاً منهما يملك حساباً على إحدى منصات التواصل الاجتماعي الرائجة، يتابعه ملايين، ما أكسب كليهما لقب «مؤثر» بحكم الأمر الواقع.
ولتقريب الفكرة، فقد تأكدت أن تغريدة بثها أحدهما عن إحدى فعاليات المنتدى حظيت بأكثر من 250 ألف مطالعة Impressions، في أقل من ساعة، وهو رقم يعز على كتّاب مخضرمين ومفكرين عتيدين أن يحصلوا على نصفه في هذا التوقيت المحدود، مهما امتلكوا من ملكات الإبداع، ومهما حصدوا من معدلات الثقة.
يجب ألا نتعجب إذا عرفنا أن أكثر من نصف النقاشات التي جرت خلال هذه الورشة الإعلامية الرصينة تركز حول محاور تتعلق بمنصات التواصل الاجتماعي ودورها الآخذ في الاتساع على حساب المنصات التقليدية، وأن الأشخاص النافذين على هذه الشبكات يكسبون مساحة تتضاعف يوماً بعد يوم. حظيت الجلسات التي تحدث فيها «المؤثرون الجدد» باهتمام وزخم لافتين، سواء على الأرض أو في الواقع الافتراضي، والأهم من ذلك أن النقاشات التي دارت بين خبراء ومتخصصين قادمين من العالم التقليدي (وسائل الإعلام النظامية) لم تخل أبدا من الحديث عن «السوشيال ميديا»، ولم تتجاهل أبدا قدراتها المفرطة وحضورها الحاسم.
أصدر الصحافي اللامع مارك بيردسول، الذي أمضى 35 عاماً في نشر المقالات والتحقيقات عن عالم الجاسوسية في وسائل الإعلام التقليدية، كتاباً مهماً عام 2015، عنوانه «مستقبل الاستخبارات في القرن الـ21». ومما قاله بيردسول في هذا الكتاب، إن عميل الاستخبارات البريطانية المفترض «جيمس بوند» حصل على مكافأة من رؤسائه لأنه نجح في تحليل مشاركات بعض المستهدفين بالمراقبة على مواقع التواصل الاجتماعي، واستخلص نتائج مهمة منها. أراد بيردسول عبر إيراد هذه الواقعة المفترضة القول إن قدرات «بوند» الخارقة لم تعد تتعلق باستخدام الأسلحة السريعة، أو قيادة الطائرات المقاتلة، ولكنها باتت مقتصرة على تقصي مشاركات مستهدفين على منصة الفعل والتأثير والحوار الجديدة... «السوشيال ميديا».
في الجلسة التي عرض كاتب هذه السطور أطروحته، المعنونة بـ«ثمانية اتجاهات ترسم مشهد الإعلام في 2019»، خلالها، تبين أن «يوتيوب»، الذي يمتلك 1.9 مليار مستخدم نشط شهرياً، ويحظى بخمسة مليارات مشاهدة لفيديوهاته يومياً، قد رتب القنوات التي تتصدر قائمة المشاهدات غير الموسيقية، ليظهر أن صناع المحتوى من الهواة يهيمنون على هذه القائمة.
تشير تقارير موثوقة إلى أن المهيمنين على قوائم المشاهدات غير الموسيقية في «يوتيوب» نشطاء من غير المحترفين، الذين باتوا يحظون بمشتركين ومشاهدات بالملايين، من خلال محتوى يجتهدون في صنعه بأدوات وإنفاق محدودين. تتشكل خريطة جديدة للتأثير في عالمنا العربي، وهي خريطة لا تجتهد في التفريق بين مصطلحي «التأثير» و«الشهرة»، ولا تهتم بمعاينة أنماط المحتوى الأكثر نفاذا لجهة مقابلتها للمعايير المرعية أو اتساقها مع المصلحة العامة.
في تلك الخريطة يبرز شبان وشابات لا نعرف كثيرا عن تكوينهم المعرفي أو مناقبهم المتصلة بالأداء العام، ورغم أن المعلنين يهرعون إليهم طلباً للرواج والنفاذ اللذين يمتلكونهما، وأفراد الجمهور يعظمون مجدهم عبر المطالعة والإعجاب والمشاركة، فإن المحتوى الذي يقدمونه يبقى خاضعاً فقط لما يرتضون لأنفسهم الالتزام به، ولما يعتقدون أنه أكثر جذباً للاهتمام. ما بين «المؤثر» و«المشهور» فرق واضح في المعجم كما في الواقع، فبينما يحظى الأول بقاعدة ومناقبية ووجاهة وثقة، مستمدة من التكوين والمركز والجهد المبذول ومسحة الإبداع، لا يحتاج الثاني سوى إلى «الصيت» و«الرواج»، اللذين قد يتوافران عبر الغرابة والطرافة، أو حتى التطرف والحدة.
سينزعج «المؤثرون القدامى» لانسحاب البساط من تحت أقدامهم، وسيبادرون إلى محاكاة منافسيهم طمعاً في مساحة، بينما سيواصل «المؤثرون الجدد» عملهم السهل المربح، واثقين ومطمئنين، لأن السياق يخدمهم وينحاز إلى صفهم.
أما الإشكال الكبير فسينشأ عندما نفقد التعاطف مع «المؤثرين العرب القدامى»؛ لأنهم، بكل ما ادعوا من تكوين معرفي ومناقبية وجهد وإبداع، أوصلونا إلى حيث نحن الآن... زبائن في «كافيه المؤثرين الجدد».
كافيه المؤثرين العرب
كافيه المؤثرين العرب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة