بعد كمون استمر طوال عهدي الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي فرضته ظروف إعادة إعمار إيران بعد الحرب مع العراق وسياسة «الاحتواء المزدوج» الأميركية، بُعثت حية مقولة تصدير الثورة بعد الغزو الأميركي للعراق ووصول محمود أحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة مدشنا استئناف استراتيجية التدخل في شؤون الدول المجاورة لكن مع قدر أقل من الآيديولوجيا وأكثر من البراغماتية السياسية.
رأت إيران بقيادة المرشد علي خامنئي في احتلال العراق وانهيار دولته فرصة تاريخية لبناء حزام عازل يبعد أراضيها عن أي هجوم مقبل من جهة الغرب على غرار ما جرى في الأعوام 1980 - 1988 المريرة. عليه، لم يكن مستغربا أن يسارع الإيرانيون ومنذ الأسابيع الأولى لدخول القوات الأميركية الأراضي العراقية إلى إرسال أنصارهم من العراقيين أولا ثم الخبراء الأمنيين والعسكريين الإيرانيين الذين ساهموا مساهمة حاسمة في تأسيس الميليشيات وتدريبها وتمويلها في الوقت الذي كانت الأذرع السياسية الإيرانية تعمل من دون كلل لضمان الحضور السياسي الكبير للموالين لها في أجهزة الدولة العراقية التي يعاد بناؤها.
كان النفوذ الإيراني في المنطقة العربية قد انحسر بعد الحرب مع العراق إلى علاقات طهران المميزة مع سوريا وتوجيه «حزب الله» في لبنان الذي يظل دعمه وتأييده من أسس الاستراتيجية الإيرانية لأسباب تتجاوز الصلة بجماعة شيعية كبيرة لتصل إلى صميم الذرائع الآيديولوجية ومبررات وجود النظام الإيراني باعتباره رافعا لشعار «تحرير القدس» وما شاكل، على الرغم من مشكلات إعادة البناء والصراعات الداخلية التي انتهت إلى إمساك التيار المحافظ بكل روافع الحكم وتحول «الحرس الثوري» الإيراني إلى منظومة اقتصادية وسياسية ضخمة متداخلة بآليات اتخاذ القرار اليومي في الدولة.
في المقابل، ساد اعتقاد في الكثير من الأوساط العربية أن التمدد الإيراني لا يمكن أن يتجاوز المحيط المباشر لإيران أو المناطق التي تحتضن حضورا شيعيا وازنا على غرار العراق ولبنان. بيد أن أحداث العقدين الماضيين تقول شيئاً آخر. ذلك أن فتح «البوابة الشرقية للعالم العربي» على ما كان يوصف العراق، لم يتبعه قيام بوابات وسدود بديلة بمعنى تشكيل استراتيجية عربية للتعامل مع الاحتلال الأجنبي لدولة عربية كبيرة، أولا، وخطر تحول هذه الدولة إلى نقطة انطلاق لقوى إقليمية لا تتفق مصالحها مع المصالح العربية، سواء لناحية الإصرار على التمسك بموقع القيادة الإقليمي بشعارات من نوع دعم قوى المقاومة التي تحارب إسرائيل أو تقديم إيران نفسها باعتبارها المفسر الوحيد لماهية المصلحة العليا في المنطقة.
ترك غياب استراتيجية عربية عددا من الدول وحيدة أمام الضغوط الإيرانية. وانتشر النفوذ الإيراني في مؤسسات دول مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن، ليس على مستوى ضمان الولاء السياسي العام، بل على صعيد الرقابة اليومية على سير أمور قد تبدو من اختصاص الدول المعنية. الحضور الأمني الإيراني في هذه الدول بات بمثابة تحصيل الحاصل، في حين أن السيطرة السياسية الكاملة تسير سيرا حثيثا نحو الكمال.
الفكرة القائلة إن المد الإيراني سيظل محصورا في الطائفة الشيعية في المنطقة ولن يتجاوزها إلى الطوائف الأخرى، بسبب «مناعة» متخيلة عند السنة أو المسيحيين حيال الدعاية الإيرانية، ثبت انعدام دقتها. التجربتان العراقية واللبنانية تقولان إن السياسة الإيرانية المزودة بالمال وبالوعود قادرة على القفز فوق الجدار المذهبي. وكان إغراء «تحالف الأقليات» قد جذب المسيحيين أولا فانضموا إلى «محور المقاومة» في لبنان وسوريا، ثم لحقت بهم شرائح من الطائفة السنّية التي فضلت إقامة علاقات تعاون وولاء بدلا من تحمل الضغط الإيراني؛ خصوصاً أن العرب لم يبدوا مؤهلين لخوض مضمار المنافسة مع إيران في الساحات اللبنانية والعراقية والسورية.
وإذا أُخذت الانتخابات النيابية اللبنانية في مايو (أيار) الماضي كمؤشر إلى ما يجري داخل هذا البلد، لظهر بجلاء أن النفوذ الإيراني لم يعد مقتصرا على الحلفاء التقليديين (الشيعة) والجدد (المسيحيين) بل حقق تقدما ملحوظا في شرائح كان من الصعب تخيل تأييدها لنفوذ إيران قبل أعوام قليلة.
حماية النظام الإيراني بحيث لا يفاجأ بحرب عليه من دولة مجاورة والرد على أي هجوم قد يتعرض له من دول بعيدة (إسرائيل خصوصا) يبقيان من أسس الاستراتيجية التي تقوم عليها السياسة الإيرانية الحالية، وترافقها عروض اقتصادية واقتراحات بالتسليح وخطابات متنوعة بين اللين والشدة تتلاءم كلها مع التطورات اليومية من دون أن تعكس أي تبدلات في المقاربة الإيرانية للمنطقة، وهي المقاربة الباقية ما دامت الاستراتيجية العربية المقابلة غائبة وما دام القرار الغربي منقسماً.
التمدد الإيراني باقٍ مع استمرار {تصدير الثورة}
التمدد الإيراني باقٍ مع استمرار {تصدير الثورة}
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة