برلين «عاصمة بديلة» للمثقفين السوريين... وأحلامهم

«الشرق الأوسط» ترصد إبداعاتهم في المدينة وتنافسها مع باريس

عازف العود السوري وسام مقداد أثناء تدريبات مع الأوركسترا في برلين (الشرق الأوسط)
عازف العود السوري وسام مقداد أثناء تدريبات مع الأوركسترا في برلين (الشرق الأوسط)
TT
20

برلين «عاصمة بديلة» للمثقفين السوريين... وأحلامهم

عازف العود السوري وسام مقداد أثناء تدريبات مع الأوركسترا في برلين (الشرق الأوسط)
عازف العود السوري وسام مقداد أثناء تدريبات مع الأوركسترا في برلين (الشرق الأوسط)

باريس كانت حلم المثقفين السوريين. منهم من اختار الدراسة هناك بحكم تأثير الانتداب الفرنسي، ومنهم من هرب من النظام على «أعناق» الإبداع إلى العالم الحر. لم تخيّب المدينة كثراً منهم وأصبحت «عاصمة النور» مدينتهم المختارة في المهجر. السنوات الأخيرة غيّرت المعادلة نسبياً. النزاع الأخير هجّر الناس والعقول وضخّم الشتات وضاعف المعاناة.
36 ألف سوري اختاروا الاستقرار في برلين، غريمة باريس. هذه الجارة التي لم تعد تشهد انقساماً منذ التسعينات، كسرت جدارها، وفتحت بابها مرحبة بتعددية الثقافات، فأصبحت جذابة لمثقفين وفنانين سوريين اعتبروها منبراً للإبداع. فهل أصبحت برلين مدينتهم المشتهاة؟
الموسيقى

الانتداب الفرنسي على سوريا جعل باريس مقصداً للمثقفين السوريين خلال القرن الماضي. هناك في «عاصمة النور» وجدوا ملجأً للحرية الفكرية، بعيداً عن تضييقات النظام حينذاك. وتعرضت المدينة لـ«غزوات ثقافية» عدة عبر العقود. نهل مثقفون من نهر المدينة. بعضهم عاد إلى دمشق. بعضهم الآخر استقر فيها مجبراً. لكن الحبل السري كان مربوطاً بين دمشق وباريس عبر شريان الثقافة خلال السنين: في المسرح والسينما والأدب والفلسفة.
ربما لم تكن تضم العدد ذاته من المبتعثين الذي ضمته موسكو، بسبب العلاقة السياسية بين سوريا والاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، لكن باريس كانت دائماً مدخلاً لإلهام ثقافي نوعي.
الكاتب والمترجم والناقد بدر الدين عرودكي واحد منهم. أُرسل في مطلع السبعينات ببعثة إلى فرنسا، لدراسة الدكتوراه في علم الاجتماع، ليعود للتدريس في سوريا، كان معاصراً لأساتذة يعانون المرّ بسبب هيمنة أجهزة الأمن المتزايدة على عملهم وعلى مجمل الحياة الجامعية، وكان ينعكس سلباً على مستوى التعليم، الأمر الذي كشفه عرودكي في حوار مع «الشرق الأوسط»، قائلاً: «ما إن حصلت على درجة الدكتوراه حتى طلبت إجازة دراسية لمتابعة دراسة ابنتي، وحين رُفض طلبي، اعتذرت عن العودة وبقيت في فرنسا وسددت للحكومة ضعف ما صرف عليّ أثناء دراستي، مستعيداً بذلك حريتي». ترجم عرودكي أكثر من 30 كتاباً، وشغل مناصب عدة في معهد العالم العربي بباريس، فكان حاضراً في قلب المشهد الثقافي.
وعن ذلك قال: «لم تكن باريس تجذب المثقفين السوريين وحدهم، بل المثقفين من كل أنحاء العالم. كانوا يعتبرون العيش فيها لفترة من الزمن ضرورة لتنمية تجربتهم في الكتابة والثقافة والحياة».
يستذكر العرودكي سنواته الأولى في باريس، ويقول: «اقتصر وجود السوريين في باريس حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، على طلبة الدراسات العليا، خصوصاً كبار التجار الذين كانوا قد غادروا سوريا إلى بيروت أولاً بعد قرارات التأميم أثناء الوحدة السورية المصرية، من ثمّ اضطروا إلى مغادرتها بعد بدء الحرب الأهلية عام 1975 إلى المغرب الأقصى أو إلى باريس». وأضاف: «لذا؛ لم يكن بالوسع الحديث عن (جالية) سورية منظمة بباريس آنذاك».
لكن هل لا يزال هذا المشهد الثقافي السوري واضحاً في باريس كما كان في السابق؟ يجيب العرودكي: «لا يزال موجوداً، بل وأكثر من أي وقت مضى؛ لكن مع كثير من الاختلاف في طبيعة الفعاليات والنشاطات التي نظمت ولا تزال نتيجة الثورة ومآلات الحدث السوري منذ ثماني سنوات».
وهل أصبحت برلين عاصمة الثقافة السورية في المهجر؟ يقول: «لا يمكن القول إن برلين أصبحت عاصمة الثقافة السورية في المهجر الجديد عوضاً عن باريس؛ لأن باريس تبقى ملتقى معظم ثقافات العالم ومنها السورية بالطبع»، ويضيف: «أفضل القول إن برلين أصبحت عاصمة أخرى وكبيرة للثقافة السورية في المهجر. وذلك نتيجة الكثير من الفعاليات والنشاطات التي ينظمها السوريون بدعم ومشاركة من المؤسسات الألمانية وكل المتعاطفين مع قضية الشعب السوري».
* الشتات السوري

نافذة على الشتات السوري، بل وعلى شرائح الداخل أيضاً أتاحها لقاء مع أنور البني، المحامي السوري ومدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، ليس فقط لإلمامه ونشاطاته، بل لرنين جواله. الجوال لم يهدأ. كل مكالمة أتته من داخل سوريا أو خارجها كانت لسوري يطلب مساعدة في تحضير أوراق لجوئه، وآخر يستفسر عن آلية إصدار تصريحات عمل في إحدى البلاد، وغيره يتصل لإعلام أنور بآخر مستجدات قضية قريبه المسجون، أو ليطمئن على بعض الإجراءات القانونية، أو ليغذي المحامي بمعلومات من الأرض. وفي حين جلس أنور وراء مكتبه وهو يحاول الموازنة بين الرد على الاتصالات وإجراء الحوار، ألمع التفاؤل عينيه.
في سوريا، شغل البني منصب رئيس مركز البحوث والدراسات القانونية بتمويل من الاتحاد الأوروبي الذي كان يهدف لتدعيم حقوق الإنسان وتعزيزه في البلد؛ لكن المركز أُغلق بأمر من السلطات السورية بعد اعتقاله عام 2006، ليُطلق سراحه في عام 2011. استمر في الدفاع عن حقوق المعتقلين واضطر إلى مغادرة سوريا عام 2014، ليستقر في العاصمة الألمانية، حيث عمل على فتح ملفات مجرمي الحرب في بلده. كما عمل على دعم العدالة الانتقالية.
يدير البني اليوم «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»، وكان له دور فاعل في إصدار مذكرات التوقيف الألمانية الفرنسية بحق عدد من رموز النظام السوري. عن ذلك قال: «الهدف الأساسي من مذكرات التوقيف إبعاد رموز النظام عن مستقبل سوريا، وألا يكون لنظام الأسد دور في مرحلة انتقالية».
يعود الجوال ليرنّ من جديد، يستأذن يرد، ثم يتابع الإجابة عن السؤال: «أعيش في برلين، لكن في داخلي أنا ما زلت في دمشق، أريد العودة».
علاقته مع الجالية السورية في برلين وطيدة وحيوية. قال: «عدد السوريين في برلين ليس كبيراً، لكنّهم نشيطون وباتوا ظاهرين في المجتمع».
إذن، هل تحولت هذه المدينة إلى عاصمة الثقافة السورية في المهجر مستبدلة باريس؟ يجيب: «باريس كانت منتدبة على سوريا وبالتالي بدايات المعارضة معظمها سافرت إليها، وبخاصة اليسارية». وأضاف: «الإخوان المسلمين تفرقوا بين ألمانيا وبلجيكا، لكن معظم السوريين كانوا في فرنسا»، لافتاً إلى أن «باريس عاصمة النور؛ لذا كانت المقصد».
اليوم، أصبحت برلين خياراً مناسباً بحكم أنها لم تعد منقسمة، وتحتضن تنوعاً هائلاً وهي «مدينة مفتوحة»، كما يراها أنور. هذه المدينة أصبحت بوابة للمثقفين السوريين، والفنانين والموسيقيين منهم.
* كتب «حرة» وذكريات
في حي شارلوتنبورغ السكني مطعم ومقهى يعبق برائحة المعجنات السورية والقهوة العربية. يضمّ صالة عربية عُلّق على أحد جدرانها لوحات تشكيلية لفنانين سوريين، ومكتبة مليئة بالروايات والإصدارات العربية. «النايا» واحة شامية ثقافية سافرت مع مؤسسها صافي علاء الدين واستقرت غرب برلين في حي معظم سكانه ألمان. على مدى الأشهر الأخيرة استطاع «النايا» جذبهم إلى جانب رواد سوريين يبحثون عن فسحة ثقافية في المهجر.
في الصالة الخلفية جلس الناشر وأحد مؤسسي منظمة «مدى» للثقافة والتنمية الفكرية في برلين يحتسي قهوته على وقع أغاني لينا شماميان. اتكأ على منضدة تطريزها شامي، محاطاً بجدران تزينت بلوحات فنية أبدعتها ريشة سورية. وكرونق الغرفة الحالم، تكلم صافي عن تجربته بكل هدوء. قال: «قدمت إلى برلين منذ أكثر من أربعة أعوام، احتضنتني الحكومة الألمانية بحكم علاقتي القديمة مع وزارة الثقافة لعملي في مجال النشر».
كانت صناعة النشر بسوريا مرتبطة بمراقبة الأجهزة الأمنية لها من خلال وزارة الإعلام السورية، وكان الأمن يراقب مخطوطات الكتب قبل الطباعة والنشر. قال صافي: «كانت الكتب التنويرية السياسية (تنام) لأشهر في أدراج الموظفين، بينما كانت الكتب الصفراء متوافرة في السوق، وبكثرة». لا يعني ذلك أن سوريا كانت تفتقر إلى الكتاب والأقلام، لكن المحاولات في الداخل باءت بالفشل بسبب التضييقات، وفق صافي الذي أضاف: إن «التعامل مع النظام كما صانع الألغام؛ فغلطته الأولى أخيرة». لذلك؛ وفّرت بيروت متنفساً لتلك الكتب الممنوعة لترى النور، الخلاص الذي لجأ إليه صافي حتى سفره إلى برلين.
درس صافي قوانين ألمانيا ومن ثمّ انطلق بمشروع جديد في المهجر لتكريس الحالة الثقافة السورية بحقيقتها بعيداً عن المحاذير السابقة. ومع مجموعة من أصدقائه رأت منظمة «مدى» النور عام 2016، وأصبحت منبراً لدعم الكتاب الشباب وحيزاً لأمسيات وندوات ثقافية في العاصمة الألمانية.
وحولت بلدية المنطقة (شارلوتنبورغ) وقتها فيلا مهجورة إلى مركز ثقافي بمسرح يتسع إلى 150 شخصاً، وسلّمت القسم العربي لـ«مدى» التي حرصت بدورها على تكريس أيام ثقافية سورية، بما فيها الثقافة الكردية، بفعاليات تتنوع بين الكتاب والمسرح والوثائقيات والفن. استطاع صافي أيضاً المساهمة في إحضار وعرض نحو 500 لوحة من أعمال 22 فناناً سورياً في الداخل إلى برلين. وقال: «ليست في حاجة إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول أو حتى طلب لجوء، لكنها تبحث عن إقامة في برلين أو صالونات الفن».
خلال حديثه، تدخل جولييت كوريه إلى «النايا» وتجلس إلى جانب صافي لتستمع إلى الحكاية الثقافية السورية في برلين، التي كانت هي أيضاً جزءاً منها. جولييت السورية هي إحدى مؤسّسات منظمة «مدى»، لكنها مقيمة في العاصمة الألمانية منذ عام 2005، وكانت تعمل مسؤولة للمخطوطات باللغات القديمة في الجامعة. مع بدء موجة اللجوء، قرّرت مساعدة السوريين وتدريبهم مهنياً. هناك كانت التقت صافي أو «المتدرب رقم 4» حسب قولها، وانطلق التعاون بينهما.
بسمة تفاؤل ترتسم على وجهها، وتقول: «المشروع يعطي رسالة أننا ما زلنا قادرين على العطاء، نحن لسنا لاجئين فقط، لجوؤنا إنساني، وهذا يعني أن الناس حاملون لثقافة وليسوا فارغين». وأضافت: «من كان مقيّداً في سوريا استطاع أن يصبح حراً في برلين، واستطعنا بجميع الإمكانيات المتاحة لنا بناء هوية لنا، والمطالبة بأن نكون جزءاً من هذا المجتمع».
هل أصبحت برلين العاصمة الثقافية للسورين خارج البلاد؟ يقول صافي: «قياساً بالأنشطة، برلين هي حتماً هذه العاصمة التي تحوي نشاطات أسبوعية متنوعة ومتعددة رغم أن عدد السوريين فيها ليس كبيراً جداً (نحو 36 ألفاً)، لكنهم مهتمون جداً بالثقافة، وهذا عبارة عن تضافر جهود غير معلنة تشعرنا بسوريتنا». وأضاف: «برلين مدينة تشبه دمشق وعمّان وبيروت، تفتح يديها لمن يصل إليها وتحتضن كل غريب. إنها تحب الحياة وتعشق التعددية». وتابع قائلاً: «في دول اللجوء أعدنا صياغة أنفسنا من جديد، وأعدنا ترتيب ذواتنا، وتعلمنا احترام القانون وكيفية تطبيقه، ونريد نقله إلى سوريا؛ نحن في حاجة إلى إعادة إعمار البشر قبل الحجر».
للمشهد الثقافي السوري في برلين وجوه كثيرة، وتجارب متنوعة بين ناشر وآخر. عند حضوره معرض فرانكفورت للكتاب قرر ماهر خويص، الناشر السوري، تقديم أوراقه ليستقر في برلين، لكن حلم العودة إلى سوريا لا يفارقه، فجميع الأماكن الأخرى ليست دائمة بالنسبة له، قالها والعبوس عقد حاجبيه، من ثم أرخى جسده على الكرسي ليتبدد ضيقه ويتنهّد مكملاً حديثه: «كل الأماكن تتشابه في نظري، والطريق أوصلتني من بيروت إلى برلين». ومع أن ماهر لا تربطه علاقة حميمية بالعاصمة الألمانية، إلا أنه يتفق بأنها «تحتضن جنسيات وقوميات وثقافات كثيرة وتوفّر مساحة ثقافية واسعة لتفاعل الناس».
ساهم ماهر منذ استقراره في برلين في تأسيس مكتبة «بيناتنا» العربية هناك، التي تجمع المهتمين بالشأن الثقافي، وتنظم نشاطات متنوعة. كما هو عضو في الهيئة الإدارية للمنتدى الثقافي العربي، وعضو في منظّمة «أوشينا» الثقافية.
يقول ماهر: إن هذا الحراك الثقافي مهم للجميع، وليس حكراً على فئة معينة. موضحاً: «هناك موروث ثقافي مهم لا بد من إلقاء الضوء عليه. لم يكن ظاهراً لكثيرين؛ لذلك من المهم إعطاء الوجه الحقيقي لسوريا». واستطرد: «هذه المساحة أصبحت متاحة لنا اليوم، إلا أن الطاقات ذاتها كانت موجودة في سوريا ولم تولد هنا، لكن هذا البلد فتح المجال لإظهارها».
هل يرى ماهر أن برلين عاصمة الثقافة السورية في المهجر؟ «ليس فقط للسوريين إنما للمثقفين العرب عموماً». لكنه يضيف: «أرفض هذه التسمية، فليس من مكان يمثّل ثقافة أي مكان». ويستطرد: «عاصمة المكان هي التي تحمل كل البيئة الثقافية التي وجدت فيه؛ لذا قد أطلق عليها اسم بوابة، لكن أنا لا أطلق عليها عاصمة». ويختم حديثه بالتحذير من تحوّل حال الاندماج الثقافي لشعوب الشتات إلى انصهار لهويتهم. قائلاً: «لم تتشكّل لنا ذاكرة هنا في برلين، إبداعنا الثقافي في المدينة مبني على ذاكرتنا التي حملناها من سوريا».
* منامات على المسرح
فعاليات موسيقية ومسرحية وفنية تكثر وتختلف جداولها في برلين، وللسوريين حصة كبيرة منها، فهم نقلوا إبداعاتهم المتنوعة بين العزف والاستعراض والتمثيل والرقص وغيرها إلى هناك.
في مقهى صغير بحي «ميته» السكني وسط العاصمة كان اللقاء مع أول راقصة باليه سورية محترفة. بدأت مي سعيفان تعلُّم الباليه عام 1987، ولم تكن قد بلغت ربيعها السابع، وبعد تخرجها من المدرسة سافرت إلى فرانكفورت للتّخصص في مجال الرقص. تنقلت بين سوريا وألمانيا، وقررت بعدها الاستقرار في سوريا وتأسيس ملتقى دمشق للرقص المعاصر ضمن شبكة «مساحات» بشراكة مع لبنان والأردن ورام الله. لم تستطع الاستمرار بالملتقى بسبب اندلاع الثورة في عام 2011.
سافرت إلى ألمانيا في زيارة قصيرة؛ وبقيت هناك بعد أن أخبرها أصدقاؤها بأنها مطلوبة من قبل النظام لمشاركتها في تنظيم حراك ضدّه؛ ولأنها كانت على خلاف مع وزارة الثقافة. استقرت في ميونيخ من ثم انتقلت وعائلتها إلى برلين. تحمل مي الجنسية الألمانية، لكن هويتها، وفنها سوريان. تتحدث عنهما بشغف. لغة جسدها المتجانسة مع حديثها تؤكد إبداعاتها الفنية والمسرحية.
«بداية لم أستطع العمل في ألمانيا. كنت أنتظر العودة ودخلت بأسئلة وجودية، كما لم أرد أن أُصنف من بائعي الثورة»، هكذا لخصت مي أيامها الأولى في ألمانيا. لكنها سرعان ما استطاعت مشاركة اسئلتها الوجودية مع السوريين عبر «فيسبوك» لتحويلها إلى مشروع إبداعي مميز. وعن ذلك تقول: «دوّنت مناماتي وراقبت أحلامي، لألاحظ أنها اختلفت بعد الثورة. وقرّرت إنشاء صفحة على (فيسبوك) تحت عنوان (احكيلي شو حلمت مبارح)».
سرعان ما بدأ السوريون في تدوين مناماتهم في الصفحة حتى تحولت إلى أرشيف لبنات أفكار سوريا. تيمات المنامات تغيّرت مع تطور الثورة إلى سفك الدماء ورحلات الموت عبر البحر، بل أصبحت توثق الوضع السياسي. وفقاً لمي، تمحورت منامات السوريين في عام 2011 حول قصص الملاحقات الشخصية من قبل الأمن والهرب والاختباء وكتابات على الجدران وأحلام عن سقوط بشار الأسد. وقالت: «الحلم الذي تكرّر لسنوات هو أن الأسد لا يعرف ما يحصل في البلاد، نوع من الانكار من الناس حسب ظني».
الماء كان عنصراً بارزاً في الكثير من المنامات المدونة على الصفحة بين الغرق، والطوفان، وغرق المدينة، والضياع في البحر، تلك الكوابيس تزايدت بين عامي 2014 و2015، أي مع بداية موجة الهجرة عبر المتوسط.
هذا الأرشيف الغني أثمر عملاً فنياً لمي تحت عنوان «التخريب للمبتدئين». «العمل مثل حالة (السذاجة) في الإقبال على الثورة، ونحن لا نعرف ومبتدئون»، قالت مي. وأصبحت تنقل تلك المنامات سنوياً إلى المسرح البرليني.
تغيرت طبيعة عمل مي وفنها في برلين. ولاحظت أنها لأول مرة ترقص بخطوات ثابتة، على عكس عروضها السابقة. وأضافت: «تبددت الرهبة، ولم أعد أخاف من شيء. أصبحت عروضي أكثر عشوائية تركز على ترسيخ إحساس المشاهد بعيداً عن التفاصيل والجزئيات. وتسلط الضوء على جانب الكوميديا التي لجأ إليها السوريون أثناء الثورة للإبقاء على بعض من الإيجابية».
تقول مي: «تحولت برلين إلى عاصمة الثقافية السورية في المهجر اليوم». وتضيف: «كانت في سوريا حركة فنية قوية بدأت مع بداية الألفية وبدأت تتبلور وتقوى عندما اختيرت دمشق عاصمة للثقافة وكان هنالك فريق عمل رائع، وطاقات شبابية استطاعت تحدي ضغوط المجتمع ودراسة الفن حتى في الخارج، أغلبهم درس وعاد ليحدث تغييراً». وتابعت: «الفقاعة هذه كانت موجودة في دمشق، وكان للشباب حراك، لكنه بقي مقموعاً ومحدوداً». تتنهد بعد أن تسترق رشفة من عصير البرتقال الطازج وتجيب: «على الرغم من ذلك، أحلم أحياناً بأنني عدت إلى دمشق مع ابني الذي لم يرها بعد. ولا أعرف إن كانت ستعود لنا يوماً ما».
الموسيقى، لغة يفهمها الجميع ويتذوقها الكثيرون، توحّد الناس وتعبّر عن مشاعرهم وهوياتهم. النغم جانب حاضر من الثقافة، عابر للحدود ورسالة تحملها أوركسترا بابل المكونة من موسيقيين متعددي الآلات، والجنسيات، والثقافات.
وسيم مقداد، عازف عود من سوريا، استقر في برلين عام 2016، وهو يتكلّم الألمانية بطلاقة. التقته «الشرق الأوسط» على هامش بروفة للأوركسترا في مسرح بحي بيرغمانكيز. جلس يروي قصته بلغة «أهل الشام».
العودة إلى برلين تمثّل «ربطاً مع الجذور»، فوسيم ولد في مدينة لايبزيغ الألمانية وسافر مع أهله إلى سوريا وهو في الرابعة من عمره. ترعرع في دمشق، حيث درس الطب والموسيقى. وكان ناشطاً في الثورة وشارك في المظاهرات وعمل طبيباً ميدانياً يسعف الجرحى في المناطق التي كانت تحت سيطرة «الجيش الحر». اعتقله النظام ثلاث مرات، كما اعتقله تنظيم «جبهة النصرة». وسط المظاهرات والحراك نشأت قصة حب بين الطبيب وبريفان الكردية التي أضحت زوجته. قررا السفر إلى غازي عنتاب التركية وبعدها إلى برلين في يونيو (حزيران) 2016.
واظب الزوجان على تعلم اللغة الألمانية. دخل وسيم الجامعة ليكمل دراسة الموسيقى وتخلّى عن ردائه الأبيض. وتعليقاً على ذلك، قال: إن «الطب عملية بحث عن حقيقة مطلقة وجواب واحد ودقيق ليكون هنالك توجه للعلاج، بينما الموسيقى لا تحتوي على جواب واحد لأي سؤال، والإجابات عنها كثيرة، ومجال الحرية فيها لا نجده في الطّب الذي يتعامل مع الوجع ويقاومه، الموسيقى تتعامل مع الجمال وتعززه، وذلك يحاكي روحي أكثر».
يعمل وسيم اليوم مع عرب وأجانب من مختلف الأعمار، كما يساهم في إثراء المجال الموسيقي ضمن الجالية السورية في برلين من خلال تنظيم فعالية ثقافية شهرية في مركز «ورشة عمل للثقافات». وعن ذلك يقول: «التنوع يشبه التنوع في سوريا، أشعر بالأمان والراحة، وكأنني ما زلت هناك».
أتاحت برلين لوسيم فرصة بلورة ثقافة الفن داخله، فهل تمثل له عاصمة الثقافة السورية في المهجر؟ يقول: «إن وجود بضعة آلاف من السوريين في مدينة خارج البلاد يحوّلها بشكل رمزي إلى عاصمة لهم في المهجر، وهكذا كانت باريس. لكن في مرحلة الشّتات الحالية قد تمثّل بيروت أو إسطنبول أو غازي عنتاب العاصمة الثقافية للسوريين في المهجر». ويوضح أن «السوريين يتواجدون في مدن كثيرة بألمانيا، وتحديداً برلين؛ لأنها جاذبة ومنفتحة وترحب بالغريب. الشتات السوري وزّع عواصم السوريين في المهجر وبرلين اليوم تُعتبر أهمهم».
جولة في برلين، بعد خمس سنوات على وصول اللاجئ السوري الأول إلى هناك كان هدفها تقصي أوضاع نحو 36 ألف سوري في «الوطن الجديد». قد تكون الرحلات الشاقة، والذكريات الأليمة، والبدايات المتعثرة جمعت سوريي برلين في الأشهر الأولى. لكن، مع مرور الأيام أصبحوا يلتقون في أمسية شعرية، أو معرض فني، أو حفل موسيقي يعزز هويتهم.
وفي برلين، وجد الشتات واحة ثقافية سورية له، قد نسميها عاصمة في المهجر، أو بوابة على العالم، أو منبراً للحرية. قد تختلف المصطلحات والمعنى واحد.



حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

0 seconds of 1 minute, 20 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
01:20
01:20
 
TT
20

حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)
أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)

لم يكن خالد يعلم أن مقابلته هذه ستعيد فتح باب من الماضي.

عندما بدأ يتحدث، كانت نبرة صوته مألوفة بطريقة غريبة، لكنني لم أستطع أن أحدد السبب على الفور. بدا خالد (اسم مستعار) متردداً في البداية، وكأنه يخشى أن يقول أكثر مما ينبغي، ثم انساب الحديث بحرية أكبر، حتى وصلت المقابلة إلى نقطة جعلت قلبي يخفق بقوة.

«كنت في الثالثة عشرة عندما أصبحت سجاناً. لم يكن لدينا خيار. كانوا يعطوننا أوامر، وإذا رفضنا، نتعرض للعقاب. كنت أفتح الأبواب، أقدم الطعام، وأراقب السجناء. بعضهم كان يبكي، بعضهم كان يصرخ، وبعضهم كان صامتاً طوال الوقت. كنا نعاملهم كأعداء، حتى لو لم نفهم لماذا كانوا هناك».

عند هذه الجملة، شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. سجن الميادين. عام 2015. طفل في الثالثة عشرة مكلف بمراقبتي أنا وبقية السجناء. بدأت أتذكر تلك الفترة القاتمة من حياتي، عندما تم اعتقالي في سوريا لأنني رفضت العمل صيدلانياً مع تنظيم «داعش» الذي كان مسيطراً على المنطقة. شهدت تلك الفترة محاولات التنظيم الحثيثة لضمان الولاء الكامل، خاصة من أصحاب الاختصاصات الطبية. من لم يعلن ولاءه، كان مصيره الاضطهاد، الملاحقة، وأحياناً الاعتقال.

كنت واحداً ممن وقعوا في هذا المصير. لم يأتِ اعتقالي من العدم. في إحدى الليالي، طرقوا باب منزلي بعنف. لم يكن السبب معلناً في البداية، لكنني علمت لاحقاً أن جاري، وهو أحد عناصر التنظيم، وشى بي. ادّعى أنني أخالف الشريعة لأنني كنت أستمع إلى الأغاني. كانت تلك التهمة كافية ليقتادوني إلى السجن، وهناك التقيت بسجاني الصغير.

السجّان الصغير

اليوم وفيما أجري هذه المقابلة من ضمن 17 شهادة جمعتها حول «أشبال الخلافة» توالت الأسئلة في ذهني، فكبحت اندفاعها. لم أكن أريد أن أسأل مباشرة، لكن الفضول بدأ ينهشني.

طرحت أسئلة ملتوية، حاولت من خلالها أن أتأكد من شكوكي دون أن أثير انتباه خالد وقد بلغ منتصف العشرينات. ولكن عندما بدأ يصف السجن، وممراته، ووجبات الطعام القليلة التي كانت تُقدم للسجناء، والطريقة التي كان يُؤمر بها بفتح الأبواب وإغلاقها، قطعت الشك باليقين. لقد كان هذا الصبي سجاني. صراع داخلي انتابني، ولم أعرف كيف أتصرف. جزء مني أراد أن يواجه خالد بالحقيقة، أن يخبره أنني كنت هناك، وأنه كان أحد أولئك السجانين الذين وقف أمامهم صامتاً وهو يحمل المفاتيح. لكن جزءاً آخر مني رفض الفكرة.

كيف سأخبره بذلك؟ ماذا سيفيده أن يعرف؟ اليوم أدرك أن خالد لم يكن سوى طفل، مجرد أداة في يد قوة أكبر منه بكثير. أي غضب قد أشعر به، أي كراهية أو استياء، لا يمكن توجيهها إليه. لكن رغم كل هذه التبريرات، لم أستطع تجاهل الشعور المتناقض الذي اجتاحني. أنظر إلى خالد، وأحاول منطقياً أن أراه بمعزل عن ماضيه، لكنني عاطفياً لم أستطع الفصل بين الاثنين.

«هل كنتَ قاسياً على السجناء؟» سألته. تنهد وأطرق رأسه، كأنه يحمل ثقلاً لا يمكن احتماله: «أحياناً كنت أحاول أن أكون لطيفاً فأعطي بعضهم طعاماً أكثر، أو أترك الباب مفتوحاً لبضع ثوانٍ إضافية. لكن في أحيان أخرى... كنت قاسياً. كنت خائفاً أيضاً. فإذا تهاونت، كانوا سيضعونني في السجن معهم». كلماته ضربتني بقوة.

لم أعرف إذا كان خالد يتذكرني، أو أنني مجرد سجين من عشرات مروا عليه، لكنني أعرف الآن أنه كان هو أيضاً يعيش صراعاً داخلياً ربما لم يحسمه بعد.

شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)
شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)

فوضى ومساومات

على رغم المصادفة الغريبة إلا أن قصة خالد ليست فريدة من نوعها. هي واحدة من 17 شهادة حية تم جمعها على مدار الأشهر الستة الماضية تقاطعت فيها تجارب الماضي المؤلمة بتحديات الحاضر والمستقبل، نركز فيها على مسار شخصيتين نرصد عبرهما مآلات التنظيم في سوريا اليوم؛ خالد، السجان الذي يحاول التعايش مع ماضيه وسامي (اسم مستعار) الفتى الذي عاش تجربة مواجهة الضحية في أضعف لحظاتها. تتقاطع هاتان الشهادتان مع شهادات أخرى تكشف عن أثر العنف الممنهج والتجنيد القسري على مستقبل هؤلاء الأطفال وتوثق تجربة جيل كامل سُرقت طفولته، لكنها أيضاً تطرح أسئلة ملحة حول هزيمة التنظيم فعلياً أو احتمالات نهوضه من جديد.

فبعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها سوريا، على أثر سقوط نظام بشار الأسد واستلام «هيئة تحرير الشام» عبر الإدارة الجديدة زمام المرحلة، يواجه هؤلاء الشباب تحديات جديدة في ظل بيئة مضطربة تزداد تعقيداً، إذ تثير الفوضى الأمنية والفراغ الناجمين عن إعادة توزيع السيطرة بين الفصائل المختلفة مخاوف من عودة نشاط التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، في وقت لا تزال «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تسيطر على شمال شرقي سوريا، تمسك بملف بالغ الحساسية، هو معتقلي التنظيم من رجال ونساء وأطفال لديها.

ويعد هذا الملف ورقة مساومة سياسية تستخدمها «قسد» للضغط على القوى الدولية والإقليمية لضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي لها. ومع غياب حلول واضحة أو خطط فعالة للتعامل مع هذه الفئة، يظل الخطر قائماً من استغلالهم مستقبلاً لتحقيق مكاسب سياسية أو لتعزيز نفوذ عسكري في المنطقة، خصوصاً مع احتمالات تفكيك معتقل «الهول» وخروج أعداد إضافية منهم إلى المجهول.

«داعش» يهدد سوريا الجديدة

مع إصدار التنظيم بياناً حديثاً يهاجم فيه الحكومة السورية الجديدة ويتوعدها إذا «حادت عن طريق الصواب»، تتزايد المخاوف من أن هذه التهديدات ليست مجرد تصريحات دعائية، بل جزء من استراتيجية أوسع لإعادة فرض نفسه على المشهد السوري.

ولا تزال جيوب تنظيم «داعش» نشطة في البادية السورية والعراقية، حيث تنفذ خلاياه عمليات اغتيال وتفجيرات متفرقة، إلا أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هذه العمليات المحدودة، بل في قدرة التنظيم على الاستفادة من الثغرات المتزايدة لإعادة ترتيب صفوفه.

ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن بعض القوى المحلية، سواء من فلول النظام السوري السابق أو حتى قوات سوريا الديمقراطية، قد تجد في استمرار التهديد الداعشي أداة يمكن استخدامها لزعزعة الاستقرار الهش وللحصول على دعم إضافي، سواء من التحالف الدولي أو من الجهات الفاعلة في المشهد السياسي السوري حيث قد يُسمح للتنظيم بتنفيذ عمليات معينة، أو يتم التغاضي عن تحركاته، أو يتم تكليف أفراد منه بمهام في سياق صراعات النفوذ والضغوط السياسية المتبادلة.

سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)
سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)

ويمتلك التنظيم من جهته دافعًا قويًا للانتقام من هزائمه السابقة، خصوصاً أن قياداته تدرك أن خسارة الأرض لا تعني بالضرورة نهاية الآيديولوجيا. ولذلك، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء نفسه عبر استغلال عدة عوامل، من بينها المظالم المحلية، والانقسامات العشائرية، والتدهور الاقتصادي، وحالة الإحباط واليأس التي يعيشها الكثير من مقاتليه السابقين، بمن فيهم أولئك الذين تم تجنيدهم أطفالاً تحت راية «أشبال الخلافة».

هؤلاء، الذين نشأوا في بيئة الحرب والعنف، يواجهون اليوم واقعاً قاسياً: مجتمعاتهم الأصلية ترفضهم، والفرص الاقتصادية تكاد تكون منعدمة، بينما تلاحقهم وصمة الماضي أينما ذهبوا. ومع غياب برامج إعادة تأهيل فعالة، يظل خطر عودتهم إلى التنظيم قائماً، خاصة في ظل استمرار محاولات «داعش» استقطابهم، إما عبر الإغراءات المالية، أو عبر استغلال شعورهم بالعزلة وانعدام المستقبل.

فهل يشكل هؤلاء الشباب، الذين كبروا بين فوهات البنادق، قنابل موقوتة تهدد استقرار سوريا؟

أو أنهم ضحايا ظروف قاسية، تعلّموا منها وينتظرون إعادة دمجهم في المجتمع ليكونوا جزءاً من الحل بدلاً من المشكلة؟

كابوس الماضي الثقيل

«أستيقظ كل ليلة على صراخي. أرى وجوههم في أحلامي. أطفال مثلي، اختفوا واحداً تلو الآخر. بعضهم قتل في المعارك، وبعضهم حاول الهرب فأُعدم. كنت أتظاهر بالنوم حتى لا أسمع بكاءهم في الليل». يقول سامي الذي يبلغ اليوم 24 عاماً عن رحلته المؤلمة ضمن «أشبال الخلافة» في سوريا، وهو بعمر لم يتجاوز الخامسة عشرة، رحلة لم تنتهِ بسقوط التنظيم، بل تحولت إلى كابوس مستمر يطارده في نومه ويقظته على حد سواء ويعيش معركة يومية مع نفسه دون أن يدري إن كان سينجو أم لا.

وعلى رغم أن كلا من خالد وسامي خرجا من كنف التنظيم، لكن حياتهما لا تزال تحمل آثار الماضي.

يعيش خالد في إحدى قرى إدلب، يعمل في محطة وقود، بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه. وبعدما اضطر للعيش مع خاله والزواج من ابنته، وجد نفسه في دوامة فقر لا مخرج منها. فهو لم يكمل تعليمه ولم يكتسب صنعة تعينه.

أما سامي، فيعيش في ريف دير الزور الشرقي الخاضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، حيث يحاول إعادة بناء حياته في ظل تحديات اقتصادية وملاحقات أمنية مستمرة.

سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)
سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)

كثيرون ممن خرجوا من تجربة «أشبال الخلافة» توزعوا في أماكن مختلفة، تتفاوت فيها ظروفهم المعيشية بين الصعوبة والاستقرار. سامي القادم من حماة اضطر لتغيير اسمه والسكن في ريف دير الزور الشرقي خوفاً من الانتقام والوصمة الاجتماعية. بعضهم يعيش في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، يواجهون البطالة وانعدام الاستقرار، بينما اضطر آخرون إلى تغيير أماكن سكنهم بسبب الخوف من محيطهم الاجتماعي.

في تركيا وإقليم كردستان، يعمل الناجون في مهن شاقة، مثل البناء ومعامل النسيج أو التنظيف، لساعات طويلة وفي ظروف قاسية.

وبدأ بعض هؤلاء الشباب بتلقي الدعم النفسي، والبعض القليل وجد طريقه في العمل أو الدراسة، محاولين ترك الماضي وراءهم خصوصاً إذا ما حظوا بدعم أسرهم.

لكن التحدي الأكبر يبقى في نظرة المجتمع لهم كقنبلة موقوتة، لا كأطفال سرقت طفولتهم، ويستحقون فرصة حياة.

يقول سامي: «عندما يعرف الناس قصتي، أرى الخوف في أعينهم. لا يريدون الاقتراب مني، رغم أنني لم أختر تلك الحياة».

أما خالد، فيجد صعوبة حتى في الحديث عن ماضيه: «كيف يمكنني أن أشرح؟ كيف أقول إنني لم أكن أملك خياراً؟».

ورغم اختلاف مصائرهم، فإن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو صعوبة التخلص من الظلال الثقيلة للماضي وهم يتأرجحون بين كونهم ضحايا أو جلادين أو تهديدات أمنية محتملة.

أن تأخذ سبية أو تشهد إعداماً

يتذكر سامي حين جُنّد وهو طفل، يوماً محدداً غيّر مجرى حياته بالكامل. يوم لم تفارقه تفاصيله حتى بعد سنوات من هروبه، ويقول:

«كنت في الخامسة عشرة عندما طلبوا مني الذهاب إلى غرفة وأخذ سبية. لم أفهم تماماً ما يريدون مني فعله. كنت أشعر بالخوف والارتباك، ولكن لم يكن مسموحاً لي بأن أسأل. عندما دخلت، رأيت فتاة صغيرة تبكي. كانت طفلة، أصغر مني بسنة أو سنتين. نظرنا إلى بعضنا، وبدأنا بالبكاء معاً. لم أستطع تحمل الموقف وشعرت بأنني أختنق. تلك الليلة لم أنم، كنت أرى وجهها في كل مكان. كنت أتساءل: هل ما زالت هناك؟ هل أنقذها أحد؟».

ما زال سامي يعيش في تلك الليلة، وكأن الزمن توقف عندها. كلما تذكرها، تتجدد مشاعره كما لو أنه ما زال ذلك الصبي الخائف الذي لم يفهم العالم.

أما خالد، فكان أصغر من سامي عندما جُند، ويتذكر أول عملية إعدام شهدها، ولا تزال تفاصيلها محفورة في ذاكرته كأنها حدثت أمس:

«كنت في الخامس الابتدائي. كان أمامنا رجل مقيد على ركبتيه، وعيناه معصوبتان. القائد أمر أحد الفتيان بالتقدم. لم يرفض، لم يتردد. وكأنه آلة مبرمجة. رفع السكين وقطع رأس الرجل. لم أتحرك. لم أستطع حتى أن أرمش».

بعد سنوات، ما زال خالد يعاني من آثار بعد الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظة، مشاهد الدماء، الصوت الخافت الأخير للضحية، النظرات المذعورة، كلها مطبوعة في ذاكرته. لم يكن وحده في ذلك، فقد أظهرت الشهادات التي جمعناها أن معظم «الأشبال» الذين شهدوا عمليات الإعدام الأولى كانوا يعانون من حالة من الصدمة العاطفية الصامتة، حيث كان يُطلب منهم عدم إظهار أي تأثر، بل وتشجيعهم على الإعجاب بالمشهد بعدّه «تنفيذاً لحكم الله».

يقول ناصر، أحد الناجين من هذه التجربة: «كنا مجموعة من الأطفال، لا نعرف ماذا يحدث حقاً. في البداية، كنت أظن أن كل شيء مجرد تمثيل، حتى أدركت أن الدماء حقيقية. كنت أحاول ألا أنظر، لكن القادة كانوا يجبروننا على المشاهدة. يقولون: هذا مصير المرتدين، وهذا سيكون مصيركم إذا خالفتم الأوامر».

كان الهدف واضحاً: تحويل الأطفال إلى آلات قتل، ونزع إنسانيتهم تدريجياً عنهم وتحويلهم إلى أدوات في ماكينة الموت الجماعي.

بعد سنوات من الفرار من التنظيم، لا يزال سامي يستيقظ كل ليلة على صراخه. يقول إنه يرى الفتاة الصغيرة في أحلامه باستمرار: «أحياناً أراها تصرخ، أحياناً تكون صامتة، لكن نظرتها تطاردني. لا أستطيع الهروب منها، كما لم تستطع هي الهروب مني حينها».

أما خالد، فمشكلته مختلفة، لكنها متجذرة في صدمته ذاتها. يقول بصوت منخفض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «كلما رأيت سكيناً، أشعر برعشة. لا أستطيع حتى تقطيع الخبز دون أن تعود لي الصور. حتى حين أشاهد فيلماً عادياً فيه مشهد عنف، أشعر أنني أختنق».

تظهر شهادات أخرى أن العديد من «الأشبال السابقين» يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بدرجات متفاوتة. يقول ياسر، أحد الناجين: «أحلم دائماً بأنني أركض في ممر طويل لا نهاية له، وفي نهايته أرى وجوه القتلى تنظر إليّ. لا أستطيع الهروب، لا أستطيع حتى الصراخ».

جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)
جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)

رسالة تجنيد من مجهول

على الرغم من انهيار دولة «الخلافة»، لم يتوقف تنظيم «داعش» عن محاولاته لاستعادة نفوذه عبر حواضنه السابقة نفسها. لكن الأساليب تغيّرت، وأصبحت أكثر تعقيداً ولا مركزية، ما يجعل من الصعب تتبعها أو القضاء عليها تماماً. فمع ظاهرة التكليف بمهام محددة خارج الإطار التنظيمي أو قيادة مركزية، أصبح هناك عمل مستقل، ودون تنسيق مباشر أحياناً، لدرجة أن بعض الأفراد المستهدفين قد يتلقون أكثر من عرض للتجنيد من جهات مختلفة تابعة للتنظيم، دون أن يعرفوا أيها أكثر ارتباطاً بهيكل القيادة السابق.

يقول خالد: «وقعت في الأسر وبعد فترة من خروجي، جاءني شخص لا أعرفه، بدا ودوداً جداً. لم يقل لي مباشرة إنه من التنظيم، لكنه كان يلمّح دائماً إلى أن الماضي لم ينتهِ، وأن هناك فرصة للعودة إلى العائلة. وبدا أنه يعرف تفاصيل عن حياتي، وعن سجني، وحتى عن الأشياء التي لم أخبر بها أحداً. فمن أين حصل على هذه المعلومات؟».

مثل خالد، تلقى سامي أيضاً عروضاً غير مباشرة، لكنها كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يستخدم التنظيم حسابات مزيفة على «تلغرام» و«واتساب» لاستدراج الشباب. ويقول: «ذات يوم، وصلتني رسالة من مجهول عبر تلغرام. قال لي إنه يعرف ما مررت به، وإن هناك طريقة لأجد مكاني في الحياة من جديد. بدأ بالحديث عن الظلم، وكيف أننا مجرد أدوات تم استغلالها ثم رُميت جانباً. كان بارعاً جداً في اختيار كلماته، كأنه طبيب نفسي يعرف كيف يصل إلى نقاط ضعفي».

وبالإضافة إلى الأساليب التقليدية للتجنيد، يستغل التنظيم التكنولوجيا الحديثة، وألعاب الفيديو التي تروج للأفكار الجهادية والمنتديات المغلقة. في بعض الأحيان، يتم إرسال روابط مشفرة تحتوي على رسائل دعائية، أو فرص تعليمية ومنح دراسية تبدو عادية، لكنها في الواقع وسيلة استدراج إلى مناطق النفوذ.

وبدأ التنظيم في فترة من الفترات الاعتماد على أشخاص لم يكونوا مقاتلين بالضرورة، بل عملوا في مجالات مدنية ولهم قبول بين الناس مثل عمال الإغاثة أو الخدمات اللوجيستية أو غيرها من القطاعات المدنية التي كانت تابعة للتنظيم في فترة سيطرته. ويقول خالد: «أخبرني صديق قديم بأنه يعمل مع شخص ميسور يقوم بتوزيع الأموال والسلال الغذائية والبطانيات للقرى الفقيرة، وقال لي إنه بإمكاني الانضمام والعمل معه. لاحقاً، عرفت أن هذا العمل ليس سوى غطاء، وأن بعض العاملين فيه هم في الحقيقة من أفراد التنظيم السابقين».

سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)
سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)

المجتمع يرفضنا والحكومة لا تثق بنا

تشكل الظروف الاقتصادية، كما الوصمة الاجتماعية، عاملاً رئيساً في استمرار نجاح التنظيم في تجنيد الشباب. يعيش كثير من هؤلاء الفتية في مناطق تفتقر إلى فرص العمل، ويعانون من التهميش الاجتماعي، ما يجعلهم عرضة للإغراءات المالية التي يقدمها التنظيم.

يقول سامي: «عندما خرجت، لم أجد أي عمل. حاولت أن أبدأ من جديد، لكن الجميع كان ينظر إليّ كتهديد. لم أكن أملك شيئاً، ولا مستقبلاً. في لحظات اليأس، فكرت: ماذا لو عدت؟ على الأقل سأحصل على شيء مقابل المخاطرة. لا أحد يقبل توظيفي هنا، الجميع يراني تهديداً».

أما خالد، فيتحدث عن شعور آخر يلازم معظم الناجين من تجربة «أشبال الخلافة»: العزلة. «المجتمع لا يريدنا، والحكومة لا تثق بنا. نحن عالقون في مكانٍ لا نعرف إلى أين نذهب منه. عندما يأتي شخص ويقول لك: نحن لم ننسَك، نشعر أنك ما زلت واحداً منا، فإنك قد تفكر في الأمر».

أحد الشهود الآخرين قال: «عندما لا تجد طعاماً، وعندما يرفض الجميع توظيفك لأنك كنت يوماً جزءاً من التنظيم، تبدأ في التفكير في الخيارات المتاحة أمامك. بعضنا قوي بما يكفي لرفض العودة، لكن البعض الآخر قد لا يملك القدرة نفسها».

حرب طويلة

من الأمور التي زادت من ارتباك الناجين أن التنظيم يبدو وكأنه يعرف كل تحركاتهم. لم يكن الأمر يقتصر على مجرد رسائل أو محاولات لقاء، بل في بعض الأحيان كانوا يجدون أنفسهم محاطين بأشخاص يعرفون عنهم تفاصيل لم يشاركوها مع أحد.

يقول خالد: «بعد خروجي بفترة، كنت أعيش في مكان بعيد عن أي شيء له علاقة بالتنظيم. لكن فجأة، ظهر شخص في المسجد الذي كنت أصلي فيه. كان يتحدث عن كيف أن بعضنا قد ضلّ الطريق، لكنه يستطيع العودة. عندما اقتربت منه وسألته عن قصده، قال لي شيئاً جعل الدم يتجمد في عروقي: أنت كنت هناك، أنت تعرف ما أعنيه».

قد تكون دولة «الخلافة» قد سقطت، لكن أفكارها لم تختفِ، وأساليبها تتطور دائماً لتتلاءم مع أي واقع جديد. بالنسبة لخالد وسامي وغيرهما من «الناجين»، فإن الصراع لم يكن يوماً مجرد معركة سلاح، بل هو حرب نفسية مستمرة، حيث يحاولون الحفاظ على هويتهم الجديدة، بينما يواجهون أشباح الماضي ومحاولات التنظيم لاستعادتهم، بينما سوريا اليوم مفتوحة على خيارات لا تحصى.