إقفال ملف التحقيق في احتمال وجود تواطؤ بين حملة الرئيس الأميركي وروسيا، أسدل الستار على قضية سمّمت الأجواء السياسية في الولايات المتحدة منذ اليوم الأول لتسلم دونالد ترمب مقاليد الرئاسة.
ورغم أن البعض وخصوصاً من الديمقراطيين، لا يزال يصرّ على الاطلاع على تقرير المحقق الخاص روبرت مولر، على اعتبار أنه لم يقل كلمة الفصل في قضية إعاقة تطبيق القانون والتأثير على سير التحقيقات، فإن الأجواء باتت تميل نحو طي الصفحة، بحسب كثير من المعلقين والمراقبين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
واندفع الحزبان لطرح ملفات وقضايا خلافية كثيرة على طاولة صراعاتهما، على أمل ألا تُلقي بظلالها أو تعطل عمل المؤسسة السياسية الأميركية، كما جرى على امتداد أكثر من سنتين.
لكن السؤال الملحّ الذي يتبادر إلى ذهن أي مراقب أو محلل للسياسة الأميركية، يتعلق بصحة رهان الديمقراطيين على محاولة تعطيل رئاسة ترمب، اعتماداً على فرضيات وصلت إلى حد اتهامه بالعمالة لروسيا، ما يشير إلى جسامة الخطأ الذي كشف عن عدم فهم واستيعاب للظاهرة التي عبّر ويعبر عنها ترمب في الولايات المتحدة بل في العالم كله.
شَرَح مستشار ترمب الاستراتيجي السابق ستيف بانون قبل أيام من وصول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض كيف تنامت الحركة التي يعبر عنها عبر القارات، حين قال: «إنها الحركة الشعبوية الجديدة التي قدمت الدعم لنايجل فاراج في استفتاء (بريكست) في بريطانيا، وحركة النجوم الخمس ورابطة الشمال في إيطاليا، والرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ومارين لوبان في فرنسا»، فضلاً عن الحركات اليمينية المتصاعدة في كثير من الدول الأوروبية.
ترمب منذ اليوم الأول لإعلان ترشحه في السباق الرئاسي عام 2015، كشف عن برنامج سياسي، أقل ما يقال فيه إنه نموذج لبرنامج التيار اليميني الشعبوي، الذي نصحه بانون باستخدامه، ليكسب الرأي العام، ويفوز في الانتخابات، حتى لو قرر التخلي عنه لاحقاً.
لكن الحزب الديمقراطي الذي تكبّد خسارة فادحة في انتخابات 2016 رغم فائض الثقة التي كان يتمتع بها، لم يتوقف كثيراً لتحليل أسباب خروج بانون نفسه من إدارة ترمب، وهو لم يكمل بعد سنته الأولى، ليتولى الرجل لاحقاً شرح أسباب خروجه من عباءة ترمب، قائلاً إن شخصيات يمينية أوروبية عدة أكثر ديناميكية من ترمب في «الدفاع عن الجذور اليهودية المسيحية للغرب، وعن العائلة التقليدية، وعن القانون والنظام والحرب على الماركسية الثقافية»، وهي قضايا تبيّن أن ترمب لا يشاطر بانون الرأي فيها بشكل كامل.
الاتهامات التي وُجّهت إلى روسيا بسبب محاولتها التدخل في الانتخابات الأميركية والأوروبية، لا تُخفي أن رئيسها فلاديمير بوتين كان ولا يزال يسعى إلى تعميم نموذج جديد في إنتاج وتداول السلطة، على حساب الديمقراطية، في ظل إدراكه لأزمتها، كنموذج بات يحتاج إلى عمليات تصحيح جذرية.
كما أن الحزب الديمقراطي لم يقرأ جيداً هجمات ترمب على حلفاء الولايات المتحدة وشركائها وجيرانها، من حلف «الناتو» إلى كندا والمكسيك وكوريا الجنوبية واليابان، وسعيه لإلغاء الاتفاقيات التجارية، بما فيها المنضوية تحت منظمة التجارة العالمية، التي تنظم «العولمة الاقتصادية»، واتفاق باريس للمناخ، في مسعى لتجديد سيطرة الرأسمال الأميركي بنسخة أكثر توحشاً.
هكذا، انحاز ترمب إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهكذا يروج مستشاره السابق بانون بأن «الانتخابات الأوروبية المقبلة هي الأهم، وأن ما بعدها لا يمكن أن يكون كما قبلها، وأهمية هزيمة محور ألمانيا - فرنسا، لإعادة إحياء الأمم الأوروبية، حيث تدير كل دولة شؤونها من دون الخضوع لمشيئة زمرة من البيروقراطيين في بروكسل».
هذا ما يروج له سيد الكرملين تماماً، وهو ما لم يلتقطه الديمقراطيون، أو على الأقل تغافلوا عنه، لأسباب قد يكون من بينها عدم امتلاكهم أدوات رد سياسي حقيقي. وبدلاً من ذلك، اختاروا المواجهة القضائية وفتح الملفات الفضائحية، مستخدمين الإعلام بشكل مكثف. لكن جهودهم لم تثمر بالكامل، وأدّت إلى زيادة شعبية ترمب في أوساط قاعدته، وتزايد تمسكها بخطابه. لا، بل أطلقت هجوماً معاكساً بعد صدور تقرير مولر الذي برّأه من تهمة التواطؤ والعمالة لروسيا، واستهدف خصوصاً الإعلام المعارض له، في محاولة لتثبيت الأوصاف التي أطلقها ترمب متهماً إياه بالإعلام الكاذب.
ترمب الذي يواصل تنفيذ «وعوده الانتخابية»، يثبت يوماً بعد يوم أنه أمين لتنفيذ برنامجه السياسي، الذي يعكس فكر وآراء الطاقم السياسي، الذي يعتبر داخل واشنطن، أنه الأكثر تشدداً في تاريخ الإدارات الأميركية، سواء في سياساته الداخلية والخارجية.
وهو يكاد ينهي كل إرث سلفه باراك أوباما، وفتح أخيراً معركة إلغاء برنامج رعايته الصحية المعروف بـ«أوباما كير»، بعدما قلص كثيراً من المساعدات الاجتماعية والتعليمية والصحية المتواضعة أصلاً، ومنح إعفاءات ضريبية كبيرة لأصحاب الرساميل والشركات الكبرى.
وأصدر أكبر ميزانية عسكرية في تاريخ الولايات المتحدة بقيمة 750 مليار دولار، وشكّل قيادة عسكرية جديدة لقوة الفضاء، ودخل في مواجهة اقتصادية وتجارية مع كل من الاتحاد الأوروبي والصين، وصولاً إلى تطبيق أكثر السياسات الأميركية انحيازاً لإسرائيل، عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لها ونقل سفارة بلاده إليها، ثم اعترافه بسيادتها على هضبة الجولان السورية المحتلة.
باختصار، ترمب الذي يتسلح بأداء جيد للاقتصاد الأميركي، يسعى إلى قلب الطاولة على الجميع، فيما الديمقراطيون عاجزون ومعهم قادة القارة الأوروبية الغارقون في أزماتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عن صياغة رد سياسي يعيد الاعتبار لمفهوم الديمقراطية وقضيتها.
ويخشى البعض من أن تُصدق نبوءة بانون، الذي توقع أن يؤدي تقرير مولر إلى تجديد انتخاب ترمب لفترة رئاسية جديدة عام 2020 بنسبة تفوق انتخابات 2016، وإلى فوز قيادات شبيهة به في بلدان عدة، من أوروبا إلى أميركا اللاتينية وآسيا.
تقرير مولر يكشف عجز الديمقراطيين عن فهم ظاهرة ترمب
تقرير مولر يكشف عجز الديمقراطيين عن فهم ظاهرة ترمب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة