د. أحمد المطيلي: كيف نبني الذات العربية إن اضطربت نفسية طالب العلم؟

كتاب مغربي عن ضعف تدريس علم النفس المدرسي ومشكلات المتعلمين

د. أحمد المطيلي: كيف نبني الذات العربية إن اضطربت نفسية طالب العلم؟
TT

د. أحمد المطيلي: كيف نبني الذات العربية إن اضطربت نفسية طالب العلم؟

د. أحمد المطيلي: كيف نبني الذات العربية إن اضطربت نفسية طالب العلم؟

للدكتور أحمد المطيلي صدر أخيراً كتاب «علم النفس المدرسي - معالم نظرية ومنهجية وتطبيقية»، الذي جمع فيه بين خبرتي المنظر والمعالج الميداني. وهو أول كتاب في بابه عن علم النفس المدرسي في المكتبة المغربية. ويأتي في سياق سياسة الإصلاح التي تنتهجها وزارة التعليم في البلد والدعوة لتطوير الخدمات النفسية والتربوية والاجتماعية المقدمة للطفل والمدرس والأسرة جميعاً. هنا حوار مع المؤلف حول الإصدار الجديد، والأسباب التي أدت إلى ضعف تدريس علم النفس المدرسي، والمشكلات التي تلم بالمتعلم، مثل عسر القراءة وعسر الإملاء وعسر الكتابة وعسر الحساب...
> هل ثمة اختلاف بين علم النفس المدرسي وعلم النفس التربوي؟ أم أن المسألة تتعلق بصياغات مختلفة للموضوع ذاته؟
- حقاً هناك تداخل بين مجالات علم النفس التربوي وعلم النفس المدرسي مع فارق دقيق؛ هو أن علم النفس التربوي يهتم أساساً بسيرورة التعلم ورفع كفاية المتعلم والمعلم، كما يسعى إلى تحسين البرامج الدراسية والمناهج التعليمية المتبعة وطرق مختلف وسائل التقييم. فهو من أهم الروافد التي يمتح منها علم النفس المدرسي بجانب روافد أخرى. أما النفساني المدرسي فيستعين في عمله بنظرة أشمل تراعي مختلف الجوانب المتصلة بالنمو الوجداني والانفعالي والمكونات الشعورية واللاشعورية والصلات الأسرية والاجتماعية التي تتحدد بها شخصية الطفل وتحدد مختلف الأنماط السلوكية التي يأتيها الطفل داخل المؤسسة التعليمية أو خارجها. وعنده أن سيرورة التعلم لا تقتصر على العوامل المعرفية فقط وإنما تتصل اتصالاً شديداً بمختلف مجريات الحياة الوجدانية والانفعالية والأسرية أيما اتصال، وهي لذلك تستوجب اهتماماً قد لا يقل أهمية عن العوامل المعرفية. وتبعاً لذلك يتولى النفساني المدرسي الكشف عن مختلف الاضطرابات التي تلم بالمتعلم، مثل مشكل اضطرابات الانتباه والكلام والتخلف الذهني ومختلف أنماط سوء التوافق النفسي والمدرسي. ثم إن المسألة مسألة تأهيل كذلك، فقد نجد من المختصين في مجال علم النفس التربوي من لم يحصل على تأهيل مهني كافٍ يمكنه من استثمار معارفه النظرية استثماراً تطبيقياً يؤهله لمقابلة الطفل والأسرة وتطبيق مختلف الروائز لقياس الذكاء ومختلف مناحي الشخصية. ومع ذلك أقول بضرورة التعاون بين المختصين في هذين المجالين، كلما أمكن ذلك خدمة لكل من الطفل والأسرة والمدرس.
> هل يمكن لعلم النفس المدرسي أن يقوم بمهمته منفرداً؟ أم أنه في حاجة إلى دعم وتكامل مع بقية الفروع العلمية الأخرى؟
- علم النفس المدرسي علم تطبيقي قائم الذات، لأنه يتشكل من موضوع ومنهج ويستهدي بأسس وتصورات نظرية معلومة. غير أنه ليس علماً منقطع الصلة عن بقية الفروع الأخرى وما ينبغي. فالفروع النفسية الأخرى بمثابة روافد يستقي منها مفاهيمه ونظرياته وطرائقه المنهجية. وقد ذكرت منها القياس النفسي وعلم النفس المرضي وعلم النفس العيادي وعلم نفس النمو وعلم النفس التربيائي وعلم النفس الاجتماعي والتحليل النسقي وعلم النفس المعرفي. فعلم النفس يستعين بهذه الفروع جميعاً وفق نظرة تكاملية دعوت إليها في آخر الكتاب تفادياً للنظرة الجزئية التي تسلط الضوء على جانب محدد وتترك بقية الجوانب الأخرى في الخفاء.
> أشرت في تقديم كتابك إلى بعض العوامل التي تفسر قلة تدريس علم النفس المدرسي في المؤسسات الجامعية... هل يمكن أن توضح لنا الأمر بشكل أكثر تفصيلاً؟
- بالفعل لقد أثرت هذه المسألة في بداية كتابي لما رأيته من غياب لهذه المادة في برامج التدريس الجامعي في عدد من الدول العربية التي قدر لي الاطلاع على برامجها في مختلف أسلاك التعليم العالي.
فأنا أفترض أن مرد هذا الغياب عدم الاهتمام بهذا الفرع من فروع علم النفس التطبيقي، بدليل أن الخدمات التي يقوم بها النفساني المدرسي كالفحص النفسي، والتتبع النفسي للتلاميذ غير مستوفاة في المؤسسات الحكومية. ومن أجل ذلك يلزم مأسسة هذه الوظيفة بتعيين النفسانيين المدرسيين على غرار ما تفعله عدد من الدول التي أدركت الفائدة المتوخاة من المهام المذكورة خدمة للتلميذ وللأسرة وللمجتمع جميعاً. مع أن كثيراً من الأصوات قد ارتفع في الآونة الأخيرة للمطالبة بإصلاح التعليم وتجويده والوقاية من الأخطار المتربصة بالتلميذ كالمصاعب الدراسية واضطرابات التعلم وما تفضي إليه من سوء التوافق النفسي والعنف والتعثر والفشل والهدر المدرسي وما شابه. فعلم النفس يستجيب لداعي الإصلاح الذي ينشده القائمون على شؤون التعليم ويهفو إليه الداعون للنهوض به وتجويده.
> يلاحظ أنك تستعمل بعض المصطلحات غير المتداولة في كتابك من قبيل «علمياء» بديلاً عن نظرية المعرفة أو استخدام كلمة «تربيائية» بديلاً عن تربوية وكذلك كلمة «مأسسة»...
- أشكرك على انتباهك إلى مشكل المصطلح هذا. حقاً لقد لجأت إلى استخدام بعض المصطلحات غير المعهودة بين عموم القراء، بل وعند بعض المختصين أنفسهم. فقد استخدمت لفظ «علمياء» بديلاً لما يصطلح عليه بمبحث المعرفة أو الأبستمولوجيا، واستعملت لفظ «التربياء» للدلالة على علم التربية أو البيداغوجيا. وكلا اللفظين صيغ على وزن فعلياء التي تستخدم للدلالة على مباحث معينة مثل مبحث السيمياء.
وأما لفظا الفيزياء والكيمياء فهما مصطلحان مستحدثان للدلالة على مبحثين قديمين. وما شجعني على هذا المنحى الاصطلاحي أني لاقيت استحساناً من المشاركين في الدورات التدريبية التي أشرفت على تنشيطها، فكان عدد من الأساتذة يستحسنون أن تصاغ مصطلحات عربية خالصة ويستثقلون بديلاتها ذات الأصل الإغريقي. على أن البعض الآخر كان يساير الألفاظ الشائعة ولا يجد غضاضة في استعمالها لشيوعها. وقد اجتهدت كذلك في ابتداع مصطلح «الاستمهاء» للدلالة على قدرة الفرد على أن يضع نفسه مكان الغير ليحس بما يعتمل في نفسه من أحاسيس ومشاعر وشواغل فيتمكن من مد يد المساعدة إليه. وما عدا ذلك، فقد حرصت على استخدام المصطلحات النفسية الشائعة ما دامت تفي بأغراض البيان والتفاهم وتستجيب لمقتضيات الفصاحة والدقة والسلاسة والشيوع. ولم أتوانَ عن تذييل الكتاب بثبت المصطلحات المستعملة ومقابلاتها بالفرنسية والإنجليزية تيسيراً على القارئ المتخصص.
وليت المختصين في علم النفس وفي بقية المجالات العلمية يحذون هذا الحذو اجتناباً لكثير من مظاهر الفوضى الاصطلاحية المستشرية في كثير من الكتابات العربية الحديثة تأليفاً وترجمة.
> ما أهم المشكلات التربوية والنفسية التي تناولتها في كتابك والأسباب التي أفضت إليها؟
- لقد أفردت فصلاً خاصاً لتناول عدد من المشكلات الدراسية والنفسية التي تلم بالمتعلم.
وفي مقدمة المشكلات الدراسية نجد اضطرابات التعلم مثل عسر القراءة وعسر الإملاء وعسر الكتابة وعسر الحساب. وهذه من أهم الاضطرابات التي تضر بالمتعلم وتتسبب له في مشكلات لا حصر لها، وقد تفضي به رأساً إلى التعثر الدراسي بل الفشل والانقطاع، علماً أنها اضطرابات تصيب أطفالاً لا تقل معدلات ذكائهم عن المتوسط، بل قد نجد منهم ذوي درجة عالية من النباهة والذكاء. ونحن نعرف أن عدداً من المشاهير في الشرق والغرب عانوا من بعض هذه الاضطرابات، ولولا العين الساهرة لبعض المدرسين وحرص الآباء لكان مصيرهم الشارع. وقد قدر لي في آخر مؤتمر وطني شاركت فيه بالرباط أن صادفت طبيباً مغربياً متخصصاً ورئيساً لإحدى الجمعيات الطبية المتخصصة أسَرّ لي في حديث خاص معه أنه يعاني من عسر القراءة، وقد استطاع رغم كل المصاعب التي لاقاها أثناء دراسته في المغرب وفي فرنسا لاحقاً أن يغالب بكل ما أوتي من قوة تبعات هذا الاضطراب وأن ينجح في دراسته ويصل إلى ما وصل إليه. وثمة مشكلات نفسية كثيرة ذكرت منها مشكلة اضطراب الانتباه والكلام والتخلف الذهني ومشكل التفوق والعنف والهروب من المدرسة والغش في الامتحانات والرهاب المدرسي. ولم يفتني أن أثير مسألة الاضطرابات العضوية التي يعاني منها المتعلم كمشكل الإعاقة بأنواعها الحاسية والحركية والذهنية وما تستوجبه من اهتمام وعناية خاصة. وتقتضي هذه المشكلات على اختلافها كشفاً وفحصاً وتشخيصاً وتتبعاً.
> ماذا عن طرق العلاج وإمكانات الأخصائي النفسي في التدخل؟ وما العقبات التي تقف أمامه وكيف يمكن في نظرك التغلب عليها؟
- بعد عملية الكشف والفحص والتشخيص تأتي عملية التتبع والإرشاد والعلاج، والأفضل منها جميعاً عملية الوقاية.
إذ إن عدداً لا يستهان به من المشكلات التي تلم بالطفل المتعلم في مختلف مراحل التعليم قد يكون مردها إلى الروابط الأسرية والأساليب التربوية المتبعة في المعاملة أو التدريس. ومن شأن الاستشارة النفسية التي يحرص عليها النفساني المدرسي بمعية والدَي الطفل أو أحد أعضاء هيئة التدريس أن تمكنه من الوقوف على حيثيات الاضطرابات التي تظهر على الطفل ونمط الاستجابة التي يسلكها في البيت أو في الفصل الدراسي، فتكون وسيلة لتغيير عدد من التمثلات وتوضيح عدد من المسببات واستشراف طرق أخرى أقل كلفة وأيسر تنفيذاً وأجدى نفعاً. أما عن العلاج النفسي فالقاعدة المتبعة أن المشكلات التي تتصل اتصالاً مباشراً بالمؤسسة التعليمية؛ إن من حيث نمط التعامل أو المناخ المدرسي السائد والعلاقات القائمة بين الطفل وأقرانه مثلاً، تعالج في المؤسسة نفسها. فمن شأن بعض التعديلات التي بوسع المدرس أو أعضاء الهيئة الإدارية إجراؤها داخل الفصل أو في الفضاء العام للمؤسسة التعليمية أن تبدد الاضطراب الذي يلم بالطفل ولو بمقدار. وأما الاضطرابات النفسية التي تمس شخصية الطفل أو التي تتصل بالقصور أو الخلل في ملكاته الذهنية والمعرفية والأداتية فيحبذ علاجها في المراكز المتخصصة.
> كيف تفسر الإهمال الجسيم الذي تتعرض له وظيفة الأخصائي النفسي في المدارس والمؤسسات التعليمية إلى درجة أن من يقوم بهذه الوظيفة في بعض الأحيان لا صلة له من قريب أو بعيد بهذه الوظيفة المفيدة لصحة ومستقبل التلاميذ والطلاب؟
- تلك إحدى النتائج المترتبة عن الغفلة عن مهنة النفساني المدرسي، ذلك أن عدداً من المهام التي يضطلع بها النفساني المدرسي بحكم تخصصه توكل إلى أشخاص آخرين غير مؤهلين للقيام بها، وتهمل البقية الباقية منها كالفحص النفسي بواسطة الروائز المستخدمة في تقييم مستوى ذكاء المتعلمين وكفاياتهم وشخصياتهم ومعارفهم الدراسية، وتتبع حالات التلاميذ الذين يلم بهم عدد من الاضطرابات النفسية والمشكلات الدراسية فتعيق مسيرتهم التعليمية وتحول بينهم وبين الانشراح النفسي والتوافق الدراسي.
ونحن نعلم أن الفحص المبكر الذي يتولى النفساني القيام به في مستهل كل عام دراسي أو كلما دعا داعٍ إليه مثل التنبيه الصادر من أحد المدرسين أو أولياء التلاميذ أو عند إعلان النتائج الدراسية في نهاية كل دورة دراسية، كل ذلك كفيل بالكشف عن حالات التلاميذ التي تستدعي تتبعاً خاصاً أو رعاية نفسية أو تربوية أو طبية داخل المؤسسة التعليمية نفسها أو في المصالح المتخصصة في الوقت المناسب. ولعل أحد أسباب الهدر المدرسي الذي يستنزف كل سنة أعداداً هائلة من المتعلمين في مختلف مراحل التعليم إنما يعزى إلى انعدام المواكبة النفسية للتلاميذ وعدم محاصرة المصاعب الدراسية واضطرابات التعلم التي يقاسي منها المتعلمون في صمت وتتضرر منها الأسر وتؤخر مسيرة المجتمع بأسره.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».