«فولتير»... معضلة سمو الفكر وتدني الأخلاق

فولتير
فولتير
TT

«فولتير»... معضلة سمو الفكر وتدني الأخلاق

فولتير
فولتير

يعد الكاتب الفرنسي «فولتير» من أهم كتاب النصف الثاني من الألفية الثانية، فهو ابن حركة التنوير في أوروبا، وعلى رأس كل من نادى بتحرير العقل من الخرافات، والالتزام بالمنهج العقلي في تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية. ومع ذلك، فهو أكثر من تميز في النصف الأول من القرن الثامن عشر، برغم وجود شخصيات عظيمة قد تعلو عنه فكراً، ولكنه تميز عنهم جميعاً لقدرته على دمج الرؤية الثاقبة ووحدة الهدف، ومزجهما أحياناً بسخرية مدببة في جمل أو كلمات قصيرة تعلو في رنينها، فتجعلها سهلة الفهم عميقة الأثر، وهو ما منحه لقب «الحاكم الفكري لأوروبا»، رغم أنه لم يقدم في حقيقة الأمر منظومة فلسفية متكاملة كبعض معاصريه، مثل «روسو» و«ديديرو»، ولكن ملكاته الاجتماعية الفريدة جعلت الملوك والأمراء الأوروبيين يتهافتون عليه. وحقيقة الأمر أن لفولتير وجهاً آخر كثيراً ما يخفى على قرائه.
لقد ولد فولتير في 1694، ودرس في مدارس «اليسوعيين»، ثم انخرط في دراسة القانون، ليتركه سعياً للتركيز على الفكر والكتابة والشعر، فبدأ يكتب ويسعى للتقرب وتملق القيادات السياسية، سعياً لتبوء مركز المفكر السياسي لهم، ولكن كتاباته سرعان ما أودت به إلى سجن «الباستيل»، لمهاجمته إدارة الملك لويس الرابع عشر.
وسافر بعد ذلك لإنجلترا التي شكلت القاعدة الفكرية له، خصوصاً لاتصاله بالمفكر العظيم «جون لوك» رائد المدرسة الليبرالية، والعالم العظيم «إسحق نيوتن»، فكان تأثيرهما عليه عظيماً، فغرس الأول فيه التوجه الليبرالي المطلق، بينما دفعه الثاني لتبنى النظرة العقلية، بمنهجية تجريبية بحتة، بعيداً عن التعاليم التقليدية السائدة، وهو ما أدي لرفضه الكامل لكل ظواهر الخرافات، والتزامه بالمنهج العقلي، حتى لو كان على حساب الإنسانية. وقد قام بنشر كتبه في هولندا آنذاك، بسبب الرقابة الصارمة في فرنسا، كما أقام ضيفاً على ملك بروسيا «فريديرك العظيم» لسنوات ممتدة، إلى أن اختلف معه. وعندما سُئل عن سبب فراقهما، قال ساخراً: «لقد سئمت من غسيل الملابس الداخلية للرجل»، قاصداً بذلك إصلاحه لقصائد الشعر الركيكة المملة التي كان الملك يؤلفها.
وعقب عودته من رحلاته الممتدة، استقبله الفرنسيون استقبال الفاتحين في باريس، بعدما كانت رواياته ومقالاته وكراساته منتشرة، وتدعو إلى التحرر من التقاليد المقيدة للفكر، والدعوة للتحرر السياسي، فلقد ركز الرجل كل جهده على محاور متعددة، على رأسها محاربة امتيازات الطبقات الأرستقراطية، والتعصب الديني، والخرافات السائدة في المجتمع، وإدارة الكنيسة للسياسة، والقوانين الظالمة، والفساد في الأنظمة السياسية. ورغم سعى بعض المفكرين والساسة لتسخير كتاباته بعد مماته لصالح الثورة الفرنسية التي اندلعت في 1789، فإن الرجل لم يدعُ يوماً إلى الثورة، بل كان متأثراً بشدة بـ«الثورة المجيدة» الإنجليزية التي أتت بالملكية البرلمانية بشكل سلمي للغاية، بعد الحرب الأهلية بأربعة عقود تقريباً، فكان من المؤمنين بنظرية التطور، وليس الثورة، لأثر الأخيرة السلبي على النظام السياسي ككل، فنهج الإصلاح على أسس فكرية وتنويرية كان أهم ما دعا إليه، ولكن الكنيسة وسلوكياتها لم تسلم من كتاباته ونقده اللاذع طوال عمره، إلى الحد الذي كاد يهدد مراسم دفنه وفقاً للمذهب الكاثوليكي.
ولم تخل التقييمات من النقد الشخصي الحاد لسلوكيات فولتير، فلقد وصفه كثيرون ممن عاشروه بأنه لا خلق له على كل المستويات، فقد ثبت وجود علاقة آثمة له بابنة أخته، كما أنه كان شخصية عنيفة، وصاحب مؤامرات ودسائس، لا صاحب ولا أخلاق له عندما يتعلق الأمر بمصالحه وتعدد المنافسين من حوله، فتؤكد المصادر أنه اعتمد دائماً على فطنته ومقامه لدي الملوك والأمراء للإطاحة أو تحقير منافسيه، أو كل من هدد مكانته الفكرية، ولعل الصراع المفتوح الذي دب بينه وبين «جان جاك روسو»، وهما أعظم من أنجبهما عصر التنوير، يعد دليلاً على ذلك، فرغم سعي روسو في مناسبات كثيرة للتودد لفولتير، فإن الأخير تعمد تحقيره علناً بشكل لا أعتقد أنه كان يخلو من الغيرة.
فعندما أرسل «روسو» نسخة من كتابه «مناقشة حول جذور وأسس عدم المساواة بين الرجال» طامعاً في ثناء «فولتير» عليه، جاء رد الأخير المنشور قاسياً، فقال: «لقد تلقيت كتابك الجديد الموجه ضد الإنسانية... إن أحداً لم يسع لتكريس قدراته العقلية لإقناع الإنسان ليتحول لحيوان. وعند قراءة عملك، فإن المرء تتملكه الرغبة في أن يمشي على أطرافه الأربعة، ولكنني فقدت هذه العادة منذ أن كنت أحبو، وبالتالي - ولسوء حظي - فلن أستطيع العودة إليها مرة أخرى بعد خمسة وستين عاماً».
ولا خلاف على أن «فولتير» يمثل في واقع الأمر ظاهرة متناقضة بين عبقرية الفكر والقلم من ناحية، ودنو السلوك والأخلاق من ناحية أخرى، وهو الخط الرفيع الذي كثيراً ما لا ندركه في وعينا الإنساني، فنحكم على أخلاقه من كتاباته، والعكس صحيح. وتقديري أن فولتير يعد نموذجاً لرفعة الفكر والقلم، وانحطاط السلوك والأخلاق. وهنا، وجب علينا التمييز بموضوعية، لنفرق بداخلنا بين قيمة الفكرة، وسلوك مصدرها، اللذين كثيراً ما نخلط بينهما.



تكريم الفائزين بجائزة «الملك سلمان للغة العربية»

الجائزة تهدف إلى تكريم المتميزين في خدمة اللُّغة العربيَّة (واس)
الجائزة تهدف إلى تكريم المتميزين في خدمة اللُّغة العربيَّة (واس)
TT

تكريم الفائزين بجائزة «الملك سلمان للغة العربية»

الجائزة تهدف إلى تكريم المتميزين في خدمة اللُّغة العربيَّة (واس)
الجائزة تهدف إلى تكريم المتميزين في خدمة اللُّغة العربيَّة (واس)

كرّم مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الفائزين بجائزته في دورتها الثالثة لعام 2024، ضمن فئتي الأفراد والمؤسسات، في 4 فروع رئيسية، بجوائز بلغت قيمتها 1.6 مليون ريال، ونال كل فائز بكل فرع 200 ألف ريال، وذلك برعاية وزير الثقافة السعودي رئيس مجلس أمناء المجمع الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان.

وتشمل فروع الجائزة تعليم اللُّغة العربيَّة وتعلُّمها، وحوسبة اللُّغة وخدمتها بالتقنيات الحديثة، وأبحاث اللُّغة ودراساتها العلميَّة، ونشر الوعي اللُّغوي وإبداع المبادرات المجتمعيَّة اللُّغويَّة.

ومُنحت جائزة فرع «تعليم اللُّغة العربيَّة وتعلُّمها» لخليل لوه لين من الصين في فئة الأفراد، ولدار جامعة الملك سعود للنَّشر من المملكة العربيَّة السُّعوديَّة في فئة المؤسسات، فيما مُنحت في فرع «حوسبة اللُّغة العربيَّة وخدمتها بالتقنيات الحديثة»، لعبد المحسن الثبيتي من المملكة في فئة الأفراد، وللهيئة السُّعوديَّة للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا» في فئة المؤسسات.

جائزة فرع «تعليم اللُّغة العربيَّة وتعلُّمها» لخليل لوه لين من الصين في فئة الأفراد (واس)

وفي فرع «أبحاث اللُّغة العربيَّة ودراساتها العلمية»، مُنحَت الجائزة لعبد الله الرشيد من المملكة في فئة الأفراد، ولمعهد المخطوطات العربيَّة من مصر في فئة المؤسسات، فيما مُنحت جائزة فرع «نشر الوعي اللُّغوي وإبداع المبادرات المجتمعيَّة اللُّغويَّة» لصالح بلعيد من الجزائر في فئة الأفراد، ولمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة من الإمارات في فئة المؤسسات.

وتهدف الجائزة إلى تكريم المتميزين في خدمة اللُّغة العربيَّة، وتقدير جهودهم، ولفت الأنظار إلى عِظَم الدور الذي يضطلعون به في حفظ الهُويَّة اللُّغويَّة، وترسيخ الثَّقافة العربيَّة، وتعميق الولاء والانتماء، وتجويد التواصل بين أفراد المجتمع العربي، كما تهدف إلى تكثيف التنافس في المجالات المستهدَفة، وزيادة الاهتمام والعناية بها، وتقدير التخصصات المتصلة بها؛ لضمان مستقبلٍ زاهرٍ للُّغة العربيَّة، وتأكيد صدارتها بين اللغات.

وجاءت النتائج النهائية بعد تقييم لجان التحكيم للمشاركات؛ وفق معايير محددة تضمَّنت مؤشرات دقيقة؛ لقياس مدى الإبداع والابتكار، والتميز في الأداء، وتحقيق الشُّمولية وسعة الانتشار، والفاعليَّة والأثر المتحقق، وقد أُعلنت أسماء الفائزين بعد اكتمال المداولات العلمية، والتقارير التحكيميَّة للجان.

وأكد الأمين العام للمجمع عبد الله الوشمي أن أعمال المجمع تنطلق في 4 مسارات، وهي: البرامج التعليمية، والبرامج الثقافية، والحوسبة اللغوية، والتخطيط والسياسة اللغوية، وتتوافق مع استراتيجية المجمع وداعمةً لانتشار اللغة العربية في العالم.

تمثل الجائزة إحدى المبادرات الأساسية التي أطلقها المجمع لخدمة اللُّغة العربيَّة (واس)

وتُمثِّل الجائزة إحدى المبادرات الأساسية التي أطلقها المجمع؛ لخدمة اللُّغة العربيَّة، وتعزيز حضورها، ضمن سياق العمل التأسيسي المتكامل للمجمع، المنبثق من برنامج تنمية القدرات البشرية، أحد برامج تحقيق «رؤية المملكة 2030».