صناعة العود في مصر تقاوم عزف اللحن الأخير

تطعيم «سلطان التخت» بالفضة والصَّدف بعيداً عن الآلات

محمد الصدفجي  يتقن تطعيم العود بالصدف
محمد الصدفجي يتقن تطعيم العود بالصدف
TT

صناعة العود في مصر تقاوم عزف اللحن الأخير

محمد الصدفجي  يتقن تطعيم العود بالصدف
محمد الصدفجي يتقن تطعيم العود بالصدف

لا يزال العود يقف وسط الآلات الموسيقية الشرقية شامخاً ومحتفظاً بجمهوره الواسع من «السمّيعة» وعشاق الطرب الأصيل، إذ يُعرف بأنه «سلطان الآلات العربية»، ولا يوجد ما يضاهي مكانته في التخت الموسيقي.
وفي مصر لاقى العود على مدى تاريخها الموسيقي احتفاءً خاصاً به، حيث برزت أسماء من المخضرمين في العزف عليه إلى جانب براعة تصنيعه بالطريقة اليدوية التقليدية. ولا يزال بعض الصناع يعملون على إعادة إحياء تصنيع العود يدوياً، وتطعيمه بالصَّدف وخيوط الفضة، في وقت تتعرض هذه الحرفة للاندثار، ويحاول أصحابها الصمود في وجه صناعته الآلية التي يعتبرونها «دخيلة على الفن».
في ورشة العم «محمد أبو شَرطة»، وشهرته محمد الصَّدفجي، بمنطقة نزلة السمان، بالجيزة (غرب القاهرة)، يتجسد هذا الصمود اليدوي في أقوى صوره، حيث تتنقل العين بين تفاصيل إبداعية أقرب إلى الروائع الفنية من كونها آلات موسيقية، فإلى جانب جمال صوتها وتميزه عن تلك المصنّعة آلياً، فهي تروي أيضاً الكثير عما تزدان به من فنون التصاميم والزخارف العربية، وبريق هذه التحف الفنية المرصعة.
ورغم أنه لم يرث هذه الحرفة من آبائه وأجداده، على العكس مما هو سائد في الحرف اليدوية المصرية، فإنه يبدو أن لنشأته في منطقة الهرم على بُعد أمتار من الأهرامات، ووسط الفنون الفرعونية في البازارات السياحية، دوراً ملحوظاً ساهم في نجاحه في أن يصبح واحداً من أشهر صانعي العود في مصر، إلى حد أن ورشته تُعد قِبلةً لأبرز الموسيقيين ومحبي العود المصريين والعرب، لا سيما أنه يبرع في ترصيعه بالصَّدف، ورسم صورة صاحبه عليه، إضافة إلى «تطبيعه» بجلد السلحفاة.
ويقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «منذ طفولتي أعشق الحضارة المصرية القديمة وفنونها، ولذلك عملت في ورشة تصنيع المستنسخات وكراسي العرش الفرعونية في الثامنة من عمري، وجذبني ذات يوم شكل العود على رسم فرعوني، وكنت أحب كثيراً سماعه، فقررت أن أتعلم فنون تصنيعه، عبر انتقالي إلى ورشة متخصصة في هذا المجال».
ويسرد الرجل الستيني بداياته في عالم الإبداع، وهو يواصل عمله بمهارة فائقة: «في هذه الورشة تعلمت فنون تصنيع العود بكل أجزائه ومراحله، كما تعلمت فنون زخرفته وتطعيمه».
ويضيف: «بقي الحال هكذا حتى نجحت في الاستقلال في سن صغيرة، وأنشأتُ لنفسي ورشة خاصة بي، تصنع العود وتزيّنه يدوياً من الألف إلى الياء، وحرصت على استلهام تصاميم وزخارف جديدة من تراثنا، وأصبح أشهر الفنانين وعشاق العزف من الشخصيات العامة على العود من مصر ومختلف الدول العربية بل من دول أجنبية أيضا ً يأتون لي لتصنيعه لهم، وكُلٌّ يحدد التصميم والحجم والصوت ونوع الصَّدف والخشب والأوتار، وغير ذلك من تفاصيل يفضلها، بحيث يصبح بين يديه بعد الانتهاء من عملي قطعة فنية من حيث الصوت والشكل تتواءم معه، فتكون سعادته لا توصَف فكأن العود يشبهه».
وحول مراحل صناعة العود يضيف الصَّدفجي: «يأتي الخشب، وغالباً ما نستخدم الجوز التركي أو الزان أو السيسم وخشب الوردة، ونقوم بتقطيعه على شكل أضلاع، ثم نقوم بكيّه وتبريده وصنفرته، وبجعل جانبيه متساويين تماماً»، ويتابع: «لا بد أن يتطابق الجانب الأيسر تماماً مع نظيره الأيمن، وهكذا نقوم بمعالجة الخشب، بحيث يقاوم العوامل الجوية، وفي الوقت نفسه يتمتع بقطع أو شكل سليم ومتناسق، ذلك مما يجعله مختلفاً ومميزاً عن العود المصنّع آلياً».
ويواصل حديثه قائلاً: «ثم يتم تشكيل سائر أجزائه مثل الرقبة وبيت المفاتيح، إلى أن يتم ربط الظهر والوجه، وفي كل مرحلة لا بد أن أشعر بالرضا والانسجام، وإلا أعيدها مرة أخرى، بصرف النظر عن الخسارة المادية، ما دمت سأحصل في النهاية على العود الذي سيضيف لي كحرفيّ، وسيُرضي الفنان».
تُنتج ورشة العود نحو 3 أعواد فقط في الشهر، ومن الممكن أقل في مقابل عشرات الآلات في ورش التصنيع الآلي، لكن الأخيرة تفتقر إلى الروح والملمس والإحساس كما أنها لا تعيش طويلا ً، ويتراوح سعر اليدوي ما بين 20 ونحو 80 ألف جنيه (الدولار الأميركي يعادل 17.3 جنيه مصري).
وحول أهم أسرار هذا الفن يقول: «التطعيم قد يكون بالفضة، أو بالطبع بالصَّدف الطبيعي الذي يحتفظ بشكله وتألقه مهما مرت السنوات، ويختلف شكل الصَّدف حسب مصدره، وفي كل الأحوال نقوم بصنفرته، وتخليصه من التراب، ثم نشكّله، ونطعّم العود به بدقة، ومن أصعب استخداماته رسم وجه صاحب العود عليه، لأنه يحتاج إلى دقة غير مسبوقة».
ويلفت العم محمد إلى أن «الحصول على الصوت الرائع المطلوب للعود يتوقف على عدة عوامل منها نوع الخشب المستخدم، ونوع الأوتار، لكن في الوقت نفسه يبقى أهم عامل هو مهارة الحرفي وبراعته في التصنيع اليدوي، فإنه وحده الذي يستطيع أن يجعل العود بصوت رائع حتى لو استخدم (فتلة صنارة) بدلاً من أغلى أنواع الأوتار».
ومن أهم ما يتميز به محمد الصَّدفجي إجادته لـ«تطبيع» جلد السلحفاة على العود، وهو فن أقل انتشاراً لأنه أكثر مشقة ويستغرق وقتاً طويلاً، لكن النتيجة تكون غاية في الجمال.
يشعر العم محمد بالحزن لأن مهنته النادرة في طريقها للاندثار في مصر، رغم الطلب المتزايد عليها، وذلك بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام والأخشاب من جهة، ومن جهة أخرى ندرة الحرفيين الذين يهتمون بتعلمها وتطويرها.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».