الأدباء... وأمهاتهم

لهن عبر الثقافات والأزمنة تأثير فاصل على حياتهم سلباً أو إيجاباً

شكسبير  -  جبران خليل جبران  -  فيليب لاركن  -  بودلير  -  صموئيل بيكيت
شكسبير - جبران خليل جبران - فيليب لاركن - بودلير - صموئيل بيكيت
TT

الأدباء... وأمهاتهم

شكسبير  -  جبران خليل جبران  -  فيليب لاركن  -  بودلير  -  صموئيل بيكيت
شكسبير - جبران خليل جبران - فيليب لاركن - بودلير - صموئيل بيكيت

سواء أكان حضورهن طاغياً، إيجاباً أم سلباً، أم غياباً أكثر طغياناً من الحضور، فلا شك أن لأمهات الأدباء دورا شاهقا في صياغة ذلك المسّ الجنّي، الذي يذهب بالبعض إلى أقاصي حدود الخلق الفاتن والإبداع، بينما يبقى آخرون مرتاحين لحياتهم الباردة قانعين بترك أنفسهم إلى تيار الحياة يأخذهم حيث أراد. وقد أصبح التشوق لفكّ شيفرة هذا التحليق موضع تنقيب كثير، وللحق فالمسألة ما زالت غامضة، إذ كما يبدو لا توجد وصفة مشتركة تفسّر جلّ الحالات «السحريّة» تلك.
عاش جون راسكين، الأديب المعروف، معظم حياته في علاقة خانقة مع أمّه مارغريت راسكين، التي كانت سيّدة شديدة التديّن قويّة الشكيمة وحاولت غاية جهدها فرض عقيدتها على ابنها مذ كان صبيّاً متأملة أن يسلك يوماً طريق الكهنوت ويكرّس حياته من أجل الكنيسة. نعرف الآن مقاومته لذلك، وأن أمّه أفسدت حياته كلها حتى كتب عمّا يتذكره من طفولته أنّه «لم يكن لديه شيء يحبّه»، وعندما قبل الدراسة بجامعة أكسفورد عام 1837 انتقلت للسّكن معه هناك متسببة في فشل كل علاقاته بنساء أخريات لينتهي مثلياً، إلا أن الدراسة المكثّفة للكتاب المقدّس التي أخضعته لها صغيراً تركت أثراً لا يمحى في ذهنه، فطبعت ما أبدعه لاحقاً طوال حياته بميسم توراتي خاص، وجعلت نصوصه وكأنها إملاءات نبي من أنبياء العهد القديم.
هذه العلاقة الملتبسة بين أم وولدها، وبغضّ النظر عن تفاصيلها التاريخيّة وأبعادها السيكولوجيّة، ربما تكون ممراً ينبغي لنا عبوره في كلّ مرّة قصدنا فيها أن نفهم سرّ العمليّة الإبداعيّة عند راسكين، الذي يبدو كأن حياته كلّها لم تكن سوى استجابة جدليّة الطابع لتلك العلاقة.
راسكين وأمه ليسا حالة فريدة بالطبع، فكثير من الأدباء والشعراء المعروفين الذين تحدّثوا عن تاريخ علاقاتهم بأمهاتهم المحوا إلى تأثيرات طاغية لتلك السيّدات – سلباً أو إيجاباً، تعلقاً أو كراهيّة – في تشكيل وعيهم وذائقتهم الأدبيّة، وربما كنّ - بشكل أو بآخر - سر قدرتهم على اجتراح معجزة نظم الكلم شعراً أو نثراً.
يقول المؤرخون الأدبيّون مثلاً بأن وجود السيّدة ماري أردين شكسبير بقلبِ حياة ابنها وليم ملموس وظاهر بما ترك من أعمال لم ولن تموت في المسرح العالميّ، وأنّ العمق المذهل الذي وصف به العلاقات الإنسانيّة وتقلبات القلوب كان مديناً به لعلاقته بأمه تحديداً قبل أي شخص آخر. كما أنّ سيرة حياة الروائي المعروف إيان مكواين وما تغلب عليها ثورته الدّائمة على اللهجة الشعبيّة والتي أخذها عن أمّه الفقيرة والمتواضعة اجتماعياً لدرجة أنّه كان يطلب من أصدقائه إيقافه كلما انزلق لسانه تجاه تلك اللهجة، ومع ذلك استعار كثيراً من طريقة أمّه لمنح بعض شخصيات رواياته الأشهر ألسنة بوصفهم من عامة الناس، ناهيك عن إظهار غالبيّة شخصياته النسائيّة في وجه الخير المطلق مقابل الشخصيات الذكوريّة التي تقصر دائماً عن ذلك. كذلك كانت علاقة الروائي إي.إم فورستر مع أمه (ليلي فورستر) عاصفة صداميّة وكتب «أنها خنقت موهبته ودمرت مهنته ومنعته من بناء علاقات صحيّة مع الآخرين»، وهو حرق كل رسائلها له ومذكراتها كي يخرجها من تاريخه بالكامل، ومع ذلك لم ينكر بعد موتها أنها وفرت له كل متطلبات الرّاحة للتركيز على إنتاجاته. وفي الحد الأقصى من التناقض تبدو سيرة الكاتب مارتن إيمس الذي دخل في علاقة ملتبسة مع زوجة أبيه الثانية الروائيّة إليزابيث جين - هاورد التي شغفت به حبّاً، وكان لها الفضل وحيدة بانتشاله من حياة التبطّل والتيه والتسكع في نوادي المراهنات مع زمر الفاشلين، وأعادته إلى دراسته، وكانت مصدر إلهامه وإبداعه وأستاذته الأدبيّة الأولى، ومن دونها لكان حتماً انتهى سكيراً أو مجرماً صغيراً كما غالبية رفاقه. وهناك عشرات الرسائل المنشورة لأدباء مشهورين كشارل بودلير، وغوستاف فلوبير وأندريه جيد، ومارسيل بروست، وويليام فولكنر، وإرنست همنغواي وجان كوكتو وكلّها تشير إلى ثقل تلك العلاقة بين الأم والابن المتراوحة بين الحبّ والتنازع وظلالها الطويلة على حياة ونتاج الابن الأدبيّ.
لا يمكن بالطبع وضع كل علاقات الأدباء بأمهاتهم في نسق أُحادي دوماً. فهناك من مصادر السّير الأدبيّة ما يشير إلى علاقات دعم إيجابي متبادل لا شكّ ساهمت في منح الأبناء منصات للانطلاق والتحليق. فالشاعر البريطاني فيليب لاركن، أحد أهم الشعراء البريطانيين في القرن العشرين، سُئل يوماً عمّا إذا كانت علاقته الوثيقة المديدة بأمه (إيفا لاركن) سبباً في إطلاق ذائقته الشعريّة، أجاب بقوله: «ربّما كنت لا أمانع فيما لو كان في تلك العلاقة شيء من الصّخب»، وذلك يشير بوضوح إلى نجاح أمه ببناء علاقة متوازنة وديّة مع ابنها طوال عقود كثيرة، ويؤكّد على تأثيرها المعروف عليه ببناء أسلوبه الشعري المميز. وقد نشرت مؤخراً مراسلاتهما الكثيفة في مجلّد ضخم، إذ كان لاركن الابن يكتب لأمه يومياً تقريباً ويقضي معها عدة ساعات بعد ظهيرة كل جمعة، وهو استمر في ذلك حتى بعدما لم يعد بمقدورها كتابة الرّدود إليه، ثم عندما عجزت عن القراءة بالكليّة بقي يرسل إليها صوراً من الطبيعة أو حتى للملكة إليزابيث والأميرات إلى أن وافاها الأجل. ومثل لاركن أيضاً، كانت علاقة الأديب أندرو موشن بأمّه المعطاءة والمتقدة التي اعتنت به عندما أقعده المرض صغيراً في البيت فصارا كما صديقين، وتحوّلت حادثة سقوطها عن الفرس وإصابتها بتلف دماغي وغيبوبة لعدة سنوات إلى ما يشبه مصهراً طبع أعماله اللّاحقة بغضب ظاهر على الحظّ السيئ وعشوائيّة الأقدار.
في مكان ما بين حدّي الملائكيّة والشيطنة، تأتي علاقة الكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت بأمه (ماي بيكيت) الأشبه بصراع تحكم دائم بين شخصيتين قويتين لا سيّما بعد وفاة والده وتوليها هي المقتّرة والمتقشفة إدارة شؤون العائلة ماديا متسببة في محاولته الهروب إلى لندن بحجة رغبته بدراسة التحليل النفسي الذي كان غير معترف به في مسقط رأسه. لكن كاتبي سيرة بيكيت الابن يقولون إن تلك العلاقة العاصفة بين الأم وابنها تخللها مقطع غريب استمر طوال ثلاثة أسابيع عام 1935 عندما ذهبا معاً في رحلة بسيارة صغيرة مستأجرة متجولين بكل إنجلترا ومعالمها الساحرة وعاشا خلالها وفق رسالة كتبها بيكيت الابن لأحد أصدقائه «حالة انسجام تام». لكن تأثير تلك الرحلة الاستثنائية ما لبث وتلاشى سريعاً، ليعودا مجدداً لأجواء الصراع الدائم مما دفعه لمغادرة آيرلندا نهائياً عام 1937. وقد كتب لاحقاً كيف أنه أحسّ وهو يجمع كتبه ومتعلقاته الشخصيّة هاربا لآخر مرة من البيت ومن تسلطها بأنه «لم يكن سوى نتاج حبّ أمه الوحشي». ومع ذلك فهو وجد كثيرا من السلوى عندما اعتنت به بعد ثلاثة أشهر فقط من هجرته بينما كان وحيداً بمستشفى باريسي مصاباً بطعنة سكين.
عربياً يحجم الأدباء عامة عن ذكر تفاصيل علاقتهم بأمهاتهم ربما لأسباب الثقافة المجتمعيّة الشرقيّة المحافظة، كما أن الرسائل الشخصيّة المنشورة في ذلك السياق تكاد تكون معدومة، لكن شذرات من نصوص الشعراء العرب القدامى وحتى أسمائهم (ابن الزاهدة، ابن الزبيبة، ابن الزبعرى،...) تشي بحضور شاهق لبعض أمهات أولئك المبدعين على حياتهم وإبداعهم. وحديثاً نعلم مثلاً أن والدة جبران خليل جبران التي تولت إدارة شؤون العائلة بعد وفاة زوجها بينما كان جبران صغيراً، واتخذت قراراً بالهجرة بأولادها من الفقر والتعسف العثماني بلبنان إلى الولايات المتحدة، صنعت على مستوى ما كلّ تجربة جبران الإنسانيّة والإبداعيّة، كما أن كاتبة مهاجرة عربيّة (آسيا جبار) وضعت رواية تحكي معاناتها من الضغوط الشديدة التي فرضتها عليها أمها الشرقيّة الهوى للخضوع إلى الثقافة البطريركيّة التقليديّة.
ملائكة كنّ أو شيطانات، فإنه من الجلي أن للأمهات عبر الثقافات والأزمنة تأثيراً فاصلاً في تحويل بعض الأبناء إلى أدباء ومبدعين دون غيرهم، سواء أكان ذلك بفضل تشجيعهنّ ودعمهن أو حتى ربّما بسبب تسلطهن وتملكهن. ولعلنا إن علمنا بذلك، استدعينا الأم مع ابنها كلّما قرأنا واحداً من أسفار الأدب أو الشعر.



غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
TT

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

عاد إلى ذاكرة مُؤسِّسة غاليري «آرت أون 56»، نهى وادي محرم، مشهد 4 أغسطس (آب) 2020 المرير. حلَّ العَصْف بذروته المخيفة عصر ذلك اليوم المشؤوم في التاريخ اللبناني، فأصاب الغاليري بأضرار فرضت إغلاقه، وصاحبته بآلام حفرت ندوباً لا تُمحى. توقظ هذه الحرب ما لا يُرمَّم لاشتداد احتمال نكئه كل حين. ولمّا قست وكثَّفت الصوتَ الرهيب، راحت تصحو مشاعر يُكتَب لها طول العُمر في الأوطان المُعذَّبة.

رغم عمق الجرح تشاء نهى وادي محرم عدم الرضوخ (حسابها الشخصي)

تستعيد المشهدية للقول إنها تشاء عدم الرضوخ رغم عمق الجرح. تقصد لأشكال العطب الوطني، آخرها الحرب؛ فأبت أن تُرغمها على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية. تُخبر «الشرق الأوسط» عن إصرارها على فتحه ليبقى شارع الجمّيزة البيروتي فسحة للثقافة والإنسان.

تُقلِّص ساعات هذا الفَتْح، فتعمل بدوام جزئي. تقول إنه نتيجة قرارها عدم الإذعان لما يُفرَض من هول وخراب، فتفضِّل التصدّي وتسجيل الموقف: «مرَّت على لبنان الأزمة تلو الأخرى، ومع ذلك امتهنَ النهوض. أصبح يجيد نفض ركامه. رفضي إغلاق الغاليري رغم خلوّ الشارع أحياناً من المارّة، محاكاة لثقافة التغلُّب على الظرف».

من الناحية العملية، ثمة ضرورة لعدم تعرُّض الأعمال الورقية في الغاليري لتسلُّل الرطوبة. السماح بعبور الهواء، وأن تُلقي الشمس شعاعها نحو المكان، يُبعدان الضرر ويضبطان حجم الخسائر.

الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه (آرت أون 56)

لكنّ الأهم هو الأثر. أنْ يُشرّع «آرت أون 56» بابه للآتي من أجل الفنّ، يُسطِّر رسالة ضدّ الموت. الأثر يتمثّل بإرادة التصدّي لِما يعاند الحياة. ولِما يحوّلها وعورةً. ويصوّرها مشهداً من جهنّم. هذا ما تراه نهى وادي محرم دورها في الأزمة؛ أنْ تفتح الأبواب وتسمح للهواء بالعبور، وللشمس بالتسلُّل، وللزائر بأن يتأمّل ما عُلِّق على الجدران وشدَّ البصيرة والبصر.

حضَّرت لوحات التشكيلية اللبنانية المقيمة في أميركا، غادة جمال، وانتظرتا معاً اقتراب موعد العرض. أتى ما هشَّم المُنتَظر. الحرب لا تُبقى المواعيد قائمة والمشروعات في سياقاتها. تُحيل كل شيء على توقيتها وإيقاعاتها. اشتدَّت الوحشية، فرأت الفنانة في العودة إلى الديار الأميركية خطوة حكيمة. الاشتعال بارعٌ في تأجيج رغبة المرء بالانسلاخ عما يحول دون نجاته. غادرت وبقيت اللوحات؛ ونهى وادي محرم تنتظر وقف النيران لتعيدها إلى الجدران.

تفضِّل نهى وادي محرم التصدّي وتسجيل الموقف (آرت أون 56)

مِن الخطط، رغبتُها في تنظيم معارض نسائية تبلغ 4 أو 5. تقول: «حلمتُ بأن ينتهي العام وقد أقمتُ معارض بالمناصفة بين التشكيليين والتشكيليات. منذ افتتحتُ الغاليري، يراودني هَمّ إنصاف النساء في العرض. أردتُ منحهنّ فرصاً بالتساوي مع العروض الأخرى، فإذا الحرب تغدر بالنوايا، والخيبة تجرّ الخيبة».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه، وربما حيّزه في هذا العالم. تُسمّيه مُتنفّساً، وتتعمّق الحاجة إليه في الشِّدة: «الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه. نرى الحزن يعمّ والخوف يُمعن قبضته. تُخبر وجوه المارّين بالشارع الأثري، الفريد بعمارته، عما يستتر في الدواخل. أراقبُها، وألمحُ في العيون تعلّقاً أسطورياً بالأمل. لذا أفتح بابي وأعلنُ الاستمرار. أتعامل مع الظرف على طريقتي. وأواجه الخوف والألم. لا تهمّ النتيجة. الرسالة والمحاولة تكفيان».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه وربما حيّزه في العالم (آرت أون 56)

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها: الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع، الإسعاف والصراخ... لـ9 أشهر تقريباً، أُرغمت على الإغلاق للترميم وإعادة الإعمار بعد فاجعة المدينة، واليوم يتكرّر مشهد الفواجع. خراب من كل صوب، وانفجارات. اشتدّ أحدها، فركضت بلا وُجهة. نسيت حقيبتها في الغاليري وهي تظنّ أنه 4 أغسطس آخر.