شهادات من لبنان تؤكد الترابط بين إبداعه الشعري ووطنيته وإنسانيته

شهادات من لبنان  تؤكد الترابط بين إبداعه الشعري ووطنيته وإنسانيته
TT

شهادات من لبنان تؤكد الترابط بين إبداعه الشعري ووطنيته وإنسانيته

شهادات من لبنان  تؤكد الترابط بين إبداعه الشعري ووطنيته وإنسانيته

* بلال شرارة
شاعر ورئيس الحركة الثقافية في لبنان الأمين العام للشؤون الخارجية في مجلس النواب:

غادرنا جسدا لكنه باق بالنص
تربينا على سميح القاسم ومحمود درويش. بقي أخونا القاسم يصارع المرض لفترة طويلة، ونحن لا يمكننا أن نرد الموت عنه ولا عن الشعراء الكبار أمثاله، الذين كتبوا عن فلسطين وأثاروا وعينا عليها وعلى أشعارهم التي تضمنت الشجر والمعاناة وحلم الشعب الفلسطيني. وفاة سميح القاسم ليست وفاة للشعر الفلسطيني، ولا وفاة للشعر العربي، فالمتنبي رحل ولم يرحل الشعر العربي. هناك دائما من يحمل الراية، ونتمنى ممن سيحملونها أن يحملوها بقوة ويرفعوها عاليا، وأن تكون راية الشعر الفلسطيني راية خفاقة، وأن تعبر عن اللون وعن الموقف والإحساس الفلسطيني بالموقف والقضية وليس فقط عن الحرب.
فالمقاومة هي كل أنواع المقاومات، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.. وطبعا العسكرية. وطبعا هناك إبداع في المقاومة الثقافية التي هي الشعر كما هناك إبداع في المقاومة العسكرية.
أتوجه إلى الشعب الفلسطيني وإلى أسرة الراحل بالتعازي الحارة في وفاته، وأتمنى منهم أن يقفوا إلى جانب أنفسهم ولا يتراجعوا عن هذا الوقوف، وأن يحفظوا فلسطين. طبعا سيترك سميح القاسم ثغرة في الإنتاج الأدبي الفلسطيني، لأن الشعراء لا يمكن تعويضهم بسهولة وبسرعة.
رحيل القاسم أثبت لنا أكثر أنه ليس هناك من مقام يشبه الآخر، ولا أحد يشبه بأسلوبه أسلوب الآخر ولا تعابيره ولا نصه. ورحيل القاسم سيترك في الأراضي المحتلة أثرا كبيرا لأنه كان شاعرا مقيما إلى جانب شعبه وقد سجن وتعذب. ونتمنى أن يخلق الله شاعرا بقامة سميح القاسم أو شعراء عدة كي يسدوا الفراغ الكبير الذي سيتركه.
الشعراء لا يولدون، هكذا قلت منذ أيام، واليوم أقول الشعراء لا يموتون لأنهم يعيشون ويقيمون في وجدان الناس. هو غادرنا جسدا لكنه باق بالنص، وأدعو وأتمنى من كل المدارس العربية تعليم شعر سميح القاسم في صفوفها، كونه كان أساسا في مدرسة شعرية كبيرة هي مدرسة الوطن والأرض والإنسان.

* حمزة البشتاوي
أمين سر اتحاد الكتاب الفلسطينيين في لبنان:

كان حتى آخر نبض في عروقه مقاوما في اللغة وفي الشعر

سميح القاسم لم يكتب اللحظة بل كتب التاريخ والمستقبل، نتاجه الجديد مهم ولكن سيخلد الزمن قديمه أكثر. تعرفت على القاسم من خلال الشهيد الكاتب المبدع غسان كنفاني في كتابه «شعراء الأرض المحتلة»، تعرفنا على هذا الشاعر المرهف المتفوق في قوة مخيلته التي يصعب أن نجد مثلها لدى شعراء آخرين فلسطينيين أو غيرهم.
والقراء الفلسطينيون والعرب تعرفوا عليه في قصيدة قال فيها للعدو أو للمحتل «يا عدو الشمس»، وكان حتى آخر نبض في عروقه مقاوما في اللغة وفي الشعر. هو والشاعر محمود درويش من مدرسة واحدة من حيث النشأة وظروف المكان والزمان.
الشعر الفلسطيني كما الشعر العربي يعيش حالة حزن وانكفاء، هذه الحالة ستزداد صعوبتها، ولكن برأيي سيحضر أكثر شعر سميح القاسم في المستقبل لأنه لم يكتب اللحظة بل كتب الواقع والمستقبل.
أوجه رسالة إلى القارئ العربي بأن هذه قامة شعرية تستحق القراءة، وأهم مسألة أن هذا الشاعر الذي كان منتصب القامة ومرفوع الهامة، والذي كان قابضا على الزيتون في فلسطين، كتب الكثير في فلسطين وللعرب وكان مبدعا، واليوم يجب أن نقرأ سميح القاسم أكثر فأكثر، وأن ننظر إلى فلسطين من خلال ما كتبه سميح القاسم للأرض وللإنسان في فلسطين.
كان يعبر بشكل صادق وحقيقي عن معاناة الشعب الفلسطيني وطموحه في الحرية والخلاص من الاحتلال. وجسد في مسرحياته ومقالاته وأشعاره هذا الهم الجماعي للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده.

* عبيدو باشا
كاتب وناقد مسرحي:

له من القصائد الكثير مما يردده العرب دون أن يعرفوا أن كاتبها هو سميح القاسم

هناك ثلاثة صنعوا للشعر الفلسطيني الأفق اللافلسطيني، هم: محمود درويش وهو الشاعر الذي لا يوزن بميزان «أكله قلبه»، ثم هناك توفيق زياد «أكله القدر» حين مات في حادث سيارة، والآن سميح القاسم «أكلته خلاياه».
لن يسجى أي فلسطيني سواء كان مواطنا أو شاعرا إلا على جسده، لأنه لا يمتلك إلا اسمه ونتاجه.
عاش سميح القاسم في ظل شاعرية محمود درويش على الرغم من أن قصائده لا ينقصها أبدا لا المعيار ولا العيار حتى تتحول إلى قصائد من وزن قصائد محمود درويش. الوقوف في ظل محمود درويش عاد على شعر سميح القاسم الكثير، كما أنه عاد على حضوره الشخصي الكثير، إلا أن صداقتهما بانت وكأنها أهم من كتابة الشعر، خصوصا بعدما غادر محمود درويش الأراضي المحتلة.
سيكتشف النقاد العرب والنقاد الفلسطينيون وبعض النقاد العالميين المهتمين ثراء شعر سميح القاسم وثراء شخصيته وحضوره الإشكالي في الشعر والحياة وفي العلاقة بينهما، ولن ينسى له أحد أن له من القصائد الكثير مما يردده العرب دون أن يعرفوا أن كاتبها هو سميح القاسم، وأبرزها هي «منتصب القامة أمشي»، التي لحنها الفنان مارسيل خليفة وغناها اللبنانيون والفلسطينيون على حد سواء.
ومن ميزات شعره أنه شعر موزون وهو ما لا يراه الآخرون ميزة، وهذه الإشكالية يمكن أن تقرأ بهدوء بعد وفاة الشاعر، إلا أن غيابه هو خسارة أكيدة للحياة العربية على الصعيدين الأدبي والشعري والإبداعي والإنساني.
سميح القاسم في بقائه على الأرض الفلسطينية وجه أكثر من رسالة. وهذه القضية تحسب له. فالبقاء هو رسالة سميح القاسم. وما يفعله الفلسطينيون في غزة هو ما فعله سميح القاسم. هم بقوا في فلسطين على الرغم من الضريبة الكبيرة، وهو دفع هذه الضريبة حتى لو لم نر دمه سيالا على الطرقات أو على السرائر في المستشفيات الفلسطينية.
سوف يفتقد الفلسطينيون سميح القاسم كثيرا بعد أن شكل في إقامته في الأراضي الفلسطينية وإنتاجه فيها شكلا من أشكال المقاومة المتقدمة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)