سنوات السينما: (1975)‬ Barry Lyndon‬

رايان أونيل في «باري ليندون»
رايان أونيل في «باري ليندون»
TT

سنوات السينما: (1975)‬ Barry Lyndon‬

رايان أونيل في «باري ليندون»
رايان أونيل في «باري ليندون»

(1975)‬ Barry Lyndon‬
كوبريك من المستقبل إلى التاريخ ‬

«باري ليندن»، عن رواية وضعها ويليام ماكبيس ثاكراي (1811 - 1863)، كان الفيلم العاشر للمخرج الراحل ستانلي كوبريك. بعده حقق ثلاثة أفلام فقط، في حين شغلت قائمته من الأعمال المنجزة الكثير من الأفلام القصيرة التي لا بد لأحد وضعها في سياق برنامج لإعطائها ما تستحقه بدورها من تقدير.‬
ليس صدفة أن ينتقل كوبريك من المستقبل المتمثل في فيلميه السابقين مباشرة «2001: أوديسا فضائية» (1968) و«كلوكوورك أورانج» (1971) إلى فيلم تاريخي الأحداث. «أوديسا فضائية» كان - في الأساس - تلك الملحمة المستقبلية التي لا حدود لتاريخها البعيد. «كلوكوورك أورانج» كان تصوّراً لنظام مستقبلي داكن وليس بالبعيد. «باري ليندون» كان انتقالاً لأحداث تقع في القرن الثامن عشر محاطاً بكل متطلبات الفترة الزمنية ومتطلباتها الفنية المتعددة.‬
هو فيلم رائع حول ذلك الشاب الانتهازي الذي انحدرت به الأيام إلى القاع من قبل أن يصعد السلم إلى بعض قمم الثراء المادي والمكانة الاجتماعية. ردموند باري (الأميركي رايان أونيل في دور مضاد لما قام به قبل هذا الدور وبعده) ولد في قرية آيرلندية صغيرة وأحب ابنة عمّه ومن أجلها تحدى ضابطاً في الجيش ثم هرب معتقداً إنه قتله. يسلبه قطاع الطرق ما وفّرته والدته له من مال وينتهي الأمر به إلى الجيش البريطاني الذي كان يحارب الفرنسيين فيرسل إلى الجبهة، لكنه يدبر فراره مدعياً لحامية هولندية حليفة بأنه مرسل خاص لأحد كبارها. يكتشف الهولنديون كذبه ويجلدونه قبل إجباره على الانضمام إلى قواتهم. يبذل في الحرب جيداً وينال ثقة الحكومة الهولندية فتنتدبه لكي يتجسس على أرستقراطي آيرلندي كان انتقل للعيش في هولندا. يكشف للآيرلندي (بدافع العاطفة الوطنية) حقيقة أمره ويتسللان هاربين إلى بريطانيا، حيث يمارسان لعب القمار ويكوّنان ثروة لا بأس بها.‬
على تلك الطاولة الخضراء يتبادل نظرات الإعجاب مع الكونتيسة الثرية ليندون (ماريسا بيرنسون) وينتهي الأمر لا بالزواج منها فقط، بل باستخدام اسمها وصرف أموالها على ملذاته ومعاداة ابنها (من زواج سابق) ما ينتج منه تحدي ذلك الابن لردموند باري ليندون بمبارزة مسدسات تنتهي بإصابة ردموند باري برصاصة تمزق عظام ساقه فيتم بترها.‬
فقط النهاية الختامية لكل ما سبق مزعجة في هذا الفيلم المصمم والمُهندَس بعناية فائقة ليجسد كل ما يحاول كوبريك تجسيده من مضامين اجتماعية ساخرة. إنها حياة شاب بدأت من الحضيض ودارت حول نفسها فارتفع معها ثم هوى بها إلى الحضيض مرّة أخرى. الفيلم ينتهي بمشهد الكونتيسة توقع على مستندات دفع بينها ورقة بقيمة 500 إسترليني تُدفع لباري سنوياً حسب الاتفاق الذي فرضه ابنها عليه. نظرة تأمل حزينة تعلو وجه الكونتيسة قبل أن تواصل عملها ذاك.‬
يحافظ كوبريك على دور المعلق الوارد في الرواية (أداه جيداً مايكل هوردرن) ويمنح الفيلم نبضاً واقعياً موظفاً رايان أونيل بعناية. هو لم يكن ليختار أونيل، الوسيم أولاً والممثل ثانياً، لولا أن شركة وورنر الممولة فرضت عليه ذلك. كوبريك وافق بعدما توسم أنه يستطيع استغلال تلك الوسامة وحدها. نلحظ ذلك من خلال عدم الطلب من أونيل تفعيلاً درامياً لشخصيته أو لدوره. بذلك أبقاه الشخص ذاته من دون بلورة إلا عند النهاية عندما يزداد وجهه حزناً حين إدراكه ما انتهى إليه.‬
تصوير جون إلكوت من بين تلك المرّات التي تتحوّل فيها اللقطات إلى لوحات رائعة. وهناك إتقان في محاولة التماثل بين رسومات القرن الثامن عشر واللقطات الرائعة التي التقطها إلكوت داخلياً وخارجياً. في واقعه، فإن الفيلم ذا الساعات الثلاث هو سلسلة من لوحات جميلة مستمرة من بدايته حتى نهايته. وهذا ليس غريباً من مخرج يعنى بتحويل أعماله إلى كلاسيكيات، كل حسب نوعه. يعتني بالتفاصيل سواء أكانت ستظهر أمام الكاميرا أو خلفها. ‬
في السياق ذاته، استخدم كوبريك مقطوعات من شوبرت وفيفالدي وباخ وموتزارت لا داخل الفيلم لمصاحبة أجوائه فقط، بل في مواقع التصوير لكي يتيح للممثلين معايشة الأجواء التاريخية على نحو أفضل.‬


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
TT

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

بعد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك. «لا يهم»، تقول: «على الأفلام التي تعني لنا شيئاً أن تشقّ طريقاً للعروض ولو على مدى سنة أو أكثر».

فيلمها الأخير «حدود خضراء» نال 24 جائزة صغيرة وكبيرة واجتاز حدود نحو 30 دولة حول العالم. ترك تأثيراً قوياً منذ افتتاحه في المهرجان الإيطالي، حيث نال جائزةَ لجنة التحكيم الخاصة وفوقها 8 جوائز فرعية.

مردّ ذلك التأثير يعود إلى أن الفيلم (بالأبيض والأسود) تحدّث عن مهاجرين سوريين (ومهاجرة من أفغانستان) علِقوا على الحدود بين بروسيا وبولندا، وكلّ حرس حدود كان يسلبهم شيئاً ومن ثمّ يعيدهم إلى حيث أتوا. الحالة لفتت نظر جمعية بولندية أرادت مساعدة هؤلاء الذين تناقص عددهم بعدما اختفى بعضهم وسُجن آخرون. الدراما كما قدّمتها هولاند (75 سنة حالياً) نابعة من مواقف ونماذج حقيقية وأحداثٍ وقعت عالجتها المخرجة بأسلوب تقريري غير محايد.

نقطة حياة: «حدود خضراء» (مترو فيلمز)

لحظات إنسانية

> حال مشاهدتي لفيلم «حدود خضراء» في «مهرجان ڤينيسيا» خطر لي أنه يلتقي مع أفلام سابقة لكِ تناولت قضايا مهمّة وحادّة مثل «يوروبا، يوروبا» و«الحديقة السّرية» و«أثر» (Spoor) الذي عُرض في «برلين». كيف تُصنّفين أفلامك؟ وكيف تختارين قضاياها؟

- أفلامي السابقة تنوّعت كثيراً في موضوعاتها باستثناء أنني قصدت دوماً تناول ما اعتقدت أنه أجدى للمعالجة. والأفلام التي ذكرتها هي بالنسبة لي من بين أهم ما أخرجته. اخترتها لجانبها الإنساني أو، أُصحّح، لقضاياها الإنسانية. اخترتها لأن الأحداث وقعت في لحظات تاريخية ليست فقط مهمّة، بل هي لحظاتٌ بدت فيها الإنسانية بمنحدرٍ. هناك كثيرٌ ممّا يحدث في هذا العالم، وما حدث سابقاً يشكّل صدمة لي ولملايين الناس والفيلم هو صلتي مع هذه الأحداث. رأيي فيها.

«حدود خضراء» الفرار صوب المجهول (مترو فيلمز)

> «حدودٌ خضراء» هو واحد من أفلام أوروبية تناولت موضوع المهاجرين، لكن القليل منها انتقد السّلطات على النحو الذي ورد في فيلمك.

- أنا لست في وارد تجميل الأحداث. ولا أريد الكذب على المشاهد وأقول له إن ما تعرّض له مهاجرون مساكين على الحدود التي لجأوا إليها بحثاً عن الأمان غير صحيح، أو أنه حدث في شكل محصور. ومهنتي هذه استخدمها لقول الحقيقة، ولأفيد المشاهد بما أصوّره ولا يمكنني الكذّب عليه أو خداعه. ما شاهدته أنتَ على الشّاشة حصل وربما لا يزال يحصل في دول أوروبية أخرى.

نحو المجهول

> كيف كان رد فعل الجمهور البولندي حيال فيلمك؟

- إنها تجربة مهمّة جداً بالنسبة لي. سابقاً كان هناك حذرٌ من قبول ما أقدّمه لهم من حكايات. كثيرون قالوا إن هذا لا يمكن أن يحدث. نحن في أوروبا والعالم تغيّر عمّا كان عليه. والآن، مع هذا الفيلم، وجدتُ أن غالبية النّقاد وقراء «السوشيال ميديا» يوافقون على أن هذا يحدث. هناك من يأسف وهناك من يستنكر.

> نقدُك لحرس الحدود البولندي والبروسي في هذا الفيلم يؤكّد أن المعاملة العنصرية لا تزال حاضرة وربما نشطة. اليمين في أوروبا يجد أن طرد اللاجئين الشرعيين أو غير الشرعيين بات أولوية. صحيح؟

- نعم صحيح، لكن الاكتفاء بالقول إنه موقف عنصريّ ليس دقيقاً. نعم العنصرية موجودة ولطالما كانت، وعانت منها شعوب كثيرة في كل مكان، ولكن العنصرية هنا هي نتاج رفض بعضهم لقاء غريبٍ على أرض واحدة، هذا رفض للإنسانية التي تجمعنا. للأسف معظمنا لا يستطيع أن يمدّ يده إلى الآخر في معاملة متساوية. الحروب تقع وتزيد من انفصال البشر عن بعضهم بعضاً. ثم لديك هذا العالم الذي يسير بخطوات سريعة نحو المجهول في كل مجالاته.

> هل تقصدين بذلك التقدم العلمي؟

- بالتأكيد، لكني لست واثقة من أنه تقدّمَ حقاً. الذكاء الاصطناعي؟ هذا وحده قد يذهب بما بقي من ضوابط أخلاقية ومجتمعية. أعتقد أن التأثير الأول لذلك أننا نعيش في زمن نعجِز عن فهم تغيّراته، والنتيجة أننا بتنا نهرب إلى حيث نعتقده ملجأً آمناً لنا. نهرب من التّحديات ونصبح أكثر تقوقعاً معتقدين أن ذلك خير وسيلة للدفاع عن مجتمعاتنا.

ضحايا

> عمَدتِ في «حدود خضراء» إلى تقسيم الفيلم إلى فصول. هذا ليس جديداً لكنه يطرح هنا وضعاً مختلفاً لأننا ننتقل من وضع ماثلٍ ومن ثَمّ نعود إليه لنجده ما زال على حاله. ما الذي حاولتِ تحقيقه من خلال ذلك؟

- هذه ملاحظة مهمّة. في الواقع هناك قصصٌ عدة في هذا الفيلم، وكل شخصية تقريباً هي قصّة قابلة للتطوّر أو التوقف. وهناك 3 فرقاء هم الضحايا والمسعفون ورجال السُّلطة. بعضُ هذا الأسلوب المطروح في الفيلم مشتقٌ من العمل الذي مارسته للتلفزيون وهو يختلف عن أسلوب السّرد السينمائي، وقد اعتمدت عليه هنا لأنني وجدته مناسباً لفيلمٍ يريد تقديم الأحداث في شكلٍ ليس بعيداً عن التقريرية.

> هناك أيضاً حربٌ أوروبية دائرة على حدود بولندا في أوكرانيا. هل يختلف الوضع فيما لو كان أبطال فيلمك أوكرانيين هاربين؟

- نعم. يختلف لأنّ الرموز السياسية للوضع مختلفة. البولنديون يشعرون بالعاطفة حيال الأوكرانيين. السلطات لديها أوامر بحسن المعاملة. لكن هذا لم يكن متوفراً وليس متوفراً الآن للاجئين غير أوروبيين.