أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

يقودها الفرنسيون في الساحل... وحضور قوي «غير معلن» للأميركيين

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب
TT

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

عندما كانت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها يوقفون عملياتهم العسكرية ضد ما يسمى تنظيم «داعش» في سوريا والعراق ويستعدون أيضاً للانسحاب من أفغانستان، تلك الساحة السابقة لحرب شرسة ضد الإرهاب بدأت منذ عمليات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عندما كان كل ذلك يحدث وتخبو جذوة الحرب العالمية على الإرهاب في الشرق الأوسط، توجهت الأنظار نحو القارة الأفريقية على أنها المركز الجديد لهذه الحرب.
-

تعد أفريقيا واحدة من أكثر مناطق العالم فقراً، كما تنتشر فيها الأمية بمعدلات مهولة، ويعاني كثير من سكانها من انتشار أمراض قاتلة مثل الملاريا والإيدز وفيروس إيبولا، ومع انتشار الفقر والمرض والجهل تصبح أفريقيا بيئة خصبة لنمو وانتشار التنظيمات الإرهابية، خصوصاً إذا أضفنا لما سبق انتشار الظلم الاجتماعي وغياب الديمقراطية وتغلغل الفساد في أغلب الدول، وانعدام أفق بالنسبة للشباب الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان القارة.
ولكن في المقابل تشكل القارة البِكرُ ساحةً للصراع بين القوى العالمية بحثاً عن موطئ قدم في قارة لا تزال خصبة للاستثمار، وبحثاً عن نصيب من ثرواتها الهائلة التي لا تزال نائمة تحت باطن الأرض، كالنفط والغاز واليورانيوم والذهب، كل ذلك يجعلها في مرمى التنظيمات الإرهابية الساعية لضرب المصالح الغربية، خصوصاً أن هذه التنظيمات تستغل موقع القارة على ممرات تهريب المخدرات من أميركا الجنوبية نحو أوروبا، للدخول في شبكات التهريب من أجل تمويل أنشطتها الإرهابية.
مئات المقاتلين الأجانب فروا من ساحة المعارك الطاحنة في سوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة. ويقول تقرير جديد صدر مطلع شهر مارس (آذار) الحالي عن مركز التفكير الأميركي حول الأمن «ستراتفور»، إن عدداً كبيراً من هؤلاء المقاتلين توجه نحو القارة الأفريقية، ويشير التقرير إلى أن أفريقيا هي «الساحة الجديدة للحرب على الإرهاب».
يوضح التقرير أن في العام الماضي كان هنالك «تزايد ملحوظ» في أعداد المقاتلين الأجانب الذين دخلوا الأراضي الأفريقية والتحقوا بجماعات متشددة تسعى جميعها إلى إقامة دويلات للتطرف على غرار ما قام به «داعش» في سوريا والعراق، ويشكل هؤلاء المقاتلون «خطراً حقيقياً» على القارة السمراء.
كثير من الدول الأفريقية أخذت هذه التحذيرات على محمل الجد، وضاعفت من إجراءاتها الأمنية في المطارات ونقاط العبور الحدودية، لمنع عبور أي مقاتل محتمل داخل أراضيها، وتم وضع كثير من الجنسيات ضمن قائمة «سوداء» يتم التعامل مع مواطنيها بحذر شديد، على غرار ما قامت به الحكومات في السنغال وموريتانيا وغينيا، بينما فضلت دول كثيرة أخرى تعزيز مستوى التعاون الأمني مع تركيا، البلد الذي يشكل محطة عبور رئيسية لنسبة كبيرة من المقاتلين الأجانب، بعد الخسائر الكبيرة التي تتعرض لها الجماعات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط.
قد لا تكون أفريقيا بالاهتمام ذاته الذي تحتله منطقة الشرق الأوسط ضمن الأجندات العالمية، بصفتها منطقة حيوية في مجال إنتاج ونقل الطاقة بشكل عام والنفط بصفة خاصة، ولكن تبقى القارة الأفريقية واحدة من أهم المناطق الحيوية في العالم، ولا تزال ثرواتها «غير مكتشفة» ما جعلها محط أنظار كثير من الشركات العالمية المختصة في مجال التنقيب عن النفط والغاز، في إطار البحث عن بديل لمنطقة الشرق الأوسط المزدحمة، كما أن منطقة شمال وغرب أفريقيا المهددة بالإرهاب هي امتداد للأمن القومي في القارة الأوروبية التي لا تبعد عن عواصمها سوى مئات الكيلومترات.
لذا فإن عوامل كثيرة تجذب القوى العالمية لخوض الحرب على الإرهاب في أفريقيا، وإن كانت هذه القوى تنخرط في هذه الحرب بمستويات متفاوتة حسب مصالحها، ومناطق وجود هذه المصالح، فعلى سبيل المثال تركز الولايات المتحدة الأميركية أنشطتها ضد الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي القريبة من مضيق باب المندب الفاصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو واحد من أكثر المناطق أهمية من الناحية الاستراتيجية، وله تأثير كبير في حركة الملاحة العالمية، وتستخدم الولايات المتحدة قاعدتها العسكرية في جيبوتي (توصف بأنها أكبر قاعدة عسكرية لطائرات الدرون في العالم) لمواصلة الضغط على «حركة الشباب» و«داعش» في الصومال.
في غضون ذلك، تفضل قوى عالمية أخرى خوض الحرب على الإرهاب في مناطق أخرى من القارة، على غرار فرنسا التي تخوض منذ أكثر من 6 سنوات حرباً شرسة ضد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذي ينشط في منطقة الساحل الأفريقي، وهي منطقة نفوذ حيوي بالنسبة لفرنسا وتوجد بها مصالح فرنسية كبيرة، من أبرزها مناجم اليورانيوم في شمال النيجر.
دول أوروبية أخرى كثيرة تخوض الحرب على الإرهاب في أفريقيا، إما بالتحالف مع الفرنسيين أو الأميركيين، بينما يتزايد بقوة النفوذ الروسي والصيني في القارة، وهو نفوذ اقتصادي في البداية، ولكنه يتجاوز ذلك ليصبح نفوذاً أمنياً وعسكرياً مع توقيع اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري مع الحكومات المحلية لمحاربة «الإرهاب».
منذ أن بدأ كثير من مناطق القارة الأفريقية يقع تحت براثن الجماعات المتشددة، كان كثيرون يتوقعون أن القارة تحتاج لسنوات حتى تحتل صدارة الاهتمام فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب، بينما تشير الأرقام إلى أن أفريقيا قد تحولت بالفعل إلى مركز لهذه الحرب، وهي الآن في قلب الإعصار وفي صدارة الاهتمام الدولي، ذلك ما يؤكده تقرير صادر مطلع العام الحالي عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية.
ويقول المركز في تقريره الجديد إن «الحرب العالمية ضد الإرهاب في أفريقيا» تجري على 4 جبهات رئيسية هي: الصومال، وحوض بحيرة تشاد، والساحل (وسط مالي والمناطق الحدودية)، ومصر، ويزيد المركز الأفريقي معززاً هذه المعطيات بأرقام تكشف أن عدد الجماعات المتشددة قد تضاعف في أفريقيا خلال العام الماضي (2018)، وهي زيادة تعود في أغلبها إلى عمليات انشقاق وتصدع في صفوف هذه الجماعات.
وقال المركز إن 13 دولة أفريقية واجهت خلال العام الماضي هجمات إرهابية يومية، فيما تراجع عدد ضحايا الإرهاب في القارة بنسبة 12 في المائة بالمقارنة مع حصيلة الضحايا خلال عام 2017، وبنسبة 50 في المائة بالمقارنة مع الحصيلة في عام 2015، ويعود هذا التراجع الكبير إلى انخفاض معدل هجمات جماعة «بوكو حرام» في شمال نيجيريا، التي انخفض عدد ضحاياها العام الماضي بنسبة 35 في المائة، كما تقلص عدد القتلى الذين أسقطتهم حركة الشباب الصومالية بنسبة 15 في المائة، أما «داعش» فقد تراجع عدد ضحاياه بنسبة 21 في المائة.
خلال العام الماضي، تراجعت الهجمات الإرهابية التي شنتها «بوكو حرام» بنسبة 25 في المائة، بينما تضاعفت 3 مرات الهجمات التي شنتها «الدولة الإسلامية في أفريقيا الغربية»، وهي جماعة منشقة عن «بوكو حرام» أعلنت عام 2015 مبايعة «داعش»، وسحبت البساط بشكل شبه كامل من تحت التنظيم القديم «بوكو حرام»، رغم أنها لا تزال تحمل اسمه في كثير من الأحيان، وقد شن هذا التنظيم خلال العام الماضي 83 هجوماً إرهابياً، بزيادة كبيرة بالمقارنة مع العام قبل الماضي (2017) الذي شن فيه التنظيم 27 هجوماً فقط، فيما ارتفعت حصيلة قتلى التنظيم بنسبة 58 في المائة.
أما «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وحلفاؤه الذين ينشطون في منطقة الساحل والصحراء، فقد سجلوا أكبر نسبة زيادة في العمليات الإرهابية خلال العام الماضي، حين تضاعفت هجماتهم من 144 هجمة خلال 2017 لتصل في 2018 إلى 322 هجمة، فيما تضاعف عدد الضحايا من 366 قتيلاً خلال عام 2017 ليصل في 2018 إلى أكثر من 611 قتيلاً، كما زاد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وحلفاؤه من اتساع الرقعة الجغرافية التي ينشطون فيها، لتشمل بالإضافة إلى شمال ووسط مالي، مناطق من بوركينا فاسو والنيجر.

بوركينا فاسو تشهد أخيراً أكبر عدد من الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل، وأصبحت توصف بأنها الحلقة الأضعف من بين دول الساحل، إذ تضاعف عدد الهجمات الإرهابية على أراضيها، وهي هجمات في أغلبها من تنفيذ مقاتلين تابعين لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وآخرين من «تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى»، وقد ارتفعت هذه الهجمات من 34 هجوماً خلال 2017 لتصل العام الماضي إلى 136 هجوماً.
أما في منطقة شمال أفريقيا، فقد بقيت أنشطة تنظيم «داعش» على حالها خلال العام الماضي، إذا لم تشهد أي زيادة أو نقصان بالمقارنة مع 2017، فيما تمثل الهجمات التي يشنها «تنظيم داعش في سيناء» نسبة تتزايد، حيث شن التنظيم في سيناء 283 هجوماً من أصل 344 هجوماً شنتها جميع فروعه في القارة.
اللافت في الإحصائيات الصادرة عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، هو ارتفاع وتيرة الهجمات الإرهابية التي شنها تنظيم «داعش» في شمال موزمبيق، الذي يطلق عليه محلياً «تنظيم الشباب»، وشن هذا التنظيم الصاعد خلال العام الماضي 55 هجوماً راح ضحيتها 164 قتيلاً.


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».